إتحاف الساجد الراكع بذلة المتكبر ورفعة المتواضع (3)

*  الجزاء من جنس العمل:

إنَّ المُتواضِعَ لما أدنَى من قَدْرِه، وأَخفضَ مِن شَأنِهِ، رفع الله درجتَهُ لِحُسنِ قَصدِه، بل لما أوحى الله إلى الجبال: إني مُكَلِّمٌ على واحدٍ منكم نبيًا، تطاولت الجبالُ، إلا طور سيناء فَتَواضع، فكلم الله مُوسَى عليه([1]) !

أما المتكبر فما تكبر إلا ليرفع سعره؛ فجوزي بنقيض قصده، فَبِقدْرِ كِبْرِهِ كانت مذلته، وقد شخص العلة الطبيب الشرعي ابن تيمية فكتب في تقريره:

إنهم قومٌ لما أذلوا عباد الله؛ أذلهم الله لعباده([2]) !

 

من فرائد الفوائد

إن من أسماء الله "المتكبر"، والكبرياء في حق الله كمال ومدح، وفي حق العباد نقص وذم، فلماذا؟!

أهداك النابلسي مثالًا عجبًا تضمن الإجابة، فقال:

هَبْ أنك سَتُجْري عملية جراحية بمائة ألف دولار، فتوجهت إلى صديقك تلتمس المبلغ، فقال: مبلغك عندي، وهو كاذب ! ثم توجت لآخر تطلب المبلغ، فقال: مبلغك معي، وهو صادق !

فالذي ادعى امتلاك المبلغ كاذب وكذبته نقص، أما الآخر؛ فلو قال لك: لا أملكه وتواضع لك فهذا نقص؛ لأنه يملكه ! كما لو ادعى الجاهل العلم، والبخيل الكرم، أما لو اعترف الغني بماله، والعالم بعلمه، والبخيل بكرمه، فهذا كمال ومحمدة !

 

وعليـــــــــــــــــــــه:

فإن الله جلَّ وعلا خالق الكون، وفاطر الإنس والجن، حي لا يموت، حاضر لا يفوت، صاحب العزة والملكوت، والقدرة والجبروت، فإذا قال: إنني متكبر أفعل ما أشاء، وأقضي ما أشاء، فهذا قولٌ حق، وكمالٌ مطلق، فإذا تواضع وقال: لا أقدر على كل شيء فهذا ينافي الكمال، وحاشا ربَّنا وكلا !

أما العبد فإنه في نقصٍ تام، يعجز معه أن يُدَافِعَ جوعًا ولا بردًا، ولا نعاسًا، ولا موتًا، ولا مرضًا، فَكِبْرُ العبد جهالة بالرب، ونقص محض، فإذا تكبر كان لئيمًا كاذبًا، ذليلًا صاغرًا !

ويكفي كل متكبر ما أخرجه ابن ماجه في سننه من حديث ابن عباس م قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله سبحانه: " الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِى النَّارِ "([3]) !

 

قال عبد الله بن المبارك: رأس التواضع أن تَضَعَ نفسك عند من دونك في نِعَمِ الدنيا؛ لتُعْلِمَهُ أنه ليس لك بدنياك فَضلٌ عليه، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا؛ لتُعْلِمَهُ أنه ليس له بِدُنياه فضلٌ عليك؛ فإن التَكَبُّرَ على الأغنياء تواضع !

 

لا يرى لنفسه قيمة !:

إن من اتهم نفسه دومًا، ولم يغترَّ بذاته يومًا، بل يتمنى أن يخرج كفافًا من دنياه، لا له ولا عليه، فهذا أُبَشِّرُهُ بأنه على أُولى بشائر العافية، ألا ترى أن الله عزَّ وجلّ اصطفى جبل الجودي مُسْتَقَرًّا لسفينة نوح، بعدما علا كلُّ جبل وتطاول، ولم يتواضع إلا هو([4])؟!

 

إخوتاه:

أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:  يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: " مَنْ تَوَاضَعَ لِي هَكَذَا -وَجَعَلَ يَزِيدُ بَاطِنَ كَفِّهِ إِلَى الْأَرْضِ وَأَدْنَاهَا إِلَى الْأَرْضِ- رَفَعْتُهُ هَكَذَا ! -وَجَعَلَ بَاطِنَ كَفِّهِ إِلَى السَّمَاءِ وَرَفَعَهَا نَحْوَ السَّمَاءِ- " ([5]).

 

بِقَدْرِ ما يُدنِى المرء نفسه من الثرى، فإنه يقتربُ من الثُرَيَّا، وقد نَظَمَ ابن الحاج هذا المعنى حكمة بليغة قال فيها:

" إنَّ مَن أَرادَ الرفعةَ فليتواضَع، فإنَّ العِزَّةَ لا تُستَحَقُّ إلا بِقَدْرِ النُّزُولِ " !

ولهذا أشعل الفضيل بن عياض نار وعظه في مكامن قلبك بقوله:

"مَن رَأَى لنفسهِ قيمة؛ فَلَيسَ لَهُ فِي التواضعِ نَصِيبٌ" !

فهذا عمر رضي الله عنه يبلغه أن ابنه قد اشترى فَصًّا لخاتمه بألف درهم، فاستدعاه قائلًا: عزيمةُ أمير المؤمنين عليك إلا بِعْتَهُ ثم اشتريت آخر بدرهمٍ واحد، وكتبت عليه: رحم الله امرأً عرف قدر نفسه !

وهو الذي حمل على عاتقه قربة ماء، فلما عُوتِبَ قال: لما أتتني الوفود سامعين طائعين؛ دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أعسرها !

وعلى دربه إبراهيم بن أدهم، كان يسير يومًا بجوار أحد البيوت، وَقَدَّرَ الله تعالى أن تخرج صاحبة البيت برماد في إناء وألقت به في الطريق، وما علمت أن إبراهيم بن أدهم مارًا فيه !

أما إبراهيم؛ فتلطخ بالرماد، ثم اجتمع أهل الحي، وقالوا للمرأة: حسبنا الله ونعم الوكيل، هذا إمامنا إبراهيم بن أدهم ! فأخذ يقول في تواضع نادر:

لا عَليْكُم، لا عَليْكُم!

إنَّ من استحَقَّ النارَ، ثُم صُولِحَ على الرماد لَهُو من الرَّابِحين

فإن اللهَ نَازَلَهُ رمَادًا دون جَمرٍ أو نَار !

 

ألسنة الخلق أقلام الحق:

  وهذه جملة نفيسة !

  فإذا نطق الناس وقالوا عنك: مؤمنٌ طائع، حليمٌ متواضع، فإنك هينٌ لين، وهذه عاجل بشرى المؤمن !

وإليك أمارة دالة نافعة:

قل لأحد أحبابك أن يتوجه لبعض أرحامك وجيرانك وإخوانك بل والأجير عندك، ويسألهم عنك، فإن وجدت خيرًا فاحمد الله، وإلا فَعُد إلى نفسك تهذبها؛ ذلك أن جلَّ الصادقين من حولك يقولون الحق فيك في غيبتك بلا مداهنة أو مداراة، ولا مواربة أو مجاراة !

واعلم أن من هُم خير منك، تواضعوا لعباد الله أكثر منك، فلم تتكبر ولو زعمت أنك متواضع؟!

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً        فكم تحتها قوم همُ منك أرفـع

فإن كنت في عز وخيـر ومنعـة        فكم مات قوم همُ  منك أرفـع

 

تعرف على نفسك:

إن الإنسان خُلِقَ ضعيفًا، فالبرد يؤذيه، والجوع يهلكه، والفقر يَأْسِرُه، والمرض يَحْبِسُه، بل ربما تعلقت بقدمه شوكة فمرض في الفراش شهرًا، أو هَدَّده مَخلوقٌ مثله فاختبأ في غاره دهرًا !

ولذا؛ أجمع العارفون بالله أن من عرف قدر نفسه، تواضع لربه، ولم يتكبر على آدمي مثله !

فهذا مطرف بن عبد الله ينظر يومًا إلى الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، وعليه حلة يختال فيها، فقال له: ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟! فقال المهلب: أما تعرفني؟! فقال له: بل أعرفك، أليس أَوَّلُكَ نطفة مَذِرَة، وآخرك جيفة قَذِرَة، وحشوك فيما بين ذلك بول وعَذِرَة؟! فأرخى رأسه، وكفَّ عن كِبْرِه !

وقد جعل ابن عوف هذه الحادثة شعرًا فقال:

عَجِبْتُ مِنْ مُعْجَبٍ بِصُورَتِهِ         وَكَانَ بِالْأَمْسِ نُطْفـَةً مَـذِرَهْ

وَفِي غَدٍ بَعْدَ حُسْنِ صُورَتِهِ          يَصِيرُ فِي اللَّحْدِ جِيفَةً قَـذِرَهْ

وَهُوَ عَلَى تِيهِـه وَنَخْوَتِـهِ          مَا بَيْنَ ثَوْبَيْهِ يَحْمِلُ الْعَذِرَهْ([6])

وهذا التابعي المتواضع، محمد بن واسع، يرى ابنًا له يمشي باختيال وتكبر، فقال له: أتدري بكم اشتريت أمك؟ ما اشتريتها إلا بثلاثمائة درهم، وأبوك لا كثر الله في المسلمين مثله، ثم تمشي هذه المشية !

أهداك الشافعي نصحًا نفيسًا، يجعلك بالتواضع رئيسًا ! فقال:

لا ترفع سِعْرَك، فَيَرُدَّكَ الله إلى قيمتك

ألا ترى أن من طأطأ رأسه للسقف أَظَلَّه، وأن من تعالى بِرأسِهِ شَجَّه؟!

فهذا قدرك أيها العبد، فإن عرفت نفسك، تواضعت لربك، ولم تتكبر على مخلوق مثلك ! ثم إن الله أمرك، وقال لك: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37] !

 

امتحان فاصل

انزع شوك الكبر بملقاط التواضع

كَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا دَخَلَ بَيتَهُ يَكُونُ فِي خِدْمَةِ أَهْلِهِ([7])! فَعُدِ الآن إلى بيتك، واختبر تواضعك، فَقَبِّل يدَ أبيك وأمك، ثم قل: أنا مسئولٌ عن الأعمال المنزلية اليوم كلها، فإن فعلت كنت متواضعًا فاحمَدِ الله، أما إن تَلَكَّأْتَ بِعِلَّةِ الانشغال؛ فإنَّ الداءَ له أصلٌ في قلبِكَ، وربما أطفئ من محاسنك ما اشتهر، وسلب من فضائلك ما انتشر !

 

لا ترى لنفسك فضلًا على أحد:

وهذه نصيحةٌ بليغةٌ جامعة، وَعِظَةٌ وجيزةٌ صادعةٌ !

وإنها وربي قلب سنتنا، وثمرةٌ نَضِرَةٌ للتي قبلها، وأنفس جملة آواها بحثنا !

ودونك سؤالًا رائعًا، وجوابًا ماتعًا، يلخص لك المقصود:

  جاء رجل إلى الرجل الصالح بكر بن عبد الله، فقال له:     عَلِّمني التواضع !

  فأجاب قائلًا: إذا رأيت من هو أكبر منك فقل: سبقني إلى الإسلام والعمل الصالح، فهو خيرٌ منِّي ! وإذا رأيت من هو أصغر منك فقل: سبقته إلى الذنوب والعمل السيء، فأنا شرٌ منه ! وإذا كان عالمًا فقل: هذا أتاه الله ما لم أُؤْتَ، فَعَلِمَ ما أجهل، وهو يعملُ بعلمِهِ ! وإذا كان جاهلًا فقل: هذا عصى اللهَ بجَهلٍ، أمَّا أنا فعصيتُه بِعِلْمٍ، وإذا رأيت كافرًا فقل: لا أدري بم يختم لي وله، فربما أسلم فيختم له بخير العمل، وربما أُخْذَل فَأَكْفُر، فيختم لي بسوء العمل !

وهذا إمام الدنيا الإمام الشافعي يهتف قائلًا في تواضع جم:

أُحبُّ الصالحين ولستُ منهم       عساني أنْ أنالَ بهم شفاعة

وأكرهُ من تجارتُه المعاصي       ولو كنَّا سواءً في البضاعة

فرد عليه تلميذه الإمام أحمد بن حنبل:

تُحبُّ الصالحين وأنت منهم       عساهم أن ينالوا بك الشفاعة

وتكرهُ من تجارتُه المعاصي        وَقَاكَ الله من تلك البضاعة

 

قال أبو عَبّاد الكاتب:

"ما جَلس إليَّ رجل قَطَ إلا خُيِّل إليَّ أنّي سأجلسُ إليهِ" !

 

استشعر عظمة ربك عزَّ وجلّ:

تأمل ما قاله د. محمد راتب النابلسي:

أفاد ثلة من العلماء أن في الكون ما يزيد عن مِليُون مليون مَجَرَّة، وفي كل مَجَرَّة ما يزيد عن مِليُون مليون نجم، وأن بين القمر والأرض [ثانية ضوئية واحدة]؛ ذلك أن الضوء يقطع في الثانية [300 ألف كم]، وأن بين الشمس والأرض [8 دقائق]، وبين الأرض وأقرب نجم ملتهب [4 سنوات ضوئية]، فإذا أردت قطع المسافة بسيارتك؛ فإنك تحتاج إلى قرابة [50 مليون سنة]؛ لتصل إليه !

فكيف لو عرفت أن نجم القطب يبعد عنا [4000 سنة ضوئية]، مما تحتاج للوصول إليه لأكثر من [1000 مليون سنة]، ثم إن آخر مجرة اكتشفها العلماء تبعد عن أرضنا [16000 مليون سنة ضوئية] !

 

  أخي:

  أين موقعك في كَونِ ربك؟! حدثني عن قُوَّتِك ! صِفْ لي هيبتك !

  أتذكر معي ذاك الزلزال الذي أصاب اليابان قبل شهور، ولما زادت قوته [نصف درجة] سقط فيه [80 ألف قتيل]، ومثلهم تحت الأنقاض، بل أفاد علماء الزلازل أن زلزالًا واحدًا تزداد درجته [5 درجات] عن درجته المعتادة، كفيل بضرب الأرض؛ لتصبح أثرًا بعد عين، ولا يبقى إنسان على وجهها !

فـ {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]

أبث إليك كلامًا نفيسًا من درر ابن القيم جاء فيه:

إن العبد الذي شَمُخَت نفسُهُ، إذا ذكر عظمة ربه، وغضبه على من نازعه ذلك؛ تواضعت إليه نفسه، وانكسر لعظمة الله قلبه، واطمأن لهيبته، وأَخْبَتَ لسلطانه، وهذا غاية التواضع !

وسبيل ذلك أن يتولد التواضع من العلم بالله، ومعرفة أسمائه وصفاته، ونعوت جلاله، ومحبته وإجلاله، ثم معرفته بنقص ذاته، وعيوبه وآفاته، فيحصل له عندئذ خلق التواضع، فينكسر قلبه لله، ويخفض جناحه رحمة بعباد الله، فلا يرى له على أحدٍ فضلًا، ولا يرى له عند أحدٍ حقًا، بل يرى كلَّ فضلٍ للناس عليه، والحقوق لهم قِبَلَهُ، وهذا وربي خُلُقٌ إنما يعطيه الله تعالى من يحبه، ويكرمه، ويقربه([8]) ! فثبت إذن:

أنَّ أعظم سبيل لاستشعار عظمة الألوهية، أن تلزم ميراث النبوة !

ذلك أن من طلب العلم عرف ربه، ومن عرف ربه أدرك قدر نفسه، فيتواضع لعباد الله حتى يصبح التواضع له سجية، فيعفو عن خصمه، ويتنازل عن حقه، ويغض الطرف عن فُجُورِ مخالفه !

العلم حربٌ للفتى المتعالي        كَالسَّيلِ حربٌ للمكان العالي

 



([1]): ذكر الأثر ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق (6/286)،  عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى دون سند أو عزو.

([2]): ابن تيمية / مجموع الفتاوى (28/120).

([3]): سنن ابن ماجه، رقم الحديث: (4175)، ص (694)، وقال الألباني: صحيح.

([4]): ذكر القول محمد السفاريني في كتابه: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (2/181) عن مجاهد دون سند أو عزو.

([5]): مسند أحمد، رقم الحديث: (309)، (1/399)، وقال الألباني: صحيح، وهو حديث مرفوع.

([6]): الماوردي / أدب الدنيا والدين ص (291).

([7]): صحيح البخاري (1/136).

([8]): ابن القيم / الروح  (1/233-234).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين