إعداد القوَّة وأخذ الأُهْبة للأعداء

 

قال الله سبحانه و تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ] {الأنفال:60}.

لقد أرسلَ اللهُ سُبحانه رسلَه مُبشِّرين ومنذرين وهادين إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، وأنزلَ معهم الكتابَ والميزان ليقومَ الناسُ بالقسط وتسودَ بينهم الرحمة والألفة والإخاء، والشرائع لابد لها من قوَّة تُؤيِّدها وتشدُّ أزرها، وإلا كان الحق بين الناس مُضَيَّعاً، والظلمُ بينهم فَاشياً، ولأمر ما عَقَّبَ اللهُ ذكرَ إنزال الكتب السماوية مع الرسل بذكر إنزال الحديد الذي هو رمز القوة والبأس، فقال عز من قائل: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحديد:25}.

ولأجل أنَّ الحقَّ لابد له من قوَّة تنصره وتُزيل العقبات التي تعترضُ طَريقه وتكفلُ له الانتشار والغلبة شرع اللهُ الجهاد في سبيل العقائد الصحيحة والمبادئ الفاضلة والحصول على الحقوق المغتصبة، وجعله من أفضل القُرُبات إلى الله تعالى، وجعل الاستشهادَ في سُبُل الحقِّ والحقوق وسيلةً لحياة أبدية خالدة، والتقلب في النعيم المقيم في جنات عرضها السموات والأرض أُعدَّت للمتقين، وصدق الله: [وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {آل عمران:169-170}.

ولا عجب – والحال كما سمعت – أن أمر الله سبحانه عباده المسلمين أن يُعِدُّوا للكفار المُفسدين في الأرض – ببطرِهم الحقَّ وغَمْطهم النَّاسَ حقوقهم – كل ما يُهيئ للمسلمين العزَّة والغلبة عليهم، ويجعل شريعتهم هي السائدة على وجه الأرض، فقال سبحانه: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ] {الأنفال:60} فعلى المسلمين أن يبذلوا غايةَ الوسع في تحصيل أسباب القوَّة ووسائل العزَّة والمَنَعة من الانتظام في سبيل الجُنْديَّة، وتعلُّم الفنون الحربيَّة، وإنشاء المصانع التي تُنتجُ شتَّى الأسلحة، والتدرُّب على استعمالها، وبناء المسالح والمرابطة في الثغور، وبذلك تُصان حقوقُ المسلمين ويُهابُ سلطانُهم في الأرض. 

ومن أسرار إعجاز الآية الكريمة أن يأتي أسلوبها على هذا الوضع من التعبير باللفظ المَرِن الصالح لكل زمان ومكان، فلكلِّ جيلٍ وعَصْر أن يُفَسِّر القوَّة بما هو أفضل وأولى وأنفع لإظهار شوكة المسلمين ومَنَعتهم.

وقد روى الإمام أحمد والإمام مسلم وغيرهما عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: ([وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ] ألا إنَّ القوَّة الرمي (ثلاثاً).

ومن العجيب أن يَأتي التفسير النبوي كالآي القرآني مَرانةً وصلاحيةً؛ لأنْ تُفَسِّره الأجيالُ المتلاحقة بما يُحقِّق الغرضَ ويَفِي بالحاجة، فإن فهمت منه الرمي بالسهام والنبال والحراب كما كان في العصر الأول فأنت صادق، وإن فهمت منه الرمي بالرصاص والمدافع والقنابل وكل ما استحدث من أنواع الدمار والهلاك فلا تعدو الحقيقة، ومثل هذه الأسرار في التعبير لن تجدَها إلا في كلام ربك عالم الغيب والشهادة، وكلام نبيِّه الذي لا يَنطق عن الهوى.

ومعنى رباط الخيل إعدادها وإقامتها للجهاد في سبيل الله، وفي معنى الخيل إعداد كل ما استجدَّ من سيارات مُصَفَّحة ودبَّابات وجرَّارات وطائرات، ونحو ذلك مما تتطلبه الحروب الحديثة، وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ، فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»، وفي الصحيح أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ) [أخرجه البخاري ومسلم]، وعلى تقدم الحروب ومعدَّاتها لا يزالُ للخيل مكانها في الحروب، ولا سيما في الجهات الوعرة والجبلية والدروب الدقيقة.

والإسلام لا يقصد بأخذ الأُهْبة والاستعداد بتحصيل أسباب القوة إرهابَ الآمنين المسالمين وإزهاق أرواحهم وانتهاك أعراضهم وسلب حُريَّاتهم، وغَصْبَ أموالهم كما تفعل دولُ الاستعمار الغاشمة اليوم، وإنَّما يقصدُ إرهابَ أعداء الله وأعداء الإنسانية الذين لا يُقيمون للمعاني الفاضلة وزناً، ولا يرهبون إلا السيف والمدفع، ولو خلوا وشأنهم لملأوا الأرضَ جَوْراً وفَسَاداً. 

فإعداد العدَّة إنَّما هو بمثابة الزجر والتخويف وكبت دوافع الشر في نفوس أعداء الله وأعداء السلام والأمان، فإذا ما استهانوا بالفضائل والحقوق، وسوَّلت لهم نفوسهم التعدِّي، وَجَدوا القوَّة لهم بالمرصاد، فترد كيدهم في نحورهم وتوقفهم دون الحصولِ على شهواتهم، وهذا هو المراد بقوله تعالى: [تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ] {الأنفال:60} وصدق الله، فكم من دولة تستَّرت بستار الصداقة للمسلمين ثم أظهرت الحوادثُ والأيام سوءَ نيَّتها وخُبْث طَويَّتِها، وكم من قومٍ يُظهرون المسالمة حتى إذا ما واتتهم الفرصة ووجدوا من أنفسهم قوَّةً كانوا حرباً على الإسلام والمسلمين.

ولما كان إعدادُ العدَّة والتسلُّح يَقْتَضي أموالاً طائلة قد لا يفي بها بيتُ المال (الخزانة العامة) ناشدَ الله تعالى المسلمين البذلَ والعطاء، ووعدهم الثواب في الدنيا ويوم الجزاء، فقال سبحانه: [وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ] {الأنفال:60}. ومن قصَّر في هذا الواجب فقد عَرَّض نَفْسَه وأمَّته للهلاك، وصدق الله جلَّ وعلا: [وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {البقرة:195}.

لقد حاربَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم – وهو المؤيَّد بالوحي والمعجزات – واستترَ بالمِجَنِّ، ولَبِس المِغْفَر والبِيض، وكان إذا حَمِي الوطيس واحمرَّت الحِدَق لم يكن أحدٌ أقربَ إلى الأعداءِ منه.

وفي غزوة أُحد لما جاء أُبَيُّ بنُ خلف يقول: أين محمد لا نجوتُ إن نجا، أخذ رسو الله صلى الله عليه وسلم الحَرْبة ممن كان بجواره، ثم أحكم تصويبها نحوه، فنالت منه مقتلاً. 

وأخذ هو وأصحابه في أسباب العزة والقوة وكثيراً ما استمع إلى مَشورة من يُشيرُ عليه بالصَّواب في فُنون القتال، فقَبِل مَشُورة الحُبَابِ بن المنذر رضي الله عنه في بدر، وفي غزوة الخندق أشارَ عليه سلمان رضي الله عنه بحفر الخندق، فاستصوب الفكرة وساهمَ في الحَفْر، واستعمل الصحابة رضي الله عنهم المنجنيق والدبابات في لقاءِ الأعداء، ولم يدعوا وسيلة للقوة والغلبة إلا فعلوها، وكثيراً ما كان يتدرَّبون على فُنون الحرب والقتال، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يشهد ذلك ويقوي فيهم هذه النزعة الكريمة، بل ويُشاركهم أحياناً، فما بالنا وهذا هو هدي كتابنا وسنة نبينا قد تقاعسنا عن أخذ العُدَّة والأُهْبَة حتى تخلَّفْنا عن ركب الأممِ القويَّة، وأصبحنا لا يُقام لنا وزن في السياسة الدولية، وطمع فينا من لا يكاد يُدافع عن نفسه.

نعم إنَّ للدولة المستعمرة لبلادنا المُغتصبة لحقوقنا ضلعاً كبيراً في هذا التخلُّف في مضمار القوة، ولكنا لا نخلي من كانوا يتولَّون مقاليدَ الحكم والأمور من التَّبِعَاتِ الجِسَام، فقد كانوا لعباً في يد المستعمر يحركهم كيف يشاء، وكان بريق الأصفر الرنَّان وسراب الحكم الخادع يُفسد الذِّممَ والضمائر، ويقضي على كل حركة للإصلاح.

والآن فلنتدارك ما فاتَ فإنَّنا في عصر لا يُرهب فيه إلا الأقوياء، والقوَّة لا تُدفع إلا بالقوَّة، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وإذا اجتمع إلى الإيمان الذي يَعْمُر القلوب القوة هانتْ كل الصِّعَاب، ولا يحول دونَ ما نُريد حائل مهما كانت قُوَّته، فلنتذرع مع الأخذِ في أسباب القوَّة بالإيمان القوي والتقوى العامَّة الشاملة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة الأزهر (المجلد 25 صفر 1373هـ)، الجزء 2.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين