إعجاز القرآن الكريم كيف نفهمه

قرأت في زماني كتبا كثيرة تتعلق بموضوع الإعجاز القرآني، سواء أكانت هذه الكتب للمتقدمين أم للمتأخرين، ولم أر فيما قرأت أدق من كتابة الإمام عبد القاهر الجرجاني إذ سمى كتابه دلائل الإعجاز ولم يسمه إعجاز القرآن كما فعل كثيرون غيره ممن كانوا قبله أو ممن جاء بعده.

وقد أكثر الكاتبون في تعداد ما سموه وجوه الإعجاز القرآني من مثل: كونه من عند الله-أو الإعجاز البياني-أو الإعجاز بالنظم-أو الإعجاز التشريعي -أو الإعجاز التاريخي-أو الإعجاز الغيبي-أو الإعجاز العلمي-أو الإعجاز النفسي-أو ما سموه تأثير الكلام في القلوب-أو ما سموه الإعجاز البلاغي-أو الإعجاز اللغوي- أو الإعجاز النحوي-أو الإعجاز الصرفي وغيرها من المسميات التي لقيت أخذا وردا، قبولا ورفضا، وكتب الإعجاز ناضحة بذلك.

ولا أريد مناقشة هذه الوجوه إذ كلها بلا استثناء ليست هي وجوه الإعجاز القرآني ولكن وجودها مجتمعة في القرآن دليل على الإعجاز، على معنى أنها ليست هي المعجزة وإنما الدليل على الإعجاز، وأشهر الوجوه التي ذكرها العلماء المتقدمون هو الإعجاز البياني أو الإعجاز بالنظم، ولكنك لو قرأت في الكتب التي تحدثت عن هذين الوجهين تجد أن خلاصة ما يريدون بيانه هو الحديث عن قضايا البلاغة في القرآن، ومعلوم لدى المدقق أن قضايا البلاغة في القرآن وإن كانت عامة في كل سورة بل في كل جملة من القرآن، إلا أنها ليست هي المعجزة، إذ كل الوجوه البلاغية كانت مشهورة ومعروفة لدى العرب، فهل يعني هذا أن هذه الأساليب البلاغية التي كان يتكلم بها العرب لم تكن معجزة، ولما حواها القرآن صار القرآن بها معجزا؟ أو صارت هي معجزة في القرآن الكريم؟

هذا سؤال ينبغي على كل متدبر للقرآن أن يسأله، ولا شك عندي أن اجتماع هذه التي سموها وجوه الإعجاز يعزز فكرة إعجاز القرآن في النفوس ولا يدل بحال على أن إعجاز القرآن فيها فقط.

والذي ينبغي توجه الكلام للبحث فيه هو أن إعجاز القرآن ببيانه، لكن ما معنى البيان؟ بالتأكيد البيان هنا ليس المراد به ما عرف في علوم البلاغة تحت مسائل علم المعاني ومسائل التشبيه والاستعارة والكناية والبديع، إنما المراد بالبيان درجة الوضوح في إيصال المعنى، على معنى أن أي إنسان حين يتكلم بكلام ويسمعه غيره إنما أراد بالكلام أن يصل إلى المستمع بدرجة ما، فقد تكون درجة قليلة أو مرتفعة بحسب الصياغة التي كان الكلام منتظما بها، وقد تتفاوت درجة إيصال المعنى بين شخص وشخص، لكن أن يوجد في الدنيا شخص يتكلم بكلام تكون درجة الوضوح والبيان فيه مئة بالمئة فهذا إن كان في بعض الجمل فلا يشمل الكلام كله، ولكن في القرآن تبلغ درجة الوضوح والبيان على المعنى المراد في كل جملة -متمثلة في اختيار حروفها وكلماتها وتركيبها- تبلغ درجة الوضوح الحد الأعلى في جميع القرآن، يعني ما من جملة في القرآن ولا تركيب ولا قصة ولا تشريع ولا سورة بأكملها إلا كانت درجة الوضوح في المعنى المراد إيصاله للمكلفين تساوي مئة بالمئة، وهذا يعني أن كل قارئ للقرآن يجد هذا الوضوح فيه على اختلاف المستوى الذي هو عليه، فإن كان قاصرا توجه إلى من يوضح له المعنى فيصل إلى هذه الدرجة في نفسه، ولا شك أن ما ذكره العلماء هو الذي دل على هذا المعنى فتلك دلائل الإعجاز والإعجاز في البيان بمعنى وصول المعنى إلى النفس بأعلى درجات الوصول، وهذا ما يرشد إليه قول الله تعالى: (ولقد يسرنا القران للذكر فهل من مدكر)، والله أعلم.

اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد

تلك نفثة مصدور على صفحة تملؤها السطور

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين