إحياء الفصحى والحرب على العامية

إحياء الفصحى والحرب على العامية

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

إحياء اللغة العربية الفصحى يكاد يكون هاجس كلّ عربيّ غيور على دينه ولغته، وكلّما عرف المؤمن ما يبذله أعداء الإسلام من جهود مضنية لمحاربة القرآن الكريم بمحاربة لغته اشتدّت غيرته، وتوقّدت حميّته، وأدرك بما لا مجال فيه للشكّ أو الارتياب أنّ محاربة اللغة العربية هي المدخل لمحاربة القرآن الكريم، والكيد لدين الله كلّه، ولأمّة العرب والإسلام.

ولقد صاحب حملاتِ الاستعمار على الشرق المسلم دعواتٌ محمومة، وجهود مضنية للحطّ من اللغة العربية، والتشكيك في قدرتها على مواكبة التطوّر العلميّ في هذا العصر، وجهود أكبر لتلميع اللهجات المحلّيّة، واللغة العامّيّة لكلّ قطر عربيّ، والدعوة إلى اعتمادها في كلّ مجال، لاستبدالها باللغة العربية، التي هي لغة عصور الانحطاط بزعمهم، ولغة الكتب الصفراء، المستعصية على عقول الجيل الجديد وفهمهم، ذوي العلوم المتقدّمة، والثقافة العصريّة.! وتولّى كبر هذه الدعوات الهدّامة ثلّة من المستغربين، الذين تلقّوا دراستهم في الغرب، وكان على رأسها من لقّب بعميد الأدب العربيّ، وكانوا وكلاء أوفياء للاستعمار في تمرير مخطّطاته وتنفيذها، أكثر ممّا يطمح أو يتوقّع. [من خير من نافح عن العربيّة الفصحى في وجه هؤلاء الأديب الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله، ومن خير المفكّرين والأدباء الذين تحدّثوا عن هذا الموضوع فأشبعوه بحثاً، وكشفوا عن خيوط المؤامرة على لغة القرآن الكريم، ومداخلها ومخارجها، الدكتور محمّد محمّد حسين في كتابيه: " الاتّجاهات الوطنيّة في الأدب المعاصر " و " حصوننا مهدّدة من داخلها "، وكتبه الأخرى].

ونهض الغيورون في كلّ قطر عربيّ للوقوف في وجه تلك الدعوات الهدّامة، وتفنيد ترّهاتها وأباطيلها، وباءت تلك الدعوات ومن وراءها بالخيبة والخذلان بحمد الله تعالى وتوفيقه، ولكنّ دعوة الشرّ لم تلق سلاحها، ولم تستيئس، ولم تزل تجد لها في كلّ أرض جذوة، توقد منها ناراً للحرب والفتنة من جديد، وهي تلك اللهجات المحلّيّة، واللغة العامّيّة لكلّ قطر، فكان لابدّ من قطع مادّة الشرّ لقطع دابر الفساد، ولا يتمّ ذلك إلاّ بالدعوة إلى إحياء اللغة العربية الفصحى في الحديث والكتابة، ومجالات الأدب، وجوانب الحياة، وهذا ما اجتهد في تحقيقه دعاة الخير في كلّ قطر عربيّ بأساليب متنوّعة، ووسائل متعدّدة.

وكان من قدر الله تعالى على بلاد الشام، وبخاصّة مدينة حلب لقربها من تركيا أن انتشرت فيها اللغة التركيّة، فلا تكاد تجد رجلاً ممّن عاصر الدولة العثمانيّة إلاّ وهو يتقن اللغة التركيّة مع لغته العربيّة، وكان من أثر ذلك أن انتشرت الكلمات التركيّة في لغة الناس العامّيّة، حتّى أصبحت لغة الناس هجيناً غريباً من اللغتين، فلا هي لغة عربيّة على وجه، وما هي بلغة تركيّة صريحة.

وعاش الشيخ رحمه الله هذه الفترة، ولاحظ جنايتها على اللغة العربيّة وأثرها في ضعف اللغة العربيّة في نفوس أبنائها، وغزو الأساليب الأعجميّة لألسنتهم، فكانت حماسته شديدة لإحياء اللغة العربية الفصحى بكلّ قوّة، والحرب على العامّيّة بغير هوادة.

ولكنّ الشيخ كان رجلاً عمليّاً، بعيداً عن التكلّف، أو الكلام النظريّ الخطابيّ، أو الدعوة إلى ما لا يطيقه الناس، فركّز جهوده على هجر الكلمات العامّيّة، وبخاصّة تلك الكلمات الوافدة من اللغة التركيّة، أو اللغة الفرنسيّة، وعدّ ذلك خطوة مهمّة، لا يستطيع أحد أن يعتذر عن تحقيقها بأيّة حجّة.. ثمّ دعا بحاله ولسانه وقلمه كلّ مؤمن غيور على لغة القرآن الكريم أن يتدرّج في تقويم لسانه، وتهذيب لغته، لتكون أقرب إلى اللغة الفصيحة لفظاً ولهجة وأسلوباً.

أمّا لفظاً فقد عرفناه، وأمّا لهْجةً فقد كان يلاحظ رحمه الله على كثير من الناس حتّى طَلبة العلم الشرعيّ أنّهم يفخّمون ما حقّه الترقيق في كثير من الحروف، وأحياناً يرقّقون ما حقّه التفخيم، فليس ذلك ممّا يقتصر على القرآن الكريم وتجويده، بل على المؤمن أن يراعي ذلك في حديثه ونطقه.. فما كان يفوته خلل في لهجة كلمة من حديث أحد طلاّبه أو إخوانه إلاّ ونبّه عليه.

وأمّا أسلوباً فقد كان من أثر إتقان الشيخ للغة الفرنسيّة إلى جانب إتقانه للغة العَربيّة أن لاحظ تميّز اللغة العربيّة بأساليب في التعبير، لا تعرفها اللغة الفرنسيّة، كما أنّ اللغة الفرنْسيّة لها أساليبها الخاصّة في التعبير، وقد كان من تأثّر بعض الكتّاب والمترجمين منْ اللغة الفرنسيّة وغيرهَا إلى اللغة العربيّة أن ترجموا اللغة بأسلوبها فيما ترجموا، لأنّهم لم يكونوا متمكّنين من اللغة العربيّة، وهو ما يسمّى الترجمة الحرفيّة، ثمّ انتقلت تلك الأساليب في الكتابة إلى الصحف والمجلاّت، وإلى ألسنة المتكلّمين والخطباء والكتّاب.. وعمّت بذلك الرطانة واستشرت.

وكان من حرصه على إحياء اللغة الفصحى أنّه لا يسكت لجليسه على خطأ لغويّ في أيّ جانب كان، كما ينتقد اللهجة العامّيّة، ولو بأسلوب الممازحة لجليسه، فالمهمّ ألاّ يسكت على اللغة العامّيّة أن تدخل مجلسه، أو فصله في المدرسة.

وأمّا بيته فلم يعرف اللغة العامّيّة أصلاً، لأنّ الأولاد إنّما يتلقّون لغتهم من والديهم، فإذا قوّم الوالدان لسانهما تقوّمت لغة الأبناء وتهذّبَت.

وكلّ ذلك كان بغير تكلّف، أو تفاصح وتشدّق، فقد كان يكره التكلّف والتفاصح، وقد يقع في ذلك بعض الناس، فيكون مدْعاة إلى هزء الناس وتندّرهم، ويقدّم سلوكُهم ما ينفّر من دعوتهم، ويصدّ عنها.

وغيرة على اللغة العربيّة، وفي سبيل إحيائها، والمحافظة عليها، ومُقاومة اللغةِ العامّيّة، والحدّ من انتشارها جمع خمس مئة كلمة في رسالته: " أخطاء لغويّة شائعة وتصْويباتها "، وفيها الأخطاء اللغويّة، والأساليب غير الصحيحة، وفيها الكلمات العامّيّة.. وسعَى في طبعها، ووزّعها مجّاناً.. وكان في ذلِك الرائدَ لمن جاء بعده.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين