إجادة الأعمال

 

إنَّ إجادةَ الأعمالِ كلها غاية من وجود الإنسان على ظهر هذه الأرض: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} [الملك].

ولما كان الإنسانُ خليفةَ لله في أرضِه، وكان تصرُّفه في عَناصرها أثراً من نفخة الروح الأعلى فيه، وكانت مرتبة الإحسان المنشودة له بعض ما يَربطه بنسبه السماوي العريق، نسبه لله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه].

ومن هنا استحبَّ الله سبحانه له أن يتقن كل ما يصدر عنه، وألا يخرجه من بين يديه مَعيباً أو شائناً، فلو ذبح حيواناً ليأكله فليكن ذلك بأدب ولطف. رأى عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يقودُ شاة من رجلها ليذبحها، فقال له: (ويحك، قدها إلى الموت قوداً جميلاً). وعن المسيب بن دار قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب جَمَّالاً، وقال: (لمَ تحملْ على بعيرك ما لا يطيق؟) رواه ابن سعد في الطبقات.

وعَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّ رجلاً أَحَدَّ شفْرَةً، وَقَدْ أَخَذَ شَاةً لِيَذْبَحَهَا، فَضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، وَقاَلَ: أَتُعَذِّبُ الرُّوحَ؟، أَلا فَعَلْتَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْخُذَهَا. [أخرجه مالك في الموطأ] وعن وهب بن كيسان أنَّ ابن عمر رأى راعي غنم في مكان قَبيح، وقد رأى ابن عمر مكاناً أمثل منه، فقال ابن عمر، ويحك يا راعي حولها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل راع مسؤول عن رعيته) [أخرجه البخاري ومسلم].

ولو أنفذ القصاص في قاتل فليس القصد إزهاق روحه بأي وسيلة ـ وإن كان مجرماً بل يجب إقامة أمر الله بنزاهة وترفع، وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» [أخرجه مسلم]. وقال: (إنَّ الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) [رواه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان. قال الهيثمي في المجمع: رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَفِيهِ مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ]. والإتقان لا يتأتى بالادِّعاء والجهالة، فإنَّ لكل عمل أرضي أو سماوي قواعد يصح بها، وتُدرك بالتعلُّم والمران.

قوانين الإحسان وأخطاره:

ولن يبلغَ المرءُ درجةَ الإحسان حتى يستوعب هذه القواعد فقهاً وأداء وحتى يرقى من طور السلامة إلى طور الإجادة والتبريز للكلام قواعد نحوية وصرفية لا يقبل إلا مع توفرها فيه. والكلام يكون صحيحاً عندما يتفق مع هذه القواعد، ولكن لا يوصف بأنَّه بيان حسن إلا إذا كان عليه من رواء البلاغة طابعٌ جميل.

للصلاة سننٌ وأركان ينبغي أن يَستجمعها المصلي، فإذا تمت كانت صلاته صحيحة، ولكنها لا تبلغ درجة الإحسان إلا إذا تألَّق في حركاتها وسكناتها روح الخشوع، واطمئنان البصيرة إلى الله، وخلوص القلب في حضرته. قيادة السيارات لها تعاليم وشروط، والقدرة على القيادة تشيع بين خلق كثير، ولكن البراعة التي تدفع صاحبها إلى الأمام في مَيادين السباق لا تتاح إلا لنفر قليل.

إنَّ الإحسان ليس علماً عادياً ولا عملاً عادياً، إنما هو الشأو البعيد، الذي تبلغ الأشياء فيه تمامها، وتزهي فيه بجودتها ونقائها، والمسلم مخاطب بنشدان هذه المنزلة في كل ما يمسُّ من عمل. العادات، والعبادات في ذوقه وفقهه سواء، إذ العادات بمجرد اقترانها بنيَّة الخير تتحوَّل إلى عبادات، ولا يفرق بين الأمرين إلا أنَّ لهذه صوراً انفرد الشارع برسمها، أما تلك فهي مَتروكة لعلم الناس وتجربتهم على مرِّ العصور.

حدَّد الشارعُ أعدادَ الصلوات وهيئاتها، ولم يحدِّد طرق الزراعة وأنواع المزروعات، وجعل هذه فرض عين وتلك فرض كفاية، ولكن هذا الاختلاف في الوصف والتحديد لا أثرَ له في درجةِ الإحسان المفروضة على كل شيء، وغاية ما يستفاد منه أنَّ الشارع فتح بابَ الابتداع والانطلاق في شؤون الدنيا وأتاح للبشر أن يتصرَّفوا فيه كيف شاءوا. أما شؤون العبادات فهي مجمَّدة على صورها المأثورة لا مجال فيها لتحوير أو تطوير، وذاك خير.

ومجموعة الأعمال التي يتحرَّك بها جهاز الأمة في كل مجال، تختار لها المواهب الصالحة ويعد لها الأَكْفَاء من كل بيئة، وذلك لضمان الإحسانِ المكتوب على كل شيء. ويرى الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى أنَّ ذلك يتطلب مرحلتين: التعليم العام، ثم الإعداد الخاص.

 قال – رحمه الله -: (..وذلك أنَّ الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مَصالحهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة! ألا ترى إلى قوله تعالى: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا...(78)} [النحل]، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية، تارةً بالإلهام كما يُلهم الطفلُ التقامَ الثدي ومصه، وتارة بالعلم، فطلب من الناس أن يتعلَّموا جميع ما تُستجلب به المصالح، وكافَّة ما تُدرأ به المفاسد، إنهاضاً لما جُبل فيهم من غرائز فطرية ومطالب إلهاميَّة؛ لأنَّ ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح ـ الكافلة لحياتهم ـ سواء كانت من قبيل الأفعال، أو الأقوال، أو العلوم، أو الاعتقادات، أو الآداب الشرعية والعاديَّة.

وفي أثناء العناية بالأجيال الناشئة، وتنمية مَواهبها الفطرية يقوي في كل واحد من الخلق ما امتازَ به، ويبرز فيه على أقرانه الذين لم تهيئهم الأقدار على غراره، فلا يأتي زمانُ التعقل حتى ينضج فيه ما اختصَّ به من مَلَكات، فهذا يطلب العلوم، وهذا يعشقُ الآداب، وهذا يتَّجه لبعض المِهَن، وهذا يهوى الرياضة والفروسيَّة، وهذا يحبُّ الكفاح والجلاد، وهذا ينشد التقدُّم والرياسة... الخ.

وإذا كان كل واحد قد غرزت فيه القدرة على التصرف العام، والفهم لقدر مُشترك من شتى المعارف إلا أنَّ العادة جرت بغلبة بعض الميول الأدبيَّة والماديَّة عليه، فتكون التربية الصحيحة تتبع هذه الميول بالإنماء والرعاية، ثم توزيع الأعمال على المكلفين بما يوائمُ طبائعهم، وعندئذ ينهضُ كل مُكلَّف بأداء ما هو راغب فيه محسن له).

وبعد أن شرح الشاطبيُّ رحمه الله تعالى النظام الدراسي الذي يَقترحه للطلاب وفق خصائصهم النفسيَّة قال: (وهكذا يكون الترتيب مع من ظَهرت عليه صفاتُ الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور، فإنَّه يمال بهذا الصنف إلى ما يرغب، ويعلم آدابه المشتركة، ثم يختار له الأولى فالأولى من صنائع التدبير كالعرافة أو النقابة أو الجُنديَّة أو الهداية أو الإمامة أو غير ذلك مما يَليق به، وما ظهرت له فيه نجابة ونهضة، وبذلك يتربى لكل عمل هو فرض كفاية قوم يؤدونه.

وطريق المعرفة الطويل يبدأ بمرحلة مُشتركة ـ حيث يقفُ السائر، ويعجز عن المسير ـ فقد وقف عند مَرتبة من الثقافة تحتاج إليها الأمَّة في الجملة، وإن كانت به قوة، ومضى في السير حتى وصل إلى أقصى الغايات فإنه سيحرز من الكفاية ما يُرشِّحه لأداء فروض كفائيَّة أخرى رفيعة القدر في شؤون الدين والدنيا.

قال الشاطبي ـ ونلتزم هنا النص الحرفي ـ: فأنت ترى أنَّ الترقي في طلب الكفاية ليس على ترتيبٍ واحد، ولا هو على الكافَّة بإطلاق، أو على البعض بإطلاق، ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل أو العكس، بل لا يصح أن ينظر فيه بنظر واحد حتى يُفصِّل بنحو من التفصيل، ويوزِّع في أهل الإسلام في مثل هذا التوزيع، وإلا لم ينضبط القول فيه بوجه من الوجوه، والله أعلم وأحكم.

 وقريب من كلام الشاطبي في توزيع الأعمال على من يحسنونها وفق استعداداهم النفسي والعقلي ما قاله ابن القيم في تغاير التكاليف والواجبات بالنسبة إلى ميول الأشخاص ومواهبهم. قال: (فالغني الذي بلغَ له مال كثير ونفسه لا تسمحْ ببذل شيء منه، فصدقتُه وإيثارُه أفضل له من قيام الليل وصيام النهار نافلة. والشجاع الشديد الذي يَهابُ العدوُّ سطوتَه: وقوفه في الصف ساعة، وجهاده أعداء الله أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع. والعالم الذي قد عَرف السنَّة، والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح. وولي الأمر الذي قد نَصَّبَه الله للحكم بين عباده، جلوسه ساعة للنظر في المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم، وإقامةِ الحدود، ونصر المحق، وقمع المبطل أفضل من عبادة سنين من غيره. ومن غلبت عليه شهوة النساء، فصومه له أنفع وأفضل من ذكر غيره وصدقته.

وتأمَّل تولية النبي صلى الله عليه وسلم (لعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وغيرهما من أمرائه وعماله، وترك تولية أبى ذر، بل قال له: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» [أخرجه مسلم]. وأمره وغيره بالصيام، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: مُرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ"، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لِي: "عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ" [أخرجه أحمد وغيره].  وأمر آخرَ بأن لا يغضب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، قَالَ: «لاَ تَغْضَبْ» فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: «لاَ تَغْضَبْ» [أخرجه البخاري]. وأمر ثالثا بأن لا يزال لسانه رطبا من ذكر الله، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيَّانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ خَيْرُ الرِّجَالِ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ"، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا، فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ؟ قَالَ: "لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ" [أخرجه أحمد، والترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ].

ومتى أرادَ الله بالعبد كمالاً وفَّقه لاستفراغ وسعه فيما هو مُستعدٌّ له، قابل له قد هيئ له، فإذا استفرغ وسعه بَزَّ على غيره وفاقَ الناس فيه، كما قيل: (مازال يسبق حتى قال حاسده هذا طريق إلى العلياء مختصر). 

وهذا كالمريض الذي يَشكو وجع البطن مثلاً إذا استعمل دواء ذلك الداء انتفع به، وإذا استعمل دواء وجع الرأس لم يصادف دَاءَه. فالشحُّ المطاع مثلاً من المهلكات ولا يزيله صيام مائةِ عام ولا قيام ليلها. وكذلك داءُ اتباع الهوى والإعجاب بالنفس لا يُلائمه كثرة قراءة القرآن واستفراغ الوسع في العلم والذكر والزهد، وإنما يُزيله إخراجه من القلب بضده.

ولو قيل: أيهما أفضل، الخبز أو الماء؟ لكان الجواب: أنَّ هذا في مَوضعه أفضل، وهذا في موضعه أفضل.  كذلك فنون العبادات.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

من كتاب: (الجانب العاطفي من الإسلام، للعلامة: محمد الغزالي)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين