إسهام المدرسة المالكية في الفكر التربوي الإسلامي(6)

فقهاء مربون

ولعلنا بعد كل هذا نستطيع أن نضيِّق دائرة البحث، لنتوقَّف أمام عدد من فقهاء المالكيَّة الذين كان لهم إسهامٌ واسع، إما بالكتابة المتخصِّصة، أو بتضمين بعض كتبهم قضايا تربويَّة على قدر كبير من الأهميَّة بالنسبة لبناء فكر تربوي إسلامي. 

وقد كنا نود أن يتمحور عملنا من خلال تناول عدد من القضايا التربويَّة التي تناولها فقهاء المالكية، لكننا وجدنا أنَّ مثل هذا المنحى، على ضرورته وأهميَّته، يحتاج إلى أن يتحوَّل البحث الحالي إلى (كتاب)، ومن هنا كان اضطرارنا إلى الاكتفاء بالتمحور حول شخصيَّات العلماء أنفسهم وكتاباتهم، فلربما ناسب هذا، إبراز مقدار المساهمة، فضلاً عن تيسيره للاختصار الذي يَقتضيه موقف الدراسة البحثي في هذا الحيِّز المحدود:

آداب المعلمين:

هو لمحمد بن سحنون، المولود بالقيروان سنة 202هـ، وقد رحل سنة 235هـ إلى المشرق لأداء فريضة الحج وطلب العلم كعادة رجال التعليم والشريعة المغاربة، وقبل سفره نصحه والده الفقيه المالكي الكبير سحنون، قائلاً: (إنك تقدم على بلدان - سماها - إلى أن تقدم إلى مكة فاجتهد جهدك، فإن وجدت عند أحد من هذه البلدان مسألة خرجت من دماغ مالك بن أنس، وليس هي عند شيخك - يعني نفسه - فاعلم أن شيخك كان مفرطاً)[ ريبيرا، خوليان، التربية الإسلاميَّة في الأندلس، ترجمة الطاهر أحمد مكي، القاهرة، دار المعارف، 1981، ص 102]!!

وفي رحلته هذه صحبه رجل يعرف بأبي الفضل بن حميد، وكان يسمع منه الفقه وعلم الكلام، ولم يكن ماهراً في علم الجدل. ومما يذكر أنه قد خرج قبل هذه المرة إلى الحج، فمرَّ بمصر ودخل ذات يوم حماماً كان يديره رجل يهودي، فلما خرج من الحمام، أقبل يناظر ذلك اليهودي الذي غلبه لقلة معرفته، وحذقه لعلم الجدل والمناظرة، فرجع إلى القيروان، بعدما حجَّ وفي قلبه حسرة، حيث لم يكن لديه من المهارة ما يمكنه من دحض ما كان يقوله اليهودي في مناظرته، وهاب أن يحكي لابن سحنون ما حدث!

فلما شرع محمد بن سحنون في الحج مرة أخرى، ألحَّ أبو الفضل أن يصحبه مرَّة أخرى، ولما مرَّا بمصر رغَّب أبو الفضل ابنَ سحنون في دخول الحمام، وتعمد أن يشعل فتيل المناظرة مع اليهودي قبل أن يخرج ابن سحنون، فلمس مدى ضعف صاحبه، فكان أن ألقى بثقله، واستمرَّت المناظرة وقتاً طويلاً، ظهر فيها ابن سحنون على اليهودي بالحجَّة الدامغة، والبرهان الساطع، فما كان من اليهودي إلا أن استسلم قائلاً: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله [ريبيرا، خوليان، التربية الإسلاميَّة في الأندلس، ترجمة الطاهر أحمد مكي، القاهرة، دار المعارف، 1981، ص 102].

ويعتبر كتاب آداب المعلمين، مما دوَّن محمد بن سحنون عن أبيه، من الكتب الرائدة في التربية والتعليم، بل هو أقدم كتاب في هذا الميدان في حدود علمنا، وقد أُلِّفت رسائل وكتب عديدة في التربية الإسلاميَّة، وهي، على أهميتها، متأخرة عنه، وكان له فضل السبق عليها [ريبيرا، خوليان، التربية الإسلاميَّة في الأندلس، ترجمة الطاهر أحمد مكي، القاهرة، دار المعارف، 1981، ص 111].

ويرجع الفضل إلى الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب في نشر هذه الرسالة، ثم أتاح الأهواني فرصة الاطلاع عليها بنشر نصها كملحق لدراسته عن رسالة القابسي.

أما المسائل التي تناولها ابن سحنون في كتابه فهي:

- ما جاء في تعليم القرآن العزيز.

- ما جاء في العدل بين الصبيان.

- باب ما يكره محوه من ذكر الله تعالى.

- ما جاء في الأدب وما يجوز من ذلك وما لا يجوز.

- ما جاء في الختم، وما يجب في ذلك للمعلم.

- ما جاء في القضاء بعطية العيد.

- ما يجب على المعلم من لزوم الصبيان.

- ما جاء في إجارة المعلم ومتي تجب.

- ما جاء في إجازة المصحف وكتب الفقه وما شابهها.

ولعلَّ من القضايا البارزة التي تناولها ابن سحنون هي ما يتعلَّق بأمور الهديَّة والإجارة للمعلم، فبالنسبة للمسألة الأولى نجد أنَّها قد تحوَّلت في عصرنا الحاضر إلى ما يشبه (لزوم ما لا يلزم) واتخذ البعضُ منها سبيلاً للحصول على ما لا يستحقّ.

وأما بالنسبة للإجارة، فقد كانت قضية مستحدثة في ذلك، وإن لم تكن موضع جدل في عصرنا الحاضر، فقد كان التعليم جزءاً أساسيَّاً من الدعوة إلى الإسلام التي لم يتصوَّر أحد أن يطلب أجراً عنها؛ وذلك لأن محور التعليم كان القرآن الكريم وحده، فلما مرَّت السنون والأعوام واستجدَّ الكثير من المتغيرات، بدأ النقاش حول هذه القضية، وهنا نجد ابن سحنون يقرِّر متى تجوز الإجارة (الأجر، المبلغ المتفق عليه بين الولي والمعلم) كاملة، والإجارة عادة تستحق على الختمة الواحدة، إذ لابد من التأكد أنَّ الصبي بلغ الغرض من قراءة القرآن، فيطرح عليه أسئلة في هذا الموضوع فيجيب عليها حسب ما يقضي الشرع، وبما أشار إليه السلف من الفقهاء، إنها عملية تقييم لمدى استحقاق المعلم للأجر، وللتحقق من أنَّ المتعلم بلغ القصد من (ختم) القرآن [ريبيرا، خوليان، التربية الإسلاميَّة في الأندلس، ترجمة الطاهر أحمد مكي، القاهرة، دار المعارف، 1981، ص 111].

ومن أبرز ما أظهرته رسالة ابن سحنون هذا التأكيد الواضح لضرورة (العدل التربوي) بين المتعلمين، صحيح أنه لم يفصل ما يمكن أن يترتب على التفرقة، وتمييز بعض على آخر، لكن يبدو أن هذا مما لابد أن يعرفه كل إنسان كُلِّف بمهمة التربية والتدريس، ويكفي هنا هذا التعبير المفزع الذي وصف فيه ابنُ سحنون من ينحرفون عن نهج العدل، إذ اعتبرهم (خونة)، والخيانة هنا هي خيانة للعهد، فما دام ولي أمر المتعلم قد عَهِدَ إلى المعلم بأن يُربي ويعلم ابنه، فإنَّ الانحراف عن العدل من شأنه أن يُعيق عمليَّة التربية، وغالباً ما يَأتي بعكس المطلوب منها.

وطلب ابن سحنون من المعلم أن لا يعلم أولاد النصارى مع أولاد المسلمين القرآن، وربما يحمل هذا ضمناً جواز تعليم أولاد النصارى مع أولاد المسلمين إذا كان موضوع الدرس غير القرآن.

كذلك أكَّد على ضرورة الفصل بين الذكور والإناث، وألا يخلط المعلم بين الجواري والصبيان.

سياسة الصبيان وتدبيرهم:

وهي لعبد الله بن أبي زيد القيرواني، المتوفى عام 369هـ، ولد بالقيروان سنة 310هـ، وهي تموج بذخائر المعرفة ومظاهر الحضارة [ريبيرا، خوليان، التربية الإسلاميَّة في الأندلس، ترجمة الطاهر أحمد مكي، القاهرة، دار المعارف، 1981، ص 117].

وإذا كانت كثرة العلماء نجدهم عادة من غير الميسورين ماديّاً، إلا أن أبا زيد كان على العكس من ذلك فقد منحه الله تعالى بسطة في المال والعلم، ولم نشهد بينهما تخاصماً في شخصه وفي سلوكه وخاصة مع الناس، وإنما خضع الأول للثاني، فإذا بنا نجده ينفق بسخاء على طلب العلم، ويجود على طلابه المعسرين.

وكان من مظاهر ارتفاع درجة الوعي التربوي لدى فقيهنا أنه كان يبتدئ دروسه في غالب الأحوال بالاستماع إلى ما قد يعنُّ لطلابه من تساؤلات تتصل بمسائل قد تغمض عليهم، أو مسائل تحتاج إلى حلول وشروح وتحليلات.

ومن عجب حقّاً أنَّ هذه الرسالة موضوع حديثنا، هي أول تأليفه، حيث كان عمره سبع عشرة سنة، حيث يرجِّح البعض أن تكون كتابته لها بناءً على طلب من الشيخ أبو إسحاق السبائي بهدف تعليم أولاد المسلمين، وكذلك بناء على طلب ابن خالته محرز بن خلف، بحيث تكون الرسالة مُتضمِّنة القواعد الأساسيَّة الواجب مُراعاتها لتتم تربية الأبناء وفقاً لشريعة الإسلام ونهجه، ووفقاً للمذهب المالكي. [محمد بن سحنون: كتاب آداب المعلمين، تحقيق محمود عبد المولي، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1969، ص 41].

وحتى نتبين القيمة التربويَّة لهذه الرسالة، نتوقف قليلاً أمام ما جاء في مقدمتها:

(... سألتني أن أكتب جملة مختصرة من واجب أمور الديانة بما تنطق به الألسنة، وتعتقده القلوب، وتعمله الجوارح، وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن... وشيء من الآداب منها، وجمل من أصول الفقه وفنونه على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى وطريقته مع ما سهل سبيل ما أشكل من ذلك من تفسير الراسخين وبيان المتفقهين، لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان، كما تعلمهم حروف القرآن ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله تعالى وشرائعه...). [محمد بن سحنون: كتاب آداب المعلمين، تحقيق محمود عبد المولي، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1969، ص 42].

فكأنَّ الرسالة تَستهدف تثقيفاً دينيّاً، لا على سبيل التعمُّق والتبحُّر، وإنما هي في حدود ما نعرفه عما هو معروف بـ (الكتب المدرسية) فهدفها تعليمي بالدرجة الأولى، وما يتصل بالتثقيف الديني من أصول وقواعد لابد من مراعاتها في عملية التعليم.

فإذا ما تساءلنا: لماذا هذه العناية الواضحة لدى الفقهاء المربين بتربية الصغار بصفة خاصة، فإن فقيهنا يجيب على ذلك بقوله، في المقدمة نفسها: (... فإنه روي أن تعليم الصغار لكتاب الله تعالى يطفئ غضب الله سبحانه، وأن تعليم الشيء في الصغر كالنقش في الحجر).

وإذا كان الأطفالُ مأمورين بالصلاة عند سنِّ السابعة، ثم يُضربون على إهمالها في سنِّ العاشرة، فإنَّ هذا يَقتضي أن يُواكب هذه السن قدر ميسر من التعليم الديني حتى يكونوا على بينة بالأهداف المقصودة من العبادات الإسلاميَّة.

وهو يؤكد أيضاً في المقدمة ربما أكثر من مرَّة على ما (تعتقده من الدين قلوبهم، وتعمل به جوارحهم) تطبيقاً لنهج الإسلام التربوي في الربط الدائم بين ما نعلم وما نعمل.

والجزء الأكبر من الرسالة هو في أمور دينيَّة عامَّة، لا تقع مُباشرة في الشأن التربوي بمعناه العلمي المتخصص، ولا نستطيع أن نعيب َعلى الرجل هذا، فهذا هو المستوى المعرفي للتربية في تلك الفترة إلى حدٍّ كبير، ومن هنا نجد من موضوعات الرسالة كل ما يتعلق بالصلاة والزكاة والحج والعمرة والجهاد والنكاح والبيوع.. إلخ، وربما وجدنا في الفصل الأربعين مجموعة من الفرائض والسنن الواجبة، ضمنها مسائل تربوية مباشرة، مثل طلب العلم فريضة عامَّة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وبعض الآداب العامَّة مثل صون اللسان عن الكذب والزور والغيبة والنميمة. ونجد في فصل آخر تناولاً لما يتعلق بآداب الأكل، والقراءة والدعاء والسلام والاستئذان. [محمد بن سحنون: كتاب آداب المعلمين، تحقيق محمود عبد المولي، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1969، ص 61].

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

الحلقة الخامسة هنا

[وللبحث تتمة في الجزء التالي]

المصدر: مجلة المسلم المعاصر العدد 107، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة 1423 هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين