إتحاف الساجد الراكع بذلة المتكبر ورفعة المتواضع (2)

أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَلاَ زَادَ اللَّهُ بِالْعَفْوِ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ " ([1]).

 

  إنَّ العبد إذا كتم سِعْرَه؛ حفظ الله قَدْرَه، وإذا أدنى رتبة نفسهِ لله؛ رَفَعَهُ اللهُ في دنياه وأُخرَاه([2])؛ ألا ترى أن الماء لمَّا نزل إلى أسفل الشجرة صعد إلى أعلاها؟!، فَلَمَّا قيل له: كيف ارْتَفَعْتَ وأنت في المَذَلَّةِ؟! رد بلسان حاله: من تواضع لله رفعه الله([3]) ! وقد اقتنص هذا المعنى شاعرٌ فحلٌ؛ فأرجز شعرًا قال فيه:

تواضَع تكن كالنجم لاح لناظرٍ        على صفحات الماء وهو رفيعُ

ولا تك كالدُخَان  يعلو بنفسـهِ        إلى طبقات الجو  وهو وضيعُ

 

  لهذا ألفيتُ أرفعَ الأمة قدرًا، وأمجدَها فضلًا، إمام المتواضعين صلى الله عليه وسلم يَركَبُ الحمار، ويُعَالج النعل، ويقول: " مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِيْ فَلَيْسَ مِنِّيْ "([4]) ! وقد قال له الصحابة يومًا: لو اتخذنا لك شيئًا ترتفع عليه تُكلم الناس فقال صلى الله عليه وسلم: أَيُّهَا النَّاس ! لَا تَرْفَعُوْنِي فَوْقَ قَدْرِي، فَإِنَّ اللهَ اتَّخَذَنِي عَبْدًا قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَنِي نَبِيًّا "([5]) ! فلما أراد ألا يرتفع، أبى الله إلا أن يعلو ويرتفع، بل خَلَّدَ ذِكْرَه، وأعلى قَدْرَه، وهذا مُؤَكَّدٌ معلومٌ؛ فمن تواضع لله رفعه !

 

  سمع ملكٌ عربي برفعته، فشد الرحال في رؤيته؛ فلما رآه اهتز قلبه، وارتعدت فرائصه، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم تواضعًا فريدًا بقوله: " هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ "([6]) !

 

 

 

 

خافضةٌ مضمونة

أورد المنذري في ترغيبه وترهيبه بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو م أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بعمله، سَمَّعَ الله بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ "([7]) ! إذا أراد العبدُ أن يظهر للناس وجاهته ورفعته، فَرَاحَ يرفع من سِعْرَه ورتبته؛ لِيَعْظُمَ عندَهُم، ويعلو في أعينهم؛ أَظْهَر الله مساوئه التي أخفاها عنهم، فَازْدَرَتْهُ أعينُهم، فَفَاته مقصوده منهم، فلا يُثاب على مقالته، بل يزيد الناس في ذِكْرِ مَذمَّتِهِ وَحَقارتِهِ([8]) !

 

ولذا؛ قَرَعَ الإمام عمر رضي الله عنه أسماع المتكبرين فقال لهم:

تواضعوا؛ فإن من تكبر خفضه الله، فهو في نفسه كبير، وفي أعين الناس صغير، بل إنه وربي- أهون عليهم من كلبٍ حقير([9]) !

 

وإليك أنموذجًا من هؤلاء بلسان الإمام المدائني:

قال: رأيت رجلًا يطوف بين الصفا والمروة، وقد اعتلى بغلته وهو في تِيهٍ وعُجْب، وبين يديه غلمان يُعَنِّفُونَ الناس ليفْسَحُوا له الطريق، ومع تراخي الأيام رأيته مسافرًا على قدميه، متعبًا منهكًا، ويحمل متاعه على ظهره، ثم إنه حافي القدمين، حاسر الرأس، طويل الشعر، فقلت له: أَرَاجِلٌ في هذا الموضع، وأنت من يطوف ببغلته بين الصفا والمروة؟! فقال الرجل:

إنني ركبت حيث يمشي الناس، فكان حقًا على الله أن أمشي حيث يركب الناس

فمن تكبر وضعه الله !

 

إن الله تعالى لما ذكر أهل التواضع وأنهم {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] عبر بقوله: {عَلَى الْأَرْضِ}؛ دلالة على استعلائهم، وعلوهم ورفعتهم، أما حين نهى عن التكبر بقوله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37] قال {فِي الْأَرْضِ}؛ إشارة لدنو رتبته، وسقوط قيمته، فإنه فيها لا عليها !

 

مدرسة النبوة: سيرة ومسيرة:

أنتجت المدرسة النبوية أعلامًا سَكَبُوا التواضع بفعالهم في قُلوبِنَا سَكْبًا، وهم من أبى التنازل لأحدٍ يومًا، بل ربما اشترط بعضهم ألا يركع في صلاته؛ لِيَدْخُلَ فِي الدين، فلما شقَّ الإيمانُ شغاف قلوبهم بيقين؛ ألفيناهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين !

فهذا إمامهم المصطفى صلى الله عليه وسلم يحمل فتاة صغيرة خلفه على دابته يوم خيبر، ويسير بها قرابة [90 كم]، ولما قسم الفيء أعطاها قلادة ثمينة ! قالت الفتاة: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم قلادة ثم أعطانيها، فَهَمَمْتُ أن أَلبِسَهَا؛ فَأَبَى، ثم ألبسني إياها بيده، وَجَعلها في عُنُقِي، فو الله لا تفارقني أبدًا ! ثم أوصت الفتاة أن تدفن القلادة معها إذا ماتت([10])؛ فإذا أتت النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة قالت له: القلادةَ القلادَةَ يا رسول الله !

  أي رتبة من التواضع هذا؟! أيلاطف فتاة صغيرة في بلادِ الحرب ويترك فيها بصمة تستقر معها في كفنها، بل وإلى ساحة القيامة إذا أتت ربها؟! فصنيع نبينا صلى الله عليه وسلم هذا، أنزول في قَدْرِهِ أم صعود؟!

 

  وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحدُ ألمع فرسان المدرسة النبوية؛ يأتيه وفدٌ عراقي بإمامة الأحنف بن قيس، وهو يغسل إبل الصدقة بنفسه ! فنادى الأحنف قائلًا: تعال أَعِنْ أمير المؤمنين ! فقال أحد الوفد: هلا أمرت عبدًا من عبيدك ينظفها يا أمير المؤمنين؟! فقال عمر رضي الله عنه بِلِسَانٍ يَقْطُرُ تواضعًا:

وأي عبدٍ هو أعبد مني وَمِنَ الأحنف؟!

إن من وَلِيَ أمر المؤمنين كان لهم بِمَنزلةِ العبد من السيِّد !

 

 

  وهذا خِصامٌ يُعْلَنُ بين الحسين بن علي وأخيه محمد بن الحنفية من جهة أبيه، فلما طال الخصام كتب محمد لأخيه الحسين رسالة عنوانها التواضع قال فيها:

يا أخي، لقد طال الخصام بيننا، وإنك لخير مني، وأمك خيرٌ من أمي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " وَخَيْرُهُمَا الَّذِى يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ "([11])، وإني أخشى أن أبدأك بالسلام فأكون خيرًا منك، فابدأني أنت السلام بالله عليك !

 

رسالة مآثر فرسان المدرسة النبوية:

إنهم قومٌ لما تواضعوا لخلق الله؛ جعل الله مجدهم في الناس قائمًا، وذكرهم فيهم دائمًا،  بل سَطَرَ الشعراء فيهم أنفس قصائدهم، وَدَبَّجَ الخطباء فيهم أجود قلائدهم، وأما فِعَالُهم فيحسبها الجاهل مشاهد ذلة؛ فإذا عاينها ألفاها معارج عزة، وما كذبت سنة الله قط !

 

قال أحد السلف: والله ما دخلت مجلسًا أرى نفسي فيه أصغر الناس وأدناهم؛ إلا خرجت وأنا أعلاهم، وما دخلت مجلسًا أرى نفسي أرفع الناس وأعلاهم؛ إلا خرجت وقد وضعني الله أدناهم!

 

تواضعنا لعلمه فانتفعنا به:

وَجَّهَ هارون الرشيد كتابًا إلى الإمام مالك أن يأتيه بكتابه "الموطأ"؛ ليتلوه عليه وعلى أولاده، فقال الإمام مالك لرسول الخليفة: قل له: إن العلم يؤتى ولا يأتي، ويزار ولا يزور ! فغضب الخليفة وأشار عليه أحد جلاسه أن يذكر لأهل العراق معصية مالك له !

فبينما القوم في غضبهم، وإذا بالإمام مالك يدخل وليس معه كتاب، فَسَلَّمَ وَجَلَس !

فقال له الخليفة معاتبًا: أُرْسِلُ لك يا مالك فتخالفني !

فقال مالك: يا أمير المؤمنين إن الله عزَّ وجلّ بعث إلينا محمدًا، وأمر بطاعته، واتباع سنته، وأن نرعاه حيًا وميتًا، وقد جعلك في موضعك هذا لعلمك، فلا تكن أول من يضيع العلم فيضيعك الله ! ثم إني رأيت من هو أدنى منك يوقر هذا العلم، فأنت أحرى بذلك، فبكى هارون الرشيد من كلامه !

ثم تلا مالك عليه قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ..} [النساء: 95] وقال له: إن الآية لما نزلت قال ابن مكتوم: يا رسول الله، قد أُنزِلَ الله في فضل الجهاد ما أُنزِل، وأنا رجلٌ ضرير، فهل لي من رخصةٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أدري ! فقال زيد كاتب الوحي: وقلمي رطب لم يجف، حتى غشي النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، ووقع فخذه على فخذي، فكادت تندق من ثقل الوحي، ثم قال: اكتب يا زيد {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} !

 

رسالة الآية بلسان الإمام مالك إلى هارون الرشيد:

يا أمير المؤمنين، هذا حرفٌ واحدٌ بعث الله فيه جبريل والملائكة مسيرة خمسين ألف عام حتى أنزله على نبيه، أفلا ينبغي لي أن أُجِلَّهُ وَأُعِزَّه؟! فقال هارون: قم بنا إلى منزلك !

  فأتى هارون الرشيد بيت مالك، فانتظر على الباب طويلًا، فلما خرج له مالك قال الرشيد: ما هذا يا مالك؟! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فحبستنا على بابك ! فرد مالك: أعلم أنك لم تُرِد مني جاهًا ولا منصبًا، وإنما تريد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أتهيأ له، فاغتسلت وأخذت أحسن ثيابي وأذنت لك !

  فجلس الرشيد إلى مالك، وقال له: اقرأ عليَّ !

  فقال مالك: ما قرأت على أحدٍ منذ زمان، وإنما يُقرأُ عليَّ !

  فقال الرشيد: أخرجِ الناسَ لأقرأَ عليك !

  فقال مالك: إن العلم إذا مُنع منه العَامَّة لأجل الخاصة لم تنتفع به الخاصة !

  فقرأ أحدُ أتباعه، وكان الرشيد متكئًا بجوار مالك، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين من تواضع لله رفعه الله ! فاعتدل في جلسته، وجلس منه مجلس التلميذ من شيخه !

  وقيل: إن مالكًا قال: إن هذا العلم لا ينفع سرًا، قمْ إلى المسجد ندرسْه مع الناس، فانطلق رجال الخليفة إلى المسجد، وهيئوا له كرسيًا، فافتتح مالك بحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم قال:: من تواضع لله رفعه ! فعلم الخليفة أنه المقصود، فأمر بتنحية الكرسي، وجلس مع الناس !

  فلما كان بعد مدة قال الخليفة للإمام مالك: تواضعنا لعلمك فانتفعنا به، وتواضع لنا علم سفيان بن عيينة فلم ننتفع به، وكان يأتيهم فيحدثهم([12]) !

 

  إنَّ الرشيد بتواضعه لمالك، نفعه الله بعلمه، وقد عَظُمَ قَدْرُه، وارتفع سعرُه، فحيث ظنَّ سُقوطَ القيمة، كانت الرفعة العظيمة، والوجاهة المستديمة، بِشَخْصِهِ مُقيمة !

  وكذا مالكٌ، فإنَّه لما تواضع للعلم الذي أَمَدَّهُ بِهِ ربُّه، عَظُمَت رُتبَتُه، وفَاحَت الألسن بِذِكْرِ رفعته، وقيام هَيبَتِهِ، حتى قال سعيد بن أبي مريم: إن هيبة مالك تفوق هيبة السلطان ! بل إن التلامذة كان يتباهون بالرواية عنه، ورَفْعِ سعرهم به، ولذلك قال بشر الحافي: حدثنا مالك، وأستغفر الله، إنَّ من زينة الدنيا أن يقول الرجل: حدثنا مالك ! ولما عاين الفقيه المحدث سفيان الثوري إجلال الناس له في مجلسه أرجز شعرًا قال فيه:

يَأْبَي الجوابَ فلا يراجع هيبـة       فالسائلون نواكـس الأذقـان

أدب الوقار وعز سلطان التقى       فهو المهيب، وليس ذا سلطان

 



([1]): صحيح مسلم، رقم الحديث: (6757)، (8/21).

([2]): النووي / شرح صحيح مسلم (16/142)

([3]): بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية (3/285).

([4]): المنذري / الترغيب والترهيب، رقم الحديث: (91).

([5]): الألباني / السلسلة الصحيحة، رقم الحديث: (2550)، (6/49).

([6]): سنن ابن ماجه، رقم الحديث: (3312)، ص (557).

والقديد هو: اللحم المشوي إذا مُلِحَ وعُلِّقَ.

([7]): المنذري / الترغيب والترهيب، رقم الحديث: (25)، (1/7).

([8]): الكلاباذي / بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخيار (1/322)

([9]): الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد (2/110).

([10]): مسند أحمد (45/108) بتصرف.

([11]): صحيح البخاري، رقم الحديث: (6077)، (3/152)، صحيح مسلم، رقم الحديث: (6697)، (8/9).

([12]): ابن العماد / شذرات الذهب (1/283)، الذهبي / سير أعلام النبلاء (8/66)، القاضي عياض / ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/47).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين