إسهام المدرسة المالكية في الفكر التربوي الإسلامي 2

 

وإذا كانت المدارس الفقهيَّة قد شهدت كتابات تربوية مُتخصِّصة على أيدي علماء فقه، فلابد أن نضيف إلى ذلك جملة الأعمال الفقهيَّة، في مختلف المذاهب على وجه التقريب حيث إنها حملت عدداً من المبادئ تُشكل دعماً وترسيخاً لتربية إسلاميَّة سويَّة بالنسبة للدين وبالنسبة للدنيا، أجملها (محمد سلام مدكور) في نقاط ينورها فيما يلي:

- مبدأ التخاطب مع العقل، فالتشريع الإسلامي جعل العقول مناط التكليف، وخصوصاً فيما يتعلَّق بأمور الدنيا، وبمعرفة الخالق. ولما كان العلم دعَّامة تزيد العقل نوراً دعا إليه وحثَّ الناس على التزوُّد منه.

- مبدأ إحاطة العقيدة بالأخلاق الفاضلة المهذبة للنفس {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ على الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً} (الفرقان:63).

- مبدأ جعل التكاليف الشرعيَّة لإصلاح الروح وتطهيرها، وليس لإرهاق البدن وتسخيره {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } (المائدة:6).

- مبدأ التآخي بين الدين والدنيا في التشريع، فقد جاءت أحكامه بأمور الدين والدنيا في التشريع، ودعا إليهما: {وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص:77).

- مبدأ المساواة والعدالة، فقد ساوى بين الناس جميعاً دون تفريق بين الأجناس والأفراد والأشخاص:{إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات:13).

- مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مبدأ كلي شامل يصلح بمفرده لأن يكون دستوراً للإصلاح الاجتماعي.

- مبدأ الشورى، فقد جعلت الشورى أساس الحكم في الإسلام.

- مبدأ التسامح: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} (الممتحنة:8).

- مبدأ الحرية، وقد نادي الإسلام بالمحافظة على حريَّة الأفراد دون مساس بالمصلحة العامَّة، سواء فيما يتعلَّق بالعقائد: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }، أم كان في الرأي.

- مبدأ التكافل الاجتماعي، فجعل الزكاة حقّاً للفقير في مال الغني وليست تفضلاً وامتناناً، فلا تعاظم ولا استجداء لها، بل وكفل الإسلام نفقة الفقير العاجز عن الكسب وجعلها في بيت مال المسلمين دون نظر لديانة الفقير. [محمد سلام مدكور: المدخل للفقه الإسلامي، القاهرة، دار النهضة العربية، 1966، ص 20].

إنَّ مثل هذه المبادئ والقواعد المنظِّمة، من شأنها أن تعمل على توفير (بنية أساسيَّة) عندما يعيش التعليم في كنفها، فإنَّها توفر له قواعد للعمل، وأسساً للتنظيم، وهذا كله من شأنه أن يَرفع من كفاية التعليم وكفاءته إلى حد كبير.

وشهد سوق الثقافة الإسلاميَّة عدداً وفيراً من الكتابات التربويَّة المتخصِّصة التي دَوَّنها بعض الفقهاء، فضلاً عما جاء مُتناثراً في عدد كبير من الكتابات الفقهيَّة المتخصصة، بحكم وقوع بعض القضايا التربويَّة في عداد المسائل الفقهيَّة، وخاصَّة ما يتعلَّق بالولاية على النفس، وتربية الأولاد وحقوقهم، ومدى سلطة الآباء عليهم وحضانتهم.

ونسوق فيما يلي نماذج من الكتابات التربويَّة كتبها فقهاء ومحدثون، من غير أتباع المدرسة المالكيَّة، حيث سيختصون بحديث مُنفرد مطوَّل وفقاً لوظيفة الدراسة الحالية:

- كتاب (أدب الإملاء والاستملاء) لعبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني المروزي المولود سنة 506هـ، ونسبته إلى سمعان، وسمعان بطن من تميم، والمروزي لأن ولادته ووفاتـه (562هـ) كانت في مرو (15)، وهو فقيه شافعي.

والكتاب نشره مكس ويس ويلر Max Weis Weiler، ليدن، بريل 1952، وأعيد نشره في بيروت سنة 1984، وهو مجموعة من الآداب (أي تحديد) الشروط والآداب وطرائق العمل والأدوار الموجِّهة لكل من المعلم والمتعلم، وهي وإن كانت منصبَّة على طالب الحديث النبوي، وعلى مدرس الحديث (المحدث)، فإنَّها في معظمها قابلة للتعميم.

- كتاب (تعليم المتعلم طرق التعلم) لبرهان الإسلام الزرنوجي المتوفى سنة 591هـ، وقد طبع الكتاب عدة طبعات في ألمانيا وتونس ومصر وتركيا، ومن الموضوعات التي تناولها: ماهية العلم والفقه وفضله - النية حال التعلم - اختيار العلم والأستاذ والشريك والثبات عليه - تعظيم العلم وأهله - الجد والمواظبة والهمَّة - وقت التحصيل - الورع في حالة التعلم - فيما يُورث الحفظ وما يورث النسيان. [سيد أحمد عثمان: التعلم عند برهان الإسلام الزرنوجي، القاهرة، الأنجلو المصرية، 1977، ص 32.].

- كتاب (تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم) لبدر الدين بن جماعة الحموي الشافعي، المولود سنة 639هـ بحماة، ولي القضاء بمصر زمناً وزاول بها التدريس زمناً آخر، فضلاً عن تدريسه بدمشق، والكتاب حقَّقه السيد محمد هاشم الندوي، وطبعته دائرة المعارف الهنديَّة سنة 1354هـ، وهو ويقع في خمسة أبواب: الأول في فضل العلم وأهله وشرف العالم ونسله - الثاني في آداب العالم في نفسه ومع طلبته ودرسه - الثالث في آداب المتعلم في نفسه ومع شيخه ورفقته ودرسه - والرابع في مصاحبة الكتب وما يتعلَّق بها من الآداب - والخامس في آداب سكنى المدارس للمنتهي والطالب. وقد أعيدت طباعته في بلدان عدة بعد ذلك. [حسن عبد العال: فن التعلم عند بدر الدين بن جماعة، القاهرة، على الآلة الكاتبة، غير منشور، 1983، ص 97].

- وكتاب (تحرير المقال) لابن حجر الهيثمي المتوفى عام 973هـ، وتناول فيه: قضايا أخلاقيات المهنة - قضية أجور المعلمين بين المنع والجواز - مستويات السلطة التعليمية في عصر ابن حجر - أوضاع الطلاب في المدارس الداخلية - العقوبات التأديبيَّة. [ابن حجر الهيثمي: تحرير المقال، تحقيق: مصطفي رجب، سوهاج، 1991، د.ن، المقدمة].

- كتاب (اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم) للشيخ زكريا الأنصاري المولود سنة 825 هـ بمصر، ودار معظمُه حول أهمِّ العلوم التي يَنبغي على المتعلم أن يسعى في طلبها. [هام نشابه (محقق) التراث التربوي الإسلامي في خمس مخطوطات، بيروت، دار العلم للملايين، 1988].

- وكان الخطيب البغدادي الشافعي المذهب، المولود 392هـ ذا قدم عاليَّة في التأليف التربوي، وإن كان مقصده هو تعلم وتعليم الحديث، لكننا نجد أنَّ كثيراً مما احتوته كتاباته يؤسِّس لتربية إسلاميَّة منهجيَّة، من ذلك: اقتضاء العلم العمل - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - شرف أصحاب الحديث - نصيحة أهل الحديث - تقييد العلم - الرحلة في طلب الحديث - الفقيه والمتفقه. [سالك أحمد علوم: الفكر التربوي عند الخطيب البغدادي، المدينة المنورة، 1992، د.ن، ص 78].

- كتاب (الأخلاق والسير في مداواة النفوس) للفقيه الظاهري ابن حزم المتوفى سنة 456هـ، ويتناول الكتاب: مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق - العقل والراحة - العلم - الأخلاق والسير - الإخوان والصداقة والنصيحة - المحبَّة وأنواعها - الأخلاق والعادات - أدواء الأخلاق الفاسدة ومداواتها - غرائب أخلاق النفس - تطلع النفس إلى ما يستر عنها - حضور مجالس العلم. والكتاب كما هو واضح أقرب إلى الدراسات النفسيَّة والأخلاقيَّة. [ابن حزم: الأخلاق والسير في مداواة النفوس، بيروت، دار الآفاق الجديدة، 1980، ط 3].

- كتاب (أدب الطلب) لمحمد بن على الشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ باليمن، وهو يشدِّد على خطورة التقليد والتعصب، ويشرح أسبابهما، ويبين مراتب مُتعدِّدة لطلبة العلم؛ ليؤكد على ما يجب أن يدرسه الطالب في كل مرتبة، ويوجه سهام النقد إلى بعض الفقهاء الذين ينقدون غيرهم من غير اطلاع على ما كتبوه، فضلاً عن تنديده للذين يتخذون من الفقه واجهة يسعون من خلالها إلى أغراض دنيوية بحتة. [محمد بن على الشوكاني: أدب الطلب، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمنية، 1979]

ولعل ما حتم أن يكون للفقه وللفقهاء إسهام واضح في حركة التربية والتعليم طوال عصور الحضارة الإسلاميَّة، ما عرف به الفقه من اتساع الأفق الدراسي، حيث يتناول عادة العديد مما يتصل بعلاقات الإنسان بنفسه، وبربه، وبغيره من الناس، وبالبيئة التي يعيشها، بحيث شملت وتنوعت أحكامه إلى:

- الأحكام التي تسمى في عصرنا الحاضر الأحوال الشخصية.

- الأحكام المدنيَّة.

- الأحكام الجنائيَّة.

- أحكام المرافعات أو الإجراءات المدنيَّة أو الجنائيَّة.

- الأحكام الدستوريَّة.

- الأحكام الدوليَّة.

- الأحكام الاقتصاديَّة والماليَّة.

- الأخلاق أو الآداب. [محمد ناجح محمد أبو شوشة: المضامين التربويَّة في أهم مصادر المذهب الشافعي، سوهاج (مصر)، رسالة دكتوراه، كلية التربية، جامعة جنوب الوادي، 2002]

وإذا كانت هذه النوعيَّات المتعدِّدة من الأحكام قد لا تحمل، من حيث الشكل، بصمات تربويَّة، باستثناء النوع الأخير، فإننا نلفت النظر إلى أن كثيراً منها يتصل -بالضرورة- بجوانب تعليمية، ودون الخوض في استطرادات للبرهنة على ذلك، فإنَّ الجوانب الاقتصاديَّة والماليَّة تتصل بتمويل التعليم وما يمكن أن يقوم به التعليم في التنمية، والجوانب الدستوريَّة لابدَّ أن يكون لها اتصال بقوانين التعليم والتنظيمات المختلفة التي تُوضع له والعلاقة بين التعليم والدولة.. وهكذا.

كذلك فإنَّ ما رصده القرضاوي من خصائص للفقه الإسلامي، يعزِّز هذا الذي نقوله ويقوله غيرنا، من تلك الخصائص:

- العالمية، من حيث إنه لا يخاطب جنساً دون آخر.

- الموضوعية، تلك التي تخلو منها تشريعات أخرى مشهورة.

- الوسطية، بحيث لا يجنح إلى إفراط أو إلى تفريط.

- قيامه على أصول وقواعد دقيقة مقننة تضبط طرائق استنباط الأحكام.

- الإنسانية، من حيث إعلاؤه لقيمة الإنسان ومراعاة فطرته، والأخذ بعين الاعتبار حقوقه وحرياته. [يوسف القرضاوي: الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، القاهرة، مكتبة وهبة، 1999، ط2، ص 15].

وقد اتهم (عبد الأمير) التربيَّة الفقهيَّة بأنها تفتقر إلى نَسقٍ فكري مُنظَّم ومُتكامل، أو بناء فكري (فلسفة) كإطار خارجي وضابط لها، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر كونها تقليدية دينية محافظة؛ مما جعل من الآراء والنظريات التي تداولها المربون الفقهاء لا تخرج عن كونها ترديداً أو تكراراً لما قاله السلف، فأخذه الخلف كسُنة ونظريَّات لا يجوز الخروج عنها أو تجاوزها، مما دعا البعض إلى نعتها (بالآدابيَّة) أي أنها عبارة عن منظومة من القواعد المثالية، والمسلكيَّات الفضلى الموجَّهة إلى المعلم والمتعلم وولي الأمر، وهذا بدوره جعلها تتميَّز بالإكثار من النصائح والإرشادات وتكرارها، فالفكرة الواحدة نفسها تتكرَّر، ولكن بصياغات وأثواب مختلفة: النظرة للعلم والمتعلم - آداب المعلم - علاقة المعلم بالمتعلم، وعلاقة المتعلم بالمعلم (العالم) - وغيرها من الاصطلاحات التربويَّة والتعليميَّة التي لم تخرج عن كونها ترديداً لما قيل فيها، فكانت إلى الأدب، وإلى الحكمة الشعبيَّة المأخوذة من الخبرة الشخصيَّة والتجربة العلميَّة الفرديَّة، أقرب منها إلى النظام الفكري التربوي المترابط والمنسَّق، أو إلى المنهجية العلميَّة ذات النظرة النافذة المتطوِّرة. [عبد الأمير شمس الدين: الفكر التربوي عند ابن سحنون والقابسي، بيروت، دار اقرأ، 1985، ص 198].

وإذا كان هذا الرأي يحمل جانباً من الحقيقة، إلا أنه أغفل أمرين:

أولهما، أنَّ الكثرة الغالبة من الكتابات التربويَّة حتى وقت قريب، كانت تنهج هذا النهج الذي يَميل إلى أسلوب الوعظ والإرشاد والنصح؛ ذلك أنَّ التربية لم تكن قد وصلت إلى درجة من النضج تجعل منها عِلماً يقومُ على أصول وقواعد ونظريات.

ثانيهما، أنَّ الفقهاء لم يجدوا أنفسهم بحاجة إلى وضع (نظريات) تربويَّة، فالأسس الفكريَّة، والقواعد الكليَّة، والأصول العقيديَّة، مُتوافرة في القرآن الكريم وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث يصبح الدور المطلوب من الفقهاء هو البحث عن كيفية إنزال هذه الأصول والقواعد والأسس العامَّة مَنزلة التطبيق والتنفيذ.

وفضلاً عن هذا وذاك، فإنَّ البحث المتعمِّق في كتابات الفقهاء غير المباشرة في المسألة التربويَّة يضع أيدينا على عددٍ غير قليل من التحليلات النظريَّة والتأمُّلات العقليَّة المرتبطة بواقع المسلمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

الحلقة السابقة هـــنا

[وللبحث تتمة في الجزء التالي]

المصدر: مجلة المسلم المعاصر العدد 107، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة 1423

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين