إطلاق المعتقَلين وأزمة الضمير

هل تذكرون طل الملوحي، تلك البنت البريئة التي اعتقلتها مخابرات الأسد -بغيرِ ما ذنب اجترحَته ولا جرم ارتكبته- قبل نهاية عام 2009 بأربعة أيام، ولمّا تكمل سنتَها الخامسة عشرة في هذه الدنيا؟

لقد قرر الأسد أن يطلق سراحها أخيراً (بعدما اكتشف أن الأدلة غير كافية لإدانتها بجريمة التجسس التي اتُّهِمَت بها) فنشر قومٌ منّا المنشورات وعلّقوا المعلقات في شكره وتعظيم فعله النبيل، وقالوا: ها هو الرجل قد أطلق لكم الفتاة، فقوموا فقبِّلوا الأرض بين يديه، ثم اسألوه العفو والغفران لأنكم ثُرتم عليه ولعنتموه في مواضي الأيام وسالف الزمان.

هذه ليست قصة حقيقية (فكّ الله أسْرَ طل ولعن آسريها وحرّقهم بنيران الجحيم) ولكنها ليست بعيدة عن واقع الحال ولا هي من وحي الخيال؛ إنها محاكاةٌ دقيقة لقصّة حصلت مؤخراً، لو غيّرنا فيها أسماءً بأسماء وتواريخَ بتواريخ لجاءت معنا القصة السابقة بحرفها بلا زيادة ولا نقصان!

* * *

هل سمعتم يوماً بشيء اسمه "كوميديا سوداء"؟ إنها مأساة مُلبَّسة بمَلهاة، فلا يعرف المشاهدُ: أينبغي أن يتفاعل معها بالضحك أم يتفاعل بالبكاء؟ هي كتابات في موضوعات قاسية مؤلمة تثير الحزن والغضب، يعرضها الكاتب بأسلوب ساخر يحاول أن يرسم به الابتسامة على شفاه الغاضبين والمحزونين.

هذا هو تماماً ما دار في بعض أروقة الفضاء الإعلامي خلال الأسبوعين المنصرمين على ألسنة وأقلام طائفة من أحبار الجولاني ومرقّعيه... كوميديا سخيفة بلهاء سوداء.

لم يسأل هؤلاء المرقعون المنافقون أنفسَهم: فيمَ اعتقل الجولاني ثُلّةً من أشرف قادة الجهاد وأكثرهم إثخاناً في العدو وغيّبَهم في الحبوس؟ لم يسألوا عن ثلاث سنين وثلاثة أشهر أمضاها الخولي والقنطار في المنفردات والأغلال والعذاب، ولا عن الأَسْر والقهر الذي عانى منه أبو عزام نصفَ عام وهو يتشوق للخروج والدفاع عن مدينته التي عجز البغاة عن الدفاع عنها وقرروا أن يُسْلموها للأعداء.

كل ما اهتمّوا به هو أن الجولاني مَنَّ على المعتقَلين بالإطلاق! إنهم يأمُلون منا أن نشكر الجاني على جنايته بدلاً من أن نستدعي عليه غضب الله! فإنْ ضَلّت عقولكم -يا أهل الأرض- واضطربت موازينكم فإن ميزان السماء لا يضطرب وإن رب السماء لا يضلّ ولا ينسى. لقد نُقِشَت غَدرةُ صاحبكم في سجلات السماء، فلن يمحوها تدليسُ أهل الأرض ولو اجتمعموا كلهم على التدليس، ولسوف يأتي جولانيّكم حاملاً لواء غدرته يوم القيامة فيورده النار، بئس الوارد وبئس المورود.

يومئذ تُسأَلون في حضرة مَن لا يغيب عنه علمُ الذرة من الظلم فما دونها وما فوقها من ظلمات: ما دفعكم إلى تبرير الظلم وما حملكم على الدفاع عن الظالمين؟ أعدّوا ليوم السؤال الجواب.

* * *

لقد علّمتني هذه الحادثة أن مشكلة أنصار الجولاني وشبّيحته ومريديه ومرقّعيه ليست مشكلة معلومات وتفكير، فهم يعلمون ما نعلمه ويعلمون أكثر ممّا نعلم، عندهم معلومات ولديهم عقول تدلّهم على الصحيح منها وعلى القبيح، لكنهم ليست عندهم ضمائر تجمّل لهم الصحيح وتقبّح لهم القبيح. نعم، إنها ليست أزمة معلومات وأفكار، إنها أزمة ضمير. ما حيلتُنا مع مَن يعيش بلا ضمير؟

كُفّوا عنا مدائحكم للظالمين. أتلك مِنّة تَمُنّونها علينا أنْ أطلق الظالم سراح المظلومين؟ لقد قلنا للنظام من قبل: إن ورقة المعتقلين ورقة فوق تفاوضية، فهي ليست جزءاً من أي تفاوض وليست مقدمة لأي اتفاق، إنها مجرد رَدّ حق مغصوب، أقلُّ درجاتها السكوت وأعلاها المطالبة -بعد إطلاق الأسير- بمحاكمة آسريه. وكذلك نقول للجولاني اليوم: إن إطلاق المظلومين من سجون الظلم والغدر ليست مِنّة تَمُنّها علينا ولا فضلاً تتفضل به على الثورة، فلا تَرْجُ منا أن نقبّل عليها يديك ولا تنتظر منا أن نغفر لك بها ما سلف من عدوانك وما هو آت، وما أكثرَ ما سلف منه وما أكثرَ ما هو آت!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين