إبراهيم بن أدهم‏ البطل الزاهد الشهيد

روت الكتب عن إبراهيم بن أدهم أسطورة جذابة بهيجة، فقد جعلته أميراً من‏ أعرق بيوت الملك بفارس تحيط به أبهة السلطان وجلال التاج، ويسير في موكب فخم‏ وحوله الفرسان والحراس، وقد اشتغل بمباهجه وملاهيه عن شئون الملك ومشاغله، فما تفقد كتيبة زاحفة وما أسكن ثورة هائجة، بل كان يتقلد سيفه ويهيئ أقواسه ونباله‏ ويركب جياده السريعة، ثم يتوغل في البيداء الشاسعة ليصارع الآرام والوعول ويتعقب‏ الثعالب والوحوش، فإذا أتعبه الصيد وأضناه الكر والهجوم نصبت له خيمة مطرزة وتجمع‏ حوله أصدقاؤه وندمانه قتساقوا كئوس الرحيق وسمعوا أعذب الألحان ورقصت أمامهم‏ القيان حتى إذا قضوا أرباً من الراحة والمتعة رجعوا  إلى  «بلخ» في موكب حاشد وجمع عظيم. 

وشاءت الأسطورة أن تقول إنه خرج يوم جمعة إلى الصيد، وحوله حاشيته في يوم‏ مجموع له الناس، وكان مؤذن الجمعة ينادي إلى الصلاة، فما اهتم بفريضة ربه ومضى إلى ملاهيه يترنح فوق جواده والناس يتهامسون في غضب عن هذا الخليع الماجن الذي يجيب‏ داعي الشيطان في وقت تتفتح فيه أبواب الرحمة في السماء، ويمضي الفارس إلى صيده فيصرع‏ الظباء ويتوغل في الغاب متحرشاً بوعوله ويعافيره، حتى إذا بلغ منه الجهد مبلغه ركن‏ إلى صخرة عالية فجلس يستريح منفرداً عن أصحابه، وإذا هاتف يملأ عليه سمعه ويناديه:  يا إبراهيم، ما لهذا خلقت. يا إبراهيم ما بهذا أمرت.[أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ] {المؤمنون:115}  ثم ينقطع الهتاف وقد تغلغل صداه في أعماق الأمير الفارس فغير مجري‏ حياته تغييراً حاسماً وحوّل أفكاره من طريق إلى طريق، فرجع إلى حاشيته منكسراً ذليلاً، وودع رفاقة توديعاً حاراً وهام على وجهه يضرب في فجاج الأرض وتتفاذفه المطارح‏ النائية، ووجد راعياً للغنم فخلع عليه حلته الجميلة وقد رصعت بخالص الذهب وزينت بأنضر  اليواقيت، وأخذ منه كساءه الصوفي الخشن، وعصاه الخشبية الطويلة، ومضى يطوف بالأرض‏ زاهداً متورعاً، فحج البيت الحرام، وطوف بالعراق والشام، وألقى مواعظه الدينية المؤثرة، وصحب الأئمة من الفقهاء والعلماء حتى وافاه الأجل وقد بلغ من الورع والتصوف والمحبة مبلغاً يضعه في قمة الزهاد وذروة الناسكين. 

تقول كتب المتصوفة هذه الأسطورة، وينقلها كاتب عن كاتب مضيفاً إليها ما يسمح به‏ خياله من تهاويل، وقد يستعين بأبيات شعرية يزعم أن إبراهيم قرأها على جدار أو قبر أو نظمها في سكرة هيام. ويجي‏ء المستشرقون فيبحثون هذه الأسطورة ويتساءلون، هل‏ كان لعائلة أدهم سلطان في إمارة بلخ؟وهل عرف تاريخ الفرس أحدا من ملوك هذه العائلة سواء «ببلخ» أم غيرها من المقاطعات، فإذا صمت التاريخ عن الإجابة الشافية حكموا أن‏ هذه الأسطورة قد صيغت على متوال قصة «بوذا» إذ فر من سلطانه وترك الإمارة والقصر،  لينشر مذهباً ويملأ قلوباً. ثم يتوسعون في ذلك فيعقدون صلة وثيقة بين التصوف الإسلامي‏ والتصوف الهندي، ويرّدون كل زهد في الإسلام إلى عناصر أجنبية طرأت عليه وأثرت‏ فيه دون أن يكون منبعها الأصيل كتاب الله وتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم، ويمضون في‏ طريقتهم إلى أبعد مدى فيقرنون الشبيه، ويلائمون بين تسنك «بوذا» الهندي وعزلة إبراهيم الفارسي. 

ولئن ثبت للباحث في تاريخ المتصوفين تأثر بعضهم بمذاهب صوفية لا تنبع من الإسلام‏ ولا تتصل بأسبابه في شي‏ء، فإن البعض لا ينتمي  إليه ابن أدهم في قليل أو كثير، فقد كان‏ بعيداً عن أحوال الجذب والتواجد والهيام. ولم يتطرق إلى البحوث النظرية كما فعل الحلاج‏ والسهر وردي وابن عربي بل كان تصوفه زهداً خالصاً يترسم فيه مبادئ الإسلام، فهو يتمسك‏ بالنصوص القرآنية ويروي الأحاديث النبوية، ويصدر تعاليمه لمريدية في نطاق قرآني تدعو إليه الفطرة الإسلامية وتتقبله العقول في غير عناء كبير.

أما نشأة إبراهيم فيمكننا بمراجعة الروايات المختلة في تاريخه وترجيح ما تقوم عليه‏ الأدلة الوثيقة أن نجزم بأنه عربي قح، نشأ في سلالة عربية خالصة، فحين زحفت الجيوش الإسلامية في فتر متعاقبة إلى خراسان وتم فتحها علي يد الأحنف بن قيس، وقتيبة بن مسلم‏ الباهلي، أخذت الأسر العربية تنزح إلى هذا الإقليم الخصيب، وتنتشر بذراريها في بلاد ما وراء النهر، ومن هذه الأسر الكثيرة أسرة الصوفي الزاهد إبراهيم بن أدهم بن منظور ابن زيد بن جابر التميمي العجلي، فقد نزح أجداده إلى بلخ في وقت يتعذر تحديده ووجدوا من رخاء العيش ما مكن لهم في الثروة فرزقوا نصيباً موفوراً من المال، ونشأ أبناؤهم نشأة مترفة ناعمة فوجدوا القصور والضياع والعبيد، وغمروا أنفسهم بالمتاع والبهجة،  وكان والد إبراهيم رغم ثرائه الواسع صالحاً خيّراً يتبع العبّاد والزهّاد ويحج البيت الحرام،  في أكثر الأعوام، وقد أورث فتاه إبراهيم مالاً طائلاً وجاهاً مديداً قترعرع في أفياء النعيم،  وسحب مطارف البهجة في شبابه، ثم أذن الله له بالفوز فطاف عليه طائف من تنسك والده‏ وتقواه، ثم اتسع في زهده شيئاً فشيئاً حتى تيقن أن المال ظل زائل ومشغلة للنفس، فعزف‏ عن بريقه الخادع، واحتقر ما يغرق فيه من متعة وجاه، ثم تجرد عن الزينة والزخرف‏ بعد أن فكَّر ودبَّر، واستأذن أباه في الرحيل عن خراسان إلى العراق، وكانت أشواقه‏ تدفعه إلى مكة مهبط الرسالة فترك العراق إلى أم القرى ووجد بها كثيراً من أئمة الفقه‏ والحديث والتصوف، فاصطحب الفضيل بن عياض وسفيان الثوري ومالك بن دينار وغيرهم‏ ممن لقيهم في رحلاته الكثيرة حتى امتلأت نفسه اطمئنانا وسكينة، وأفعم قلبه نورا وعرفانا. 

ولم يكن إبراهيم بدعاً في تنسكه، فقد كان معاصره شقيق البلخي ذا دنيا واسعة وجاه‏ عريض، فاعتزل الثروة والضياع وتكلم في التصوف والزهد، وكأن أحدهما اقتدى بصاحبه،  وهما من بلدة واحدة، فسار على منواله مما يعز وجوده بين أرباب الثراء. 

ولقد كان لإبراهيم رسالة خالدة تكشف حقيقة الزهد وتقربه مثالا ملموسا للجميع،  فقد زهد زهداً خالصاً فيما يملك، ولم يكن كهؤلاء الذين يتظاهرون بالورع ولو برقت لهم‏ الحياة بشعاع كاذب لاندفعوا في تيارها الخادع. وكان من تمام رسالته أن يأكل من عمل يده،  فلا يدع نفسه عالة على عشاقه ومريديه، وقد اشتغل بستانياً أجيراً يكدح يومه الطويل‏ ليقتات من طريق حميد، وهنا يظهر تأثره بتعاليم الإسلام، فهو دين عملي ينبذ التواكل،  وليست فيه رهبنة تدفع صاحبها إلى العزوف والانطواء، لذلك نجد ابن أدهم يتشدد في تحري‏ّّ المكاسب والمآكل ويرسل وصاياه الكثيرة فيقول: أطب مطعمك ولا عليك ألا تقوم الليل أو تصوم النهار، كما كان يرفض رفضاً باتاً أية هدية تقدم  إليه لما يندرج تحتها من معاني‏ التواكل والخنوع، ولو فهم الناس الزهد كما فهمه إبراهيم لعطف الغني علي الفقير بما يزيد عن حاجته، ولاجتهد الفقير في تحصيل رزقه دون أن يمد يده لإنسان، وبذلك يستشعر معاني‏ العزة والكرامة ويعيش في ملاه عالي  الرأس مرتاح الضمير. 

وقد تنبه إلى ما انتشر لدى المتواكلين من انقطاع للعبادة وانتظار للعطاء، فعد ذلك‏ تسولاً سافراً تنأى عنه الرجولة ويمقته الإسلام، فقال: المسألة مسألتان: مسألة على أبواب‏ الناس، ومسألة يقول الرجل فيها: ألزم المسجد وأصلي وأصوم وأعبد الله، فمن جاءني‏ بشي‏ء قبلته، فهذه شر المسألتين. وهذه النصيحة الحازمة تفضح هؤلاء المترهبين في دين‏ لا يعرف الرهبنة، فهم شر من المتسولين لأنهم يسترون تسولهم البغيض بستار من التبتل‏ والعبادة، مع أن الإسلام يرى في سعي المؤمن لرزقه من طريق الحق عبادة خالصة يكافأ عليها بالمثوبة عند الله، ولن يضير المسلم أن يكون فقيراً كادحاً، وإنما يضيره أن يتصيد المال‏ دون جهد يبذل أوسعي يتاح، ونحن لا ندعو غنياً إلى اعتزال ماله كما فعل ابن أدهم،  ولكننا نتخذه مثلاً لقوة الإرادة وكبت الأهواء وخذلان النفس في مضمار عنيف تتجاذبه‏ المطامع والمغريات، كما يصور لنا هوان المال وضعته لدي النفوس النبيلة، فلا تتكالب عليه‏ في عنف أو تبخل بحق الله فيه، ومن يدري لعل ابن أدهم قد تخلص من ثروته لوجود شبهة في عقله، من طريقة جمعه، فحسم الشك باليقين. 

ولم يطل مقام إبراهيم بمكة فارتحل ثانية إلى العراق، وقابل أبا جعفر المنصور ببغداد ووعظه في غلظة، ثم توجه إلى الشام واتخذها موطناً دائماً، ولكن لواعج الحنين كانت‏ تعصف به إلى موطنه بخراسان، فيسائل أصحابه عن بلخ ويرحب بمن يفد  إليه من فارس،  وما زالت الأوطان مألف القلوب إذا شط المزار. 

كانت إقامة ابن أدهم بالشام خيرا وبركة علي أهل مدينة صور، فقد خالطهم وصادقهم،  واندمج في مجتمعهم يشير بالرأي ويقدم النصيحة وينبسط  إليهم في شئون الحياة، حتى جن به‏ العامة وعظموه تعظيماً كبيراً، ورووا عنه الخوارق الكثيرة!وهي كثرتها الزائدة تدل‏ على سمو قدره، وارتفاع أوجه. 

هذا- وقد كان الأوزاعي إمام أهل الشام يكبر إبراهيم بلباقته ويعجب باندماجه‏ في قومه وخبرته بالنفوس ودعوته إلى الله بالحكمة والقدرة، فهو المثل الحميد لصاحب‏ الورع في الإسلام، وقد كان حبه لله حبا إسلاميا خالصا يبرأ مما اختلط بالتصوف بعد ذلك من مذاهب فلسفية حلولية واتحادية، فهو شبيه في زهده وعبادته بالحسن البصري‏ ورابعة العدوية وأضرابهما ممن خلص لهم الزهد الإسلامي خلوصاً طاهراً، فطريقتهم إلى الله‏ كتابه الواضح وهدي نبيه الكريم. 

وكان ختام حياته مقطعا رائعا لجهاده الكريم، فقد أغار الروم على بعض الثغور الإسلامية فحمل سيفه وارتحل إلى الميدان، ذائداً عن ممالك الإسلام، وصمد للكفاح‏ والنضال حتى رزق الشهادة في معركة حامية سنة 160 هـ، وحزن عليه المسلمون حزنا شديداً فحملوه  إلى  (صور) ودفن بموضع يختلف المؤرخون في تحديده، وقد حكي ابن بطوطة أنه زاره في مدينة(جيلة)وقد أقيمت حوله زاوية يعمرها الصالحون، كما رثاه ابن أخته‏ محمد بن كناسة الكوفي رثاه حزيناً برسم شمائله العاطرة ويبكي جلاله الصريع. 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

المصدر : مجلة الأزهر مجلد 26 ، شوال1374هـ ، العدد 17و18.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين