إسهام المدرسة المالكية في الفكر التربوي الإسلامي (1)

الدور التربوي للفقه

المستقرئ للإرهاصات الأولى للفقه الإسلامي يمكن أن يلمس بكل سهولة ويسر أنَّه نشأ وثيق الصلة بحركة الحياة العمليَّة، وبمشكلات واجهت الناس، وقضايا كانت محلَّ اهتمام عموم الأمَّة، مما كان لابدَّ معه أن تتوثَّق الصلة بين الفقه على وجه العموم وبين العمل التربوي، خاصة إذا تنبَّهنا إلى أن الدين ليس مجرد معتقدات وأفكار تحتلُّ موقعها في العقل والقلب، وليس مجرَّد شعائر تؤدَّى، وإنما هو في لحمته وسُدَّاه (ما وقر في القلب وصدَّقه العمل)، أي: أنَّه إذا كان يبدأ في العقل والقلب، إلا أنه لابد أن يتشخَّص واقعاً عمليّاً حيّاً في سلوك الناس ومعاملاتهم، والعمليَّة التربويَّة نفسها لا تخرج عن كونها إجراءً تنفيذيّاً يسعى إلى أن يحيل الأفكار والتوجهات والمعتقدات القائمة في كل من العقل والقلب إلى عمليات سلوكيَّة وأفعال إنسانيَّة.

لقد قامت طريقة التشريع في عصر النبي صلى الله عليه وسلم على أساسِ الواقع، فكلما وقعت حادثة تتطلَّب حُكماً، لجأ الصحابة رضي الله عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون البيان، فإذا لم يكن عنده حكمها تطلَّع إلى السماء فيأتيه الوحي تارةً بآية أو آيات من القرآن فيه جواب ما سألوا، وطوراً يَنزل عليه الوحي بغير قرآن مُبيناً له الجواب ويترك له التعبير عنه وهو ما عُرف بالسنَّة، وإما يتأخر الوحي عليه، فلا ينزل بهذا ولا بذاك، فيجتهد على ضوء ما أُنزل عليه من أحكام، وما ألهمه الله تعالى من سر التشريع مرَّة، ومع مشاورة أصحابه مرَّة أخرى، فإذا أصاب الاجتهادُ وجهَ الحقِّ أقرَّه الله سبحانه عليه، وإن كان غير ذلك نبَّهه إليه. [محمد على السايس: نشأة الفقه الاجتهادي وأطواره، القاهرة، مجمع البحوث الإسلاميَّة، سلسلة البحوث الإسلاميَّة (9) يناير 1970، ص 34.]

ولم يكن لأحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة حياته أن يجتهد في استنباط أي حكم شرعي إلا عند تعذُّر سؤاله أو لبُعد الشقَّة بينه وبين الرسول، أو لاشتغاله صلى الله عليه وسلم بما هو أهم أو نحوه، أو إذا أمره الرسول بذلك على سبيل التعليم والتدريب، وما كان يحدث شيء في ذلك لأي واحد من الأصحاب إلا عَرَضاً. [محمد الحسيني حنفي: المدخل لدراسة الفقه الإسلامي، القاهرة، دار النهضة العربية، 1971، ص 12.]

وعندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجه صحابتُه رضي الله عنهم من بعده حوادث ليس في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية بيان خاصٌّ بها، ولا حكم قاطع فيها، فاجتهدوا في تفهُّم حكم الله تعالى على ضوء النصوص واستهداف المصلحة، واختلف فهمهم في هذا وذاك تبعاً لما يَراه كل واحد منهم مُقتضى النصِّ أو سبب المصلحة، وقد يَنتهي التشاور بينهم إلى رأي واحد يجمعون عليه. [زكريا البري: الفقه الإسلامي، أطواره في الماضي والحاضر والمستقبل، مكة المكرمة، المركز العالمي للتعليم الإسلامي، 1983، ص13]

كذلك فإنَّ الحروب التي وقعت، وما نتج عنها من قضايا وعلاقات بين المسلمين وبين غيرهم في أثناء الحرب وبعدها، أدَّت إلى كثرة المسائل الفقهيَّة، والفتوحات الإسلاميَّة وما ترتَّب عليها من امتداد سلطان الإسلام على بلادٍ كثيرة، واتصال المسلمين بأهل تلك البلاد، ولكلِّ بلدٍ أعرافُه وعاداتُه وتقاليده ونُظُمه. 

كلُّ ذلك أدَّى إلى ظهور مسائل وقضايا جديدة تستلزم معرفةَ حكم الشرع فيها، وقد قام فقهاء الصحابة بمهمَّة التعرُّف على أحكام هذه المسائل والوقائع الجديدة، فاجتهدوا واستعملوا آراءهم على ضوء قواعد الشريعة ومبادئها العامَّة ومعرفتهم بمقاصدها. [عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلاميَّة، بغداد، 1969، ص 118]

فالفقه -كما نراه هنا، وفي كل الفترات، وفي كل الأمكنة كما سوف نرى - يسعى إلى توفير مبادئ وقواعد وأحكام تقوم بدور الموجِّه للمسلم في سلوكه.

وواكبَ تطوُّر الفقه وازدهاره تطوُّرٌ آخر في ميادين فكريَّة مختلفة، وخاصَّة في مجالات علم الكلام والتصوف والفلسفة، فضلاً عن ظهور مدارس ومذاهب دينيَّة مُتعددة، فظهر الشيعة، والخوارج، والقَدَريَّة، والمرجِئَة، وتردَّدت أصوات المختلفين بصنوف من الدعاوى الغريبة، والمذاهب الجريئة، فحين كان المعتزلة يتحدَّثون في الإيمان والتوبة، والإله وصفاته، والعقل وحريَّته، كانت آراء عن الحلول والألوهيَّة تُذاع في جسارة عجيبة. [أمين الخولي: مالك، تجارب حياة، القاهرة، المؤسسة المصرية العامَّة للتأليف والترجمة والنشر، سلسلة أعلام العرب (11)، أكتوبر 1962، ص 168.]

وفي هذا الجو المائج الهائج تظهرُ زندقة عند البعض، التي تكون تحللاً من قيود التديُّن، يغري بها التحضُّر والرفاهية التي غمرت الجو، أثراً لرواج اقتصادي واضح، فيندفع الناسُ إلى التحلُّل من المطالب الدينيَّة، إما تظرُّفاً وتخففاً، وإما مجوناً وانتهاباً للذات.

ويظهر نفرٌ آخر من أهل التصوُّف، عدد منهم يَعيش حياة تقوم على الورع والزهد، وعدد آخر يشطح في آرائه وأحاديثه، وهكذا يبرز كل من (مالك ابن دينار) توفي عام 127هـ، و(إبراهيم بن أدهم) توفي 162، و(داود بن نصير الطائي) توفي عام 162، و(عبد الله بن المبارك) توفي عام 181، و(الفضيل بن عياض) توفي عام 187، ومن السيدات (رابعة العدوية)، توفيت عام 135 هـ أو 185، و(عائشة بنت جعفر الصادق) توفيت عام 145هـ، وغيرهم وغيرهن. [أمين الخولي: مالك، تجارب حياة، القاهرة، المؤسسة المصرية العامَّة للتأليف والترجمة والنشر، سلسلة أعلام العرب (11)، أكتوبر 1962، ص 171].

وأضيف إلى هؤلاء وهؤلاء طائفة الفلاسفة الذين قَصَروا كلامهم على الخاصَّة، بل خاصَّة الخاصَّة ممن يقدرون على فهم المصطلحات الفلسفية، وتأثرهم البالغ بفلسفة اليونان الذي أفضى بهم إلى تناول مسائل لم تكن في دائرة اهتمام المسلم العادي، فضلاً عن الاستناد إلى طرقٍ في الجدل والمناقشة لا يصبر عليها إلا القلَّة من خواصِّ المتعلِّمين.

وجدت جماهير الأمَّة أمامها بالتالي مائدة ضخمة من الإنتاج الفكري المتنوِّع تنوُّعاً كبيراً، والمتعدِّد الأشكال والألوان، عليها ما قدَّمه علماء الكلام من مُعتزلة وأشاعرة، وعلماء التصوُّف، وأهل الفلسفة، وعلماء السنة، فإلى أي فريق إذا يتَّجهون؟

اتَّجهوا إلى أهل السنة، فهم يقدِّمون كلاماً وآراءً وأفكاراً سهلة الفهم، تتَّسم ببساطة العرض، وتخلو من التعقيد والالتواء، وتتَّسم بملاءمتها للطبائع البشريَّة جميعاً، ففيها العُمق لمن يُريد التعمُّق، والوسط لمن يرغب في التوسط، والحثُّ على مداومة العبادة لمن يريد الارتفاع إلى درجات الصالحين. 

وأهم من هذا وذاك أنَّ شخصيَّة رسولِ صلى الله عليه وسلم كان حُجَّة في تدعيم الرأي، والاعتقاد في الآراء يستند إلى شخصيَّة قائلها إلى حدٍّ كبير، إلى جانب ما في هذه الآراء من قيمة ذاتيَّة، فاستناد أهل السنة إلى الآيات القرآنية، وإلى أحاديث رسول الله، قرَّبهم من عقول عموم الناس وقلوبهم. [أحمد فؤاد الأهواني: التربية في الإسلام، أو التعليم في رأي القابسي، القاهرة، عيسي البابي الحلبي، 1955، ص 82].

ثم إنَّ حياة العمل أقرب إلى اهتمام الناس، فهم إذا كانت لهم عقول لتفهم وتستوعب، وقلوب تشعر، فإنَّ لهم جسداً له احتياجاته من الملبس والمشرب والمأكل والمأوى، مما لابدَّ له من عمل لكسب الرزق، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تجمع بين عمل القلوب ونشاط العقل، وسد احتياجات الجسم، أو بمعنى أصح: تجمع بين مَطالب الدين والدنيا، وهذه هي الحياة المثلى للمسلم.

لكنَّ أهل التصوف كانوا يَنفرون في الدنيا ويرغبون في العُزلة والزهد الزائد، طمعاً في كسب الدين، وأهل النظريَّات من مُتكلمين وفلاسفة، بالغوا في التنظير، فنسوا الدين، واستغرَقوا في الدنيا.

فاتسام مذاهب المتكلمين بالتجريد، ومُغالاة المتصوفين في مسالكهم الروحيَّة، وصعوبة الآراء الفلسفية وبُعدها عن حركة حياة الناس، كل أولئك قرَّب بين أهل الحديث وبين العامَّة، وهي استجابة طبيعية لتأثير مذهب أهل الحديث الملائم لنفوسهم؛ ولهذا كان تعليم الناس في أيدي من يفهمون أفراد الأمَّة ويفهمون عقليَّتهم ونفسيَّتَهم. [أحمد فؤاد الأهواني: التربية في الإسلام، أو التعليم في رأي القابسي، القاهرة، عيسي البابي الحلبي، 1955، ص 83].

والنتيجة المنطقيَّة والطبيعية بناءً على هذا أن عُني أهلُ السنَّة بالتعليم ليشبَّ العامَّة على مَعْرفة الدين علماً وعَمَلاً؛ لأنَّ معرفة الدين لا تتم إلا بنوع من التعليم، سواء أكان هذا التعليم صادراً من الوالد إلى أبنائه بالتلقين، أو أخذاً عن شيخ بعينه يتطوَّع لتعليم الصبيان شؤون دينهم.

ورصد (ميتز) ملمحاً آخر عزَّز من مكانة الفقه والفقهاء، فقد تميَّز عن غَيره من علوم الدين، وأصبح العلماء فريقين: الفقهاء، والعلماء على الحقيقة، وكانت غالبيَّة طلبة العلم المتكسِّبين يَقْصدون الفقهاء؛ لأنَّ الفقهاء هم حملة علوم الشريعة والعبادات، فكان لابدَّ لمن يُريد تولى القضاء والخطابة في المساجد من التتلمذ عليهم. 

واستعان (ميتز) بنص للجاحظ جاء في الجزء الأول من كتاب الحيوان قال فيه: (وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن، ويجالس الفقهاء خمسين عاماً، وهو لا يُعدُّ فقيهاً، ولا يجعل قاضياً، فما هو إلا أن ينظر في كتب أبي حنيفة وأشباه أبي حنيفة، ويحفظ كتب الشروط في مقدار سنة أو سنتين، حتى تمرَّ ببابه فتظن أنَّه من بعض العمال، وبالحري ألا يمر عليه من الأيام إلا اليسير، حتى يصير حاكماً على مصر من الأمصار أو بلد من البلدان). [ميتز، آدم: الحضارة الإسلاميَّة في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، بيروت، دار الكتاب العربي، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1967، م1، ص 320].

وحَظيَ الفقهاءُ في كثير من العهود بالتبجيل والتكريم، وعلى سبيل المثال كان الإمام مالك موضع تقدير الخليفة هارون الرشيد، وموضع ثقته، وكان شديدَ الإعجاب بكتابه الموطَّأ مُتفهِّماً لمناحيه المختلفة، مُدْركاً لكل ما يقوله الإمام. [طاش كبري زادة: مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، تحقيق: كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور، القاهرة، د.ت، ج3، ص86.].

وكذلك الإمام أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة، وخليفته، نال الكثير من الاحترام والتبجيل والحظوة، وتولى منصبَ القضاء لثلاثة من خلفاء بني العباس، وهم المهدي، والهادي، والرشيد، ونظرةً إلى مقدمة كتابه الخراج، تظهرنا على تلك المكانة الرائعة التي جعلته يخاطب أقوى ملوك ذلك الزمان، هارون الرشيد؛ حيث يذكِّره بالله تعالى وجبروته، ويحثُّه على العدل بالرعيَّة، والرشيد يستجيب لتلك النصائح المستمدَّة من الكتاب والسنة، ويكتب إلى عُمَّاله باتباعها، والاستعانة بالفقهاء في كل ما يَستغلق عليهم. [أبو يوسف: الخراج، القاهرة، المطبعة السلفية، 1346هـ، المقدمة].

ورغم ذلك، لم يسلم المشاهير من الفقهاء من أذى الحكَّام لوقوفهم ضدَّ رغباتهم في كثير من الأحيان، ومن الفقهاء الذين لحق بهم أذاهم سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، لرفض الأول البيعة لولدي سلمان بن عبد الملك، وإعانة الثاني لبعض الخارجين على الحكم.

كذلك لم يسلم الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه من تعذيب بعض الخلفاء بسبب رفضه تولي منصب القضاء؛ نظراً لما عليه الدولة من الظلم المبين، ومات بسجنه.

والإمام مالك تعرَّض للتعذيب بسبب فتواه في بيعة العباسيين.

وكذلك تعرَّض الإمام أحمد بن حنبل لمحنة قاسية بسبب موقفه من قضية خلق القرآن، وعُذِّب كثيراً من جرَّاء ذلك في أكثر من عهد، إلى أن رُفعت المحنة. [فتحي محمد حسين معبد: الفكر التربوي عند الفقهاء والمحدثين حتى نهاية القرن الخامس الهجري، رسالة دكتواره، كلية التربية بجامعة قناة السويس، الإسماعيلية (مصر) 1990، ص 27].

كذلك فلما كان من المعروف أنَّ حركة التعليم إذ بدأت عَقِبَ البعثة، كان من الطبيعي أن تكون لحمة هذا التعليم وسُدَّاه القرآن الكريم، فهو الحامل للرسالة التي بعث للدعوة إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان طبيعيّاً كذلك، بعد هذا أن تنشأ علوم وتظهر دراسات وفروع تدور حول هذا الكتاب السماوي فهماً وشرحاً واستنباطاً وبياناً لما جاء فيه من عقائد وأحكام ومعاملات. ولما كان (الفقه) يدور حول استنباط الأحكام من القرآن والسنة، شهدنا ارتباطاً وثيقاً بين المجالين: التربوي والفقهي.

[وللبحث تتمة في الجزء التالي]

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة المسلم المعاصر العدد 107، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة 1423

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين