إشكالية التكوين للحديث المتواتر والآحاد (1)

البحث في الشيء والحكم عليه فرع عن تصوره، ومن هنا سنقوم بتعريف هذه المصطلحات لغة، واصطلاحا وسيكون التعريف بمثابة المفتاح للبحث في إشكالية التكوين.

المطلب الأول: التعاريف اللغوية والاصطلاحية

تمهيد

قسَّم المعتزلة وجمهور متكلمي أهل السُّنة والأصوليون ومن تأثَّر بهم من المحدثين الخبرَ بجميع أصنافه إلى ثلاثة أقسامٍ: أخبار يُعلم صدقها، وأخبار يُعلم كذبها، وأخبار لا يُعلم صدقها من كذبها، فيجوز فيها الصدق والكذب(1)[1]، وأقدم من نقل- فيما رأيتُ- تقسيم الخبر إلى ثلاثة أقسام هو أبو بكر الجصاص الحنفي(ت: 370هـ) نقلا عن عيسى بن أبان الفقيه الحنفي(ت: 210) قاضي البصرة تلميذ محمد بن الحسن الشيباني (ت: 189هـ)(2)[2].

عندما نرجع إلى كتب الكلام والأصول لا نجد ما يزيد على هذه، فيكون دليل حصرها في الثلاثة هو الاستقراء، ولكن أين هذه الثلاثة في التقسيم السابقة وليس هناك إشارة إليها؟.

المتواتر هو الأخبار التي يُعلم صدقها، والآحاد هي الأخبار التي لا يُعلم صدقها من كذبها ابتداء فتحتاج إلى اختبار، ودراسة للخبر وناقل الخبر، وبعدها قد يكون الخبر صادقا، وقد يكون كاذبا، وأما القسم الثاني وهو الأخبار التي يُعلم كذبها فهي في الحقيقة ليست خبرا بالمعنى الحقيقي الذي يُمكن أنْ ينُتج معرفة، فالتسمية بالخبر هو نوع من التوسع في العبارة، وذلك مثل أن ينقل لنا شخص نعلم كذبه من غير تفكير واستنتاج كأنْ يقول لنا إن أصحاب القبور خرجوا من قبورهم أو أن الأرض فوقنا. . .

إذا أين المشهور بين هذا التقسيم الثلاثي؟.

من الواضح هنا أن هذا التقسيم لا يشمل المشهور؛ ذلك لأن المشهور كمصطلح ودلالة خاص بالحنفية من الجانب الأصولي الفقهي، أما من الجانب الكلامي العَقَدي فهم مع الجمهور في التقسيم الثنائي إلى متواتر وآحاد.

فما هو الآحاد وما هو المتواتر وما هو المشهور؟

أولا: التعاريف اللغوية:

1.                        الآحاد لغة:

الآحاد في اللغة والأُحُد جمع لكلمة أحَد وواحد(3)، والقياس أن آحادا جمعُ أحَد لا جمع واحدٍ، ولكن هذا الجمع نُظر به إلى المعنى وإلى أن كلمة واحد تستعمل بمكان أحد(4)، ولا فرق في اللغة بين الأحد والواحد، والواحد أول العدد(5)، ويُجمع الواحد أيضا على وحُدان كراكب ورُكبان(6)، ويرى أبو علي الفارسي(ت: 377ه) أنَّ لفظ واحد يأتي في كلام العرب على وجهين: إما أن يكون اسما أو وصفا، فالاسم هو المستعمل في مطلع العدد نحو واحد واثنان وثلاثة فهذا اسم ليس بوصف، كما أن سائر العدد كذلك، وأما كونه صفة نحو قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: 108]، ولمَّا جرى على المؤنث لحقته علامة التأنيث كقوله تعالى{ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) } [لقمان: 28] ومن ذلك قولهم قائم وقائمة(7).

2. التواتر لغة:

يرى ابن فارس(ت: 395ه) أنَّ الواو والتاء والراء( وَتَرَ) باب لم تجئ كلِمُه على قياس واحد، بل هي مفردات لا تتشابه، وذكر من ذلك الوتيرة وهي: غرة الفرس وتكون مستديرة، والوتيرة: شيء يتُعلم عليه الطعن والرمي، والوتيرة: المداومة على الشيء، يقال: هو على وتيرة، والوتر: الفرد، ومن ذلك المواترة، ونقل عن اللحياني وهو من علماء اللغة الكوفيين أنّ المواترة في الأشياء لا تكون مواترة إلا إذا وقعت بينهما فترة، وإلا فهي مداركة، ومنه يُقال ناقة مواترة: تضع ركبتها، ثم تمكث ثم تضع الأخرى(8).

الذي يعنينا مما تقدم عدم وجود أصل واحد ترجع إليه المعاني المأخوذة من الأحرف الثلاثة (وتر) والمعنى الذي يعنينا من الكلمات المتشابهة لهذه الأحرف هو المداومة على الشيء، وهذه المداومة أو المواترة أو الوتيرة، والوتيرة عند الأزهري(ت: 370ه) هي" المداومة على الشيء، وهو مأخوذ من التواتر والتتابع"(9)، وتتفق معاجم اللغة على أنَّ الوتيرة بمعنى المداومة على الشيء، وهو مأخوذ من التواتر والتتابع، وأقدم من وجدنا عنده هذا المعنى من اللغويين هو أبو عُبيد القاسم بن سلام(ت: 224ه) صاحب غريب الحديث(10).

3. المشهور لغة:

المشهور يرجع إلى الفعل شَهَرَ، والشين والهاء والراء عند ابن فارس(ت: 395ه)"أصل صحيح يدل على وضوحٍ في الأمر وإضاءة" [ابن فارس. مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج3، ص222] وعندما نرجع إلى كل المفردات المأخوذة من مادة شهر نجدها تدل على الوضوح، ومن ذلك عندما يشهر الإنسان سيفه يكون واضحا، ومنه التَّشهير بالشخص بين الناس عندما يرتكب ذنبا، ومنه الإشهار بالمكان بمعنى الإقامة [ابن فارس. مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج3، ص222]، وقال: " وقال الزجاج: سمي الشهر شهرا: لشهرته وبيانه، وقال غيره: سُمي شهرا باسم الهلال إذا أهلَّ يسمى شهرا، والعرب تقول: رأيت الشهر: أي رأيت هلاله" [الأزهري. تهذيب اللغة، مصدر سابق، ج6، ص51].

ثانيا: التعاريف والاصطلاحية وإشكاليتها ( الآحاد والمتواتر)

عند النظر إلى التعريف الاصطلاحي للآحاد والمتواتر لا نستطيع أنْ نفصل بينهما كما فصلنا في التعريف اللغوي، وذلك لوجود تداخل بينهما، مع ملاحظة ضرورة وجود التعاريف اللغوية في التعاريف الاصطلاحي، فالتعريف الاصطلاحي ناظر للمعنى اللغوي في جانب من جوانبه، وهذا ما نجده مثلا في جزء من التعريف الاصطلاحي للمتواتر وجزء من التعريف الاصطلاحي للآحاد، فالمعنى اللغوي للتواتر هو التتابع وهذا المعنى موجود في التعريف الاصطلاحي الذي فيه تتابع للخبر، والتتابع من جهة اللغة وفق القسمة العقلية لا يخرج عن أربعة أنواع تتابع جماعة عن جماعة وتتابع فرد عن فرد وتتابع جماعة عن فرد وتتابع فرد عن جماعة، وهذه الأربعة ليس بالضرورة أن تكون متتالية فقد تتابع جماعة في النقل عن جماعة ثم فرد عن جماعة وهكذا ... كما أنَّ التتابع أو التواتر ليس مُرتبطا بمدة زمنية مُحدَّدة، ومن الواضح أنَّ المعنى اللغوي اكتفى بمطلق المتابعة والمواترة من غير تحديدٍ لعدد من ينقل الخبر إلا عند من رأى من اللغويين أنَّ التواتر مأخوذ من الوتر ، بحيث يكون أصلُّ النقل هو فرد واحد وكل فردٍ ينقل الحدث والمجموع لكثرتهم يكونون جماعة من غير الاقتصار في  أصل النقل على واحدٍ، وبذلك يكون التتابع له معنينان: معنى في الحلقة الأولى ويكونه أصله وترا وبمجموعه يكون جمعا، ثم التواتر بالجمع في الحلقات التالية(11)

وهذا التتابع إما يُفهم من تسميته بالمتواتر أو من التنصيص عليه مع أنه مفهوم من التسمية يقول الجرجاني(ت: 816ه): "المتواتر: هو الخبر الثابت على ألسنة قوم لا يتصور تواطؤهم على الكذب؛ لكثرتهم، أو لعدالتهم، كالحكم بأن النبي صلى الله عليه وسلم ادعى النبوة، وأظهر المعجزة على يده؛ سمي بذلك لأنه لا يقع دفعة بل على التعاقب والتوالي"(12).

والمعنى اللغوي للآحاد هو الفرد الواحد، وهذا المعنى موجود في التعريف الاصطلاحي للآحاد عندما يكون ناقل الخبر فردا واحدا، وهذا وجه الاشتراك بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لكلٍ من الآحاد والمتواتر.

وأيضا المعنى اللغوي في المشهور موجود في جزء من التعريف الاصطلاحي وهو الخبر في نهايته عندما يُذاع وينتشر، أو هو موجود قبل ذلك عندما يشهره راوٍ من الرواة.

هذا الاشتباك بين تعريفي الآحاد والمتواتر هما بمثابة المتضايفين بالمعنى المنطقي كالعلاقة بين الأبوة والبنوة والفوق والتحت فمالم نعرف الأبوَّة لانعرف البنوَّة، وما لم نعرف الفوق لانعرف التحت.

وهذا الاشتباك لا ينفكُّ أيضا عن التعريف الاصطلاحي للمشهور كما سنرى ذلك أنَّ المشهور ما كان آحادا في بداياته متواترا في نهاياته، وهذا يعني توقُّف معرفة المشهور على معرفة الآحاد والمتواتر، فهو متوزِّع بينهما، فهو في الحقيقة أكثر إشكالا من تعريفي الآحاد والمتواتر، يقول الجرجاني(ت: 816ه): "خبر الواحد: هو الحديث الذي يرويه الواحد أو الاثنان، فصاعدا؛ ما لم يبلغ الشهرة والتواتر"(13).

وخلاصة هذا أنَّ هذه التعاريف متداخلة فيما بينها ومتوقفة على بعضها، وهو أقرب ما يكون إلى الدَّور بالمعنى المنطقي، فكيف نفصل بينها؟

التقسيم المنهجي يقتضي إرجاء الحديث عن المشهور إلى ما بعد الانتهاء من الآحاد والمتواتر وبتعريفيها يحصل لنا تعريف المشهور، ولكنَّ التداخل بينهما يمنعنا من ذلك مما يدفع بالبحث إلى التَّداخل في الحديث بينها لمعرفة كيفية الولادة لهذه المصطلحات وكيف تشكَّلت واستقرت.

عرَّف الخطيب البغدادي (ت: 463) الآحاد بقوله: "وخبر الآحاد: ما انحط عن حد التواتر"(14)، وإذا كان هناك فرق في اللغة بين الآحاد والواحد بكون الآحاد جمعا والواحد فردا فهذا الفرق منتفٍ في الاصطلاح يقول الشيرازي(ت: 476): "باب القول في أخبار الآحاد، اعلم أنَّ خبر الواحد ما انحط عن حد التواتر"(15).

نفهم مما نقلنا عن الخطيب البغدادي والشيرازي ارتباط الآحاد بالتواتر، فما لم نعرف التواتر لا نعرف الآحاد، والعكس صحيح(16)، وهناك من ربط الآحاد بإفادة الظن، وهذا يعني أيضا ما لم نفهم معنى العلم لا يمكن أن نفهم معنى الظَّن، والعكس صحيح، فالإشكال واردٌ من جهتين وهذا يجعل التعريف غير منضبطٍ.

عندما نرجع إلى المتكلمين والأصوليين لا نجد ضوابط موضوعية لمفهوم العلم، ولا للحد الذي ينتهي إليه لنعرف من خلاله الظَّن، كما لا نجد ضابطا متفقا عليه لمعرفة التواتر لنفهم من خلاله الآحاد، وهذا ما دفع بابن جماعة (ت: 733) للجمع بينهما في قوله هو: "كل ما لم ينته إلى التواتر، وقيل هو ما يفيد الظن"(17)، ونظرا إلى هذا التأرجح لم يجزم الآمدي(ت: 631ه) بتعريف الآحاد: "والأقرب في ذلك أن يقال خبر الآحاد ما كان منتهيا إلى حد التواتر"(18)، كما كان تعريف الآحاد بإفادة الظن موطن نقدٍ من جهة أخرى من قبل سيف الدين الآمدي، وذلك لكون الظَّن من الألفاظ المشتركة التي تُطلق على العلم "والحدود مما يجب صيانتها عن الألفاظ المشتركة لإخلالها بالتفاهم وافتقارها إلى القرينة"(19).

وخلاصة هذا أن تعريف الآحاد مرتبط بالتواتر من جهتين: مِن جهة مَن جعله نازلا عن المتواتر، ومن جهة من ربطه بإفادة الظن، مع الاعتراض على التسمية بالظن من قبل الآمدي، فكيف نعرف المتواتر ما لم نعرف الآحاد؟ أو كيف نعرف الآحاد ما لم نعرف المتواتر؟

الطريق الأسلم في هذا أنْ نضبط المتواتر أولا لكثرة الحديث عنه والاهتمام به، ولأن الأقوال فيه أكثر انضباطا من الآحاد.

فما هو المتواتر؟.

نجد الحديث عن المتواتر متفرعا إلى فرعين، ومختلفا فيه بين العلماء على اتجاهين: اتجاه ربطه بإفادة العلم وهم جمهور المتكلمين والأصوليين، واتجاه ربطه بعدد ناقليه وهم القلة من المتكلمين والأصوليين، وهذا ما ندرسه في إشكالية المعايير.

المطلب الثاني: إشكالية المعايير

أولا: مِعيارية الآحاد والمتواتر

المقصود بالمعيارية كيفية ضبط المتواتر من الآحاد، وضبط الآحاد من المتواتر، وضبط الآثار المترتبة على ذلك، ونسير لضبط ذلك انطلاقا من ضبط المتواتر لضبط الآحاد، والسعي لضبط المعيارية لا يخرج عن نوعين: إما النَّظر إليه من جهة إفادة العلم، وإما من جهة العدد كما ذكرنا سابقا

1. المتواتر هو المفيد للعلم دون الارتباط بعدد معين:

لم يضبط الجمهور من المُتكلمين والأصوليين المتواتر بعدد مُحدَّد، والمعيار عندهم إفادة العلم، وهذه الإفادة متأثِّرة بالناقلين للخبر، وما يتصل به من قرائن، فالمَلَكات العقلية التي يهبها الله للناس متفاوتة، مع الجزم بأنَّ العدد القليل لا يقع العلم بخبرهم، يقول أبو بكر الجصاص(ت: 370ه): "وقد علمنا يقينا: أنه لا يقع العلم بخبر الواحد والاثنين ونحوهما، إذا لم تقم الدلالة على صدقهم من غير جهة خبرهم، لأنا لما امتحنا أحوال الناس لم نر العدد القليل يوجب خبرهم العلم، والكثير يوجبه"(20).

والكثرة من الناقلين الذين يشكلون السَّقف الأعلى للمتواتر لا نعلم عددهم، وكذا لا نعلم الحدّ الأدنى للناقلين على وجه الدقة، وذلك يرجع إلى "حسب ما يصادف خبرهم من الأحوال"(21) ، والأحوال هي القرائن المتعلقة بالخبر، "فالمُحكِّم في ذلك العلم وحصوله فإذا حصلَ استبان للعاقل ترتبه على القرائن، فإن العلم في العادة لا يحصل هزلا وقد يختلف ذلك باختلاف الوقائع وعظم أخطارها وأحوال المخبرين""(22) ، والمهم في هذا " أنْ يبلغ عدد المخبرين إلى مبلغ يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب، وذلك يختلف باختلاف الوقائع والقرائن والمخبرين، ولا يتقيد ذلك بعدد معين"(23) ، وعلى هذا فلا عبرة بمن اشترط عددا معينا للمتواتر، فمن" اعتبر في التواتر عددا معينا فقد أحال، فإن ذلك مما يختلف بحسب الوقائع، والضابط مبلغ ما يقع معه اليقين، إذا حصل اليقين فقد تم العدد"(24).

هذه الكثرة من النقول التي أوردناها مقصودة ليتَّضح لنا بجلاء أنَّ المعوَّل عليه هو العلم، وهذا العلم مرتبط بالعدد وبالقرائن التي تحفُّ الخبر، وإذا كان المعيار هو العلم فهذا لا يعني هدر العدد فهو معتبر عندهم وضروري ليكون الخبر متواترا، ولكنه ليس هو المعيار المُحدِّد للمتواتر، وهذا التوجه في نظري لا يخلو من تأرجح وعدم انضباط، حيث لا تظهر قيمة المخبرين بشكل واضح، ولذا فهم يرون أن اليقين إذا حصل فقد حصل العدد، ويُمثِّل الآمدي(ت: 631) لذلك بحصول الشبع والرِّي، فكما أن أحدنا لا يعرف مقدار الطعام الذي حصل به الشبع، ولا مقدار الماء الذي حصل به الري، فكذلك لا نعرف عدد المخبرين الذين حصل العلم بخبرهم(25)، ومؤدَّى هذا أنَّ ضابط المتواتر القائم على العلم هو ضابطٌ ذاتي؛ لأنَّه مرتبط بعلم الشخص ذاته، فأحدنا عندما يُقبل على تناول الطعام أو الماء، لا يعرف متى يشبع ومتى يرتوي، وخلاصة هذا أنَّ المتواتر هنا هو ذاتي ولا يتجاوز ذلك إلا في ما هو مُشتهَر لا يخفى على أحد، كعلمنا بوجود مدينة البصرة وبغداد ووجود خالد بن الوليد في التاريخ وقيام الدولة الأموية والعباسية والعثمانية. . . فإنّ العلم بمثل هذه الأشياء جعلها متواترة مستغنية عن القرائن المرتبطة بها، ولايقال هنا إنَّ العلم بها أيضا هو أمر ذاتي؛ إذ لو كانت أمرا ذاتيا لوجدت من يكذِّب ، والواقع أننا لم نجد من يكذِّب بها، فلاتجد عاقلا يكذّب بوجود المدن المشتهرة التي لم يرها، ولا بوجود رجلٍ يكذِب وجود صلاح الدين في التاريخ أو الحملات الصليبية.

وإذا كان المُعوَّل عليه أيضا هو القرائن بالإضافة للعلم كما سبق، فإنَّ الأخبار المتواترة الماضية التي وصلتنا والتي انتفت فيها القرائن بالنسبة لنا، فإننا لاندري متى حصل العلم المتواترات، يقول الغزالي(ت: 505ه): "إذا قدرنا انتفاء القرائن فأقل عدد يحصل به العلم الضروري معلوم لله تعالى وليس معلوما لنا، ولا سبيل لنا إلى معرفته فإنا لا ندري متى حصل علمنا بوجود مكة ووجود الشافعي ووجود الأنبياء عليهم السلام عند تواتر الخبر إلينا " [الغزالي، المستصفى في أصول ، ص109].

خلاصة ما سبق أن الوصول إلى العلم يحتاج إلى أمرين الكثرة مع وجود القرائن ولعل الكثرة هي جزء من القرائن.

وإذا لم نصل إلى العلم لقلة الرواة والقرائن فإنَّ الخبر لا يوصلنا إلى التواتر وإذا لم يكن كذلك كان مفيدا للظّن، وإفادة الظن دليل على أنَّ الخبر هو آحاد؛ لأنَّ إفادة الظن مرتبطة بالقلة من جهة الناقلين ومن جهة القرائن، فوجود القلة من الرواة لا يمكن أنْ يحصل العلم بها مهما كانت القرائن متوفرة، هذا ما يمكن أنْ نسجِّله بناء على ما سبق، ويكون هو قول الجمهور.

لكنْ هذا ليس محلَّ اتفاق ولذا قلنا الجمهور، ومنهم المعتزلة حيث رأى القاضي عبد الجبار(ت: 415ه) أنَّ خبر الآحاد لا يفد العلم مطلقا مهما اقترنت به من قرائن [القاضي عبد الجبار. المغني في أبواب التوحيد العدل، مصدر سابق ج15، ص 396].

نجد بمقابل هذا قول النظام(ت: 231) الذي أعطى دورا كبيرا للقرائن فيما يتصل بالخبر، فخبر الواحد يفيد العلم إذا اقترنت به قرائن [القاضي عبد الجبار. المغني في أبواب التوحيد العدل، مصدر سابق ج15، ص 396]، ويُمثِّل النظام لذلك بمن خرج من داره، وهو شاقُ الجيب وحافي القدمين ويصيح بالويل والثبور، ويذكر أنه أُصيب بولده أو والده، ورُئي الغسال مشمرا يدخل ويخرج، فمثل هذا يفيد العلم عنده [الشيرازي. اللمع في أصول الفقه، مصدر سابق، ص 72].

لكنْ هل كلُّ أخبار الآحاد عند النَّظام تُفيد العلم إذا احتفَّت بالقرائن؟ أم أنّ الأمر مقصورٌ على قرائن مُحدَّدة كالحالة السابقة؟.

ذكر الجويني(ت: 478ه) المثال السابق الذي نقلناه عن النّظام والذي فُهِم منه أنّ خبر الآحاد يفيد العلم حيثما اقترن بالقرائن ثم قال: "والذي ذكره النظام ما أراه إلا في مثل هذه الصورة، فإنه لا يخفى على غبيٍ من حثالة الناس أنَّ الواحد قد يخبر صادقا، وقد يخبر كاذبا فلا تقع الثقة بأخباره، ولكن لعله قال: لا يبعد أن يحصُل الصدق بإخبار واحد فعُزى إليه جزم القول في ذلك مطلقا، وليس من الإنصاف نسبة رجل من المذكورين إلى الخروج عن المعقول من غير غرض" [الشيرازي. اللمع في أصول الفقه، مصدر سابق، ص 72].

يبدو أن النظام ليس هو الوحيد حيث نرى فخر الدين الرازي(ت: 606) بعد عرضه للأدلة يقول: "فكل من استقرأ العرف، عرف أن مستند اليقين في الأخبار ليس إلا القرائن، فثبت أنَّ الذي قاله النظام حق"(26).

مؤدَّى هذا أنَّ خبر الآحاد إذا ارتبط بقرينة من هذا النوع، فإنه مفيدٌ للعلم، وليس كلُّ قرينة تجعله مفيدا للعلم.

بهذا يتضح لنا تأرجح المتواتر والآحاد وليس من السهولة التفريق بينهما انطلاقا من إفادة العلم المرتبطة بأمرين بالعدد وبالقرائن.

 

***

الهوامش:

(*) هذه المقالة مستلَّة من دراسة بعنوان: الدليل النقلي من السُّنَّة دراسة كلامية أصولية في تاريخية التَّشكُّل وإشكالية المعيارية، إعداد:  د. حسن خطاف.

(1) الحسين البصري. أبو الحسين البصري، محمد بن علي بن الطيب. المعتمد في أصول الفقه، تحقيق: خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى: 1403هـ، ج2، ص 77، القاضي عبد الجبار، أحمد بن عبد الجبار الهمذاني. شرح الأصول الخمسة، تحقيق: عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، القاهرة: 1416هـ/1996 مـ. ص 768، الباقلاني، محمد بن الطيب، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، تحيق: عماد الدين أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية – لبنان، الطبعة: الأولى، 1407هـ - 1987م. ص434-437.

(2) الجصاص، أحمد بن علي أبو بكر الرازي، الفصول في الأصول، وزارة الأوقاف الكويتية، الطبعة: الثانية، 1414هـ - 1994م، ج3، ص35.

(3) الأزدي، محمد بن الحسن بن دريد، جمهرة اللغة، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين – بيروت، الطبعة: الأولى، 1987م، ج2، ص1047، رضي الدين الاستراباذي، محمد بن الحسن الاستراباذي. شرح الرضي على الكافية، د. ت، ح3، ص281.

(4) انظر: الاستراباذي، محمد بن الحسن. شرح الرضي على الكافية، مصد سابق، د. ت، ح3، ص281.

(5) الزَّبيدي، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني. تاج العروس، تحقيق: مجموعة من المحققين، دار الهداية، ج7، ص376.

(6) الزمخشري، محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله. الفائق في غريب الحديث، تحقيق: علي محمد البجاوي -محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة – لبنان، ج1، ص 73.

(7) ابن سيده، أبو الحسن علي بن إسماعيل المرسي. المخصص، تحقيق: خليل إبراهم جفال، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة: الأولى، 1417هـ 1996م، ج5، ص193.

(8) انظر: ابن فارس، أحمد بن زكريا. مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، الناشر: دار الفكر، عام النشر: 1399هـ - 1979م، ج6، ص83.

(9) الأزهري، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي. تهذيب اللغة، تحقيق: محمد عوض مرعب، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الأولى، 2001م، ج14، ص223.

(10) أبو عُبيد، القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي. غريب الحديث، تحقيق: د. محمد عبد المعيد خان الناشر: مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد- الدكن، الطبعة: الأولى، 1384 هـ - 1964 م، ج4، ص25.

(11) انظر: الفرهاري، عبد العزيز. النبراس شرح شرح العقائد النسفية، اعتنى به أُوقان قدير يِلْمَاز، دار ياسين، إسطنبول، 2012م، ص 100 قد تجد فيه بعضا مما ذكرتُه هنا.

(12) الجرجاني، علي بن محمد. التعريفات، تحقيق: جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية بيروت –لبنان، الطبعة: الأولى 1403هـ -1983م، ص 199.

(13) الجرجاني. التعريفات، مصدر سابق، ص96.

(14) الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي. الفقيه والمتفق، تحقيق: أبو عبد الرحمن عادل بن يوسف الغرازي، دار ابن الجوزي – السعودية، الطبعة: الثانية، 1421ه، ج1، ص277. ولم أجد أقدم من الخطيب من عرَّف الآحاد، ومما لاشكَّ فيه أنَّ الإمام الشافعي ذكر الأحاديث واعتبره حجة من غير التعرُّض لتعريفه.

(15) الشيرازي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف. اللمع في أصول الفقه، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى: 1405هـ/1985مـ، ج1، ص72.

(16) انظر: الديبو، إبراهيم، آراء الإمام النووي ت 676هـ في مسائل العقيدة، الطبعة الأولى، دار المقتبس 2018م، ص 133 . 

(17) ابن جماعة، محمد بن إبراهيم. المنهل الروي، تحقيق: محي الدين عبد الرحمن رمضان، دار الفكر، دمشق، ط. الثانية: 1406هـ، ص32.

(18) الآمدي، علي بن محمد. إحكام الأحكام، تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق- لبنان، ج2، ص48.

(19) الآمدي، علي بن محمد. إحكام الأحكام، مصدر سابق، ج2، ص31.

(20) القاضي عبد الجبار، أحمد، المغني في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق: محمود محمد الخضير، مراجعة إبراهيم مدكور، إشراف طه حسين، المطبعة السابقة، ج15، ص333.

(21) الجصاص، الفصول في الأصول، مصدر سابق، ج3، ص53.

(22) الجويني، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالي. البرهان في أصول الفقه، تحقيق: صلاح بن محمد بن عويضة، لبنان: دار الكتب العلمية، الطبعة: الطبعة الأولى 1418 هـ - 1997 م، ج1، ص221.

(23) السبكي، تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن حامد بن يحيي السبكي وولده تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب، الإبهاج في شرح المنهاج، الناشر: دار الكتب العلمية –بيروت، 1416هـ - 1995 م، ج2، ص290.

(24) الإيجي، عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد، المواقف في علم الكلام، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، بيروت: الناشر: دار الجيل – بيروت، الطبعة الأولى، 1997، ج1، ص197-198.

(25) الآمدي. إحكام الأحكام، مصدر سابق، ج2، ص38.

(26) الرازي، محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين. المحصول في أصول الفقه دراسة وتحقيق: الدكتور طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الثالثة، 1418 هـ - 1997 م، ج4، ص403.

 

رابط المقال الثاني

 



[1]

[2]

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين