أين العلمانيون من الأخلاق؟

 

حول مقالة ياسين حاج صالح في صحيفة الحياة

 

تساءل ياسين الحاج صالح قبل أيام أين الأخلاق في مشاريع الإسلاميين؟ وبعدما استعرض سلوك داعش اللاأخلاقي وحلل خلفياته الفكرية والنفسية زعم أنه سلوك عام يشمل جميع الإسلاميين على تفاوت هين لا يؤثر في هذا المشترك، ليخلص إلى نتيجة مفادها أن النموذج الداعشي ليس مشروعا منفصلا عن المشروع الإسلامي بشكل عام، بل هو تحقيق لما هو ممكن التحقق في الفكر الإسلامي، وعد الفئات الآخرى من الإسلاميين قريبة من هذا النموذج ولا ينقصها سوى القليل من الانسجام مع الذات  كما هو حال داعش!

"إطلاقية الأوامر والنواهي الشرعية" هو المشترك الذي تحدث عنه الحاج صالح زاعما أن جميع الإسلاميين ينطلقون منه، ومن ثم فهم داعش أو مشاريع داعش، وهو يعني بإطلاقية الأوامر والنواهي فهم النصوص الشرعية ومقتضياتها منزوعة عن سياقاتها الزمانية والمكانية ومبتورة عن عللها ومقاصدها، مع أن علما قائما بذاته يدعى "أصول الفقه" وهو العلم الذي يتضمن مباحث تضع للتصور الفقهي والعقدي أسسا يستخرج الحكم الشرعي من النصوص على ضوئها، ومباحث أخرى تشرح قواعد عامة مطردة في التشريع الإسلامي مبنية على المصلحة والمقاصد الكبرى، وبعيدا عن الإطالة في توضيح ماهية هذا العلم فإن من المفيد تذكير الحاج صالح بأن علم أصول الفقه يدرسه طلبة العلم الشرعي ولا يستقيم علمهم ولا ينضج بدونه، ولا يفتي المفتي إلا بعد إتقانه، أو هكذا يفترض، وليس النموذج الداعشي إلا مثالا للشذوذ عن ذلك، والشاذ – مهما تعدد – يثبت القاعدة ولا ينفيها.

بهذا يتبين أن زعم الحالج صالح باطل ولا يستند على إلمام فضلا عن ثقافة بالعلوم والأسس والأرضيات التي يستند إليها أو ينطلق منها الإسلاميون، إلا إذا كان يقصد بما دعاه إطلاقية الأوامر والنواهي الشرعية هو اتفاق المسلمين جميعا على تقديس الوحي والتسليم له بالجملة، فهو هنا ربما يريد من المسلمين أن يأخذوا الدين مأخذا نسبيا، وأن ينظروا إليه من أصوله إلى فروعه ومن تصوراته إلى تجلياته في الحياة العامة والخاصة نظرة براغماتية لا تؤمن بحق ولا حقيقة إلا بصفة مؤقتة، وحينئذ كلامنا معه سيطول ولكن في دائرة أخرى.

من الواضح أن ياسين الحاج صالح تغافل عمدا عن الجانب المخابراتي الأمني الذي يسهم بشكل فعال في صياغة العقل المنتج لداعش وفي إدارته، وهذا غير محصور في الحالة السورية، فـ "الحرب القذرة" في الجزائر مشابهة تماما، ولا هو مقتصر على الصراعات التي تجري على أرض المسلمين وبين صفوفهم، فمطالعة سريعة للتاريخ الحديث كافية في الوقوف على أمثلة عديدة حول اختراق الطواغيت صفوف خصومهم ومعارضيهم بقصد التحكم بهم من الداخل وتشويه صورتهم، وإني لأجزم بأن "مثقفا" كالحاج صالح لم تغب عنه هذه الحقيقة، ولكنه شاء أن يغيبها ويغيب عنها بغرض استثمار بروز حالة داعش في تعميم الأحكام التي يمكن أن يصدرها بحق جميع من يرفعون شعارات إسلامية، فهل هذا من الأخلاق التي تساءل الحاج صالح عن مكانها في مشاريع الإسلاميين في شيء؟ أم إنه حلال له الاستثمار والتجارة وحرام على خصوم الأديولوجيا والسياسة على فرض صحة ما زعم؟

لو أننا تساءلنا أين العلمانيون من الأخلاق .. ألن يكون لهذا التساؤل حيز من المنطق والموضوعية؟ أليس النموذج الداعشي في علمانيي القرن الماضي ومطلع هذا القرن أجلى صورة وأكثر دليلا وأغنى مثالا؟ أليس عبد الناصر وحافظ الأسد والقذافي وبن علي وعسكر الجزائر ومن ورائهم جميعا الاتحاد السوفييتي الذي قام أساسا على تصور استئصالي شبيه بالتصور الذي رسم الحاج صالح معالمه في مقالة "الحياة" أليسوا جميعا من دعاة العلمانية وحماتها ولو على سبيل التجارة؟ ألم يكونوا أسوأ صورة للتمظهر الداعشي وبجدارة؟ ولو رد الحاج صالح بأن هؤلاء ما طبقوا علمانية ولا عرفوا عنها، فإن مضمون مقالته "أين الأخلاق في مشاريع الإسلاميين" فيما يتعلق بصهر الإسلاميين في بوتقة واحدة شريرة منقوضة بمثل ذلك. 

إن المتابع لمجريات الثورة المضادة في كل من تونس ومصر يدرك تماما لاأخلاقية التحالف المبرم بين غالبية العلمانيين الفاعلين تحديدا، على اختلاف مشاربهم، مع العسكر الذي دعا هؤلاء العلمانيون دهرا إلى إسقاط حكمه وإقامة دولة مدنية محله، بل امتد هذا التحالف الانتهازي البراغماتي ليشمل الديكتاتورية العسكرية الناشئة وفلول الأنظمة البائدة، طلبا للسلطة التي تبددت أحلامهم بالوصول إليها بعد اصدامها بحجم شعبية الإسلاميين التي حملتهم إلى السلطة، بغض النظر عن صوابية السياسة التي انتهجها الإسلاميون أو خطؤها لجهة التعجل في التصدر مع قلة خبرتهم في التعاطي مع الشأن السياسي من موقع السلطة.

في الحقيقة، عودنا ياسين الحاج صالح على مقالات يكتنفها نفس التمرد (المطرد في كتابات بعض المثقفين) ولكنه تمرد على مألوف هؤلاء "المثقفين" فهو اعتاد الجنوح إلى الواقعية في تحليل الحركات السياسية والاجتماعية وخاصة فيما يتعلق بالإسلاميين وهوية المشرق الإسلامية بخلاف ما يدعو إليه سائر "المثقفين" يسارييهم وليبرالييهم من عولة الهوية كل منهم في اتجاه، وذلك على الرغم من النظرية الخاصة التي يحملها الرجل حول هذه المسألة، والتي لا تخرج بطبيعة الحال عن إطار العلمانية المهجنة.

لعل الحاج صالح اكتشف مؤخرا أن تلك العادة وهذه العلمانية المهجنة باتت جريمة فكرية أو ردة عن العلمانية "الأصيلة" وتنكبا عن جادة الحداثة وما بعدها، ما يستلزم توبة معلنة على صفحات الجرائد وبيانا يتبرؤ فيه من لوثات الماضي ويدعو إلى اجتنباها في المستقبل .

ربما نحسن الظن إن قلنا بأن الحاج صالح لم يحالفه الحظ حينما تزامنت مقالته، المفعمة - لأجل المفارقة - بالحديث عن الأخلاق والوجدان وحاكمية الضمير، مع صدور قوانين مكافحة الإرهاب ووضع كبرى الحركات الإسلامية في مصر ودول إقليمية أخرى على قائمة "الإرهاب" وهي قوانين تستلهم روحها ومعناها من مقالته، ومن عجائب المصادفات أن قوائم الإرهاب والإجراءات المعلنة لمكافحته تتبع نهج "المثقف الحاج صالح" في التركيز على المقاصد دون الوقوع في حرفية النصوص، فجاءت تلك الإجراءات لتستأصل الإسلاميين كمقصد متوخى أخير في تلك القوانين الجديدة مع الإهمال التام لحرفيته التي تنص على قصر التطبيق على العابثين بأمن البلاد.

وهنا يتبادر إلى الذهن مجددا تساؤل لما يجد له جوابا بعد، وهو تساؤل بحث لا استنكار، أين من يزعمون العلمانية من الأخلاق والضمير إذا جد جدهم؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين