إطلالة على أسلوب الحكيم في الحديث النبوي

ويُقال: جواب الحكيم؛ وهو أن تجيب السائل بما ينفعه ويصلحه، وبما يعرفه ويناسبه، وهو أحد صور البلاغة والبيان الناصع لكونه يراعي أحوال السائلين وحاجاتهم وما هو أهم بالنسبة لهم، جاء هذا الأسلوب في كتاب الله تعالى وهو كثير ومنه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، فذكر في الجواب منافع الاهلة لأن هذا هو الاهم. ثم لمراعاة معارفهم العلمية .

 

   وجاء في سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمن ذلك من السنة:

1- عن أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أخرجه البخاري، ومسلم .

   وهذا أسلوب الحكيم - فلم يُعدد عليه الأغراض التي لا تكون في سبيل الله لكثرتها، وإنما حصر له الجواب في تحديد من هو في سبيل الله عز وجل.

 

2- قال البخاري: بَاب مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ

134 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوْ الزَّعْفَرَانُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ ...)

   هذا الجواب هو أيضا "جواب الحكيم" فإن الأصل في الجواب مطابقة السؤال، وهنا أفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل -وغيره- بزيادة على مطابقة الجواب، وهو ما لا يلبس الْمُحرِم .

   قال النووي: قال العلماء: هذا من بديع الكلام وجَزْلِه، فإنه صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبسه الْمُحْرِم، فقال: لا يلبس كذا وكذا، فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات ويلبس ما سوى ذلك، وكان التصريح بما لا يلبس أولى لأنه مُنْحَصِر، وأما الملبوس الجائز للمحرم فغير منحصر، فضبط الجميع بقوله صلى الله عليه وسلم: لا يلبس كذا وكذا، يعنى ويلبس ما سواه

 

3- عَنْ أنَس بْنِ مَالِك، قَالَ: جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ الله مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ: وَما أَعْددتَ للِسَّاعَةِ ؟ قَالَ: حُبًّ اللهِ وَرَسولِهِ . قَالَ: "فَإِنًّكَ مَعَ مَنْ أحْبَبْتَ) صحيح البخاري(522) وصحيح مسلم 163:

   قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: سَلَكَ مَعَ السَّائِل أُسْلُوب الْحَكِيم، وَهُوَ تَلَقِّي السَّائِل بِغَيْرِ مَا يَطْلُب مِمَّا يُهِمّهُ أَوْ هُوَ أَهَمُّ .

     وقال العيني: قوله ما أعددت لها من أسلوب الحكيم.

 

4- عن عائشة قالت كان رجال من الأعراب جُفاة يأتون النبي فيسألونه متى الساعة فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: (إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم) صحيح البخاري: 84

قال الكرماني: يريد بساعتهم موتهم وانقراض عصرهم، إذ من مات فقد قامت قيامته، وكيف والقيامة الكبرى لا يعلمها إلا الله عز وجل

 فإن قلت: السؤال عن الكبرى والجواب عن الصغرى فلا مطابقة ؟

قلت: هو من باب أسلوب الحكيم. معناه دعوا السؤال عن وقت القيامة الكبرى فإنها لا يعلمها إلا الله عز وجل واسألوا عن الوقت الذي يقع فيه انقراض عصركم فهو أولى لكم لأن معرفتكم إياه تبعثكم على ملازمة العمل الصالح قبل فوته لأن أحدكم لا يدري من الذي يسبق الآخر

 

5- حديث ( إِنَّمَا الصَّبْر عِنْد الصَّدْمَة الْأُولَى )

    قال الحافظ: وَالْمَعْنَى إِذَا وَقَعَ الثَّبَات أَوَّل شَيْء يَهْجُم عَلَى الْقَلْب مِنْ مُقْتَضَيَات الْجَزَع فَذَلِكَ هُوَ الصَّبْر الْكَامِل الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْأَجْر، وَأَصْل الصَّدْم ضَرْب الشَّيْء الصُّلْب بِمِثْلِهِ فَاسْتُعِيرَ لِلْمُصِيبَةِ الْوَارِدَة عَلَى الْقَلْب، قَالَ الْخَطَّابِيُّ : الْمَعْنَى أَنَّ الصَّبْر الَّذِي يُحْمَد عَلَيْهِ صَاحِبه مَا كَانَ عِنْد مُفَاجَأَة الْمُصِيبَة، بِخِلَافِ مَا بَعْد ذَلِكَ فَإِنَّهُ عَلَى الْأَيَّام يَسْلُو .

   وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ غَيْره أَنَّ الْمَرْء لَا يُؤْجَر عَلَى الْمُصِيبَة لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صُنْعه، وَإِنَّمَا يُؤْجَر عَلَى حُسْن تَثَبُّته وَجَمِيل صَبْره .

وَقَالَ الطِّيبِيّ: صَدَرَ هَذَا الْجَوَاب مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلهَا (لَمْ أَعْرِفك) عَلَى أُسْلُوب الْحَكِيم،كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: دَعِي الِاعْتِذَار فَإِنِّي لَا أَغْضَب لِغَيْرِ اللَّه وَانْظُرِي لِنَفْسِك (فتح الباري:4/326)

 أكتفي بهذه النماذج ففيها توضيح لهذا الأسلوب، نفعنا الله تعالى بالعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين