أين الخلل؟

 

إن التصورات والتصرفات الخاطئة من قبل المسلمين هي التي تطيل عمر الأزمات.

كثيرون منا ينحون باللائمة على النظام الغربي ، وعلى الصليبية الجديدة ، وعلى .. وعلى .. ونسي هؤلاء أنه لن ?ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم? ، ونسوا أنه ?كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبي قلوبهم وأكثرهم فاسقون? ، ونسوا أنهم ?لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا?.

هذا كله عندما يصدر من مبغضي الإسلام فهو أمر بدهي ، ونحن نعلم أن الغرب عنده اليوم عقدة الإسلام ، وأنه بحلول عام (2050م) ستكون أوروبا مسلمةً تبعا للأكثرية السكانية ، فالمسلمون يتكاثرون بنسب عالية تفوق الـ (60 %) والأوروبيون قسم منهم يدخل في دين الله تعالى ، والقسم الآخر في تناقص مطرد ، حيث إن نسبة التكاثر في معدلها الوسطي لا تتجاوز الـ (1,7 %) ، وبالتالي فمن البدهي أن يتغير وجه القارة العجوز مع الوقت.

هذا الواقع الحتمي يقض مضجع هؤلاء ، لذلك هم يعملون على عدة جبهات ، منها : أن يُظهروا الإسلام والمسلمين بمظهر الإرهاب الذي يقتل الناس لمجرد أنهم عبروا عن رأيهم بما يخالف معتقد المسلمين.

ومع أن هذا كذب وافتراء ، ذلك أن القوانين الفرنسية بخاصة، والأوروبية بعامة، تُجَرِّمُ من يتناول المحرقة النازية مثلا، أو أي شيء يمس باليهود ، وذلك تحت قانون معاداة السامية ، وهذا حَجْرٌ على الآراء بقوة القانون ، ومع ذلك فهم يحتالون على الأمور لأنهم مدفوعون ببغض الإسلام التاريخي ، وبخوفهم منه.

فهم يرون نخبة مجتمعهم تعتنق الإسلام طواعية ، وتتحول إلى نخبة أوروبية إسلامية تملك القدرة الكاملة على مخاطبة الأوروبيين ، وبخاصة المثقفين منهم ، بما يعقلونه ويفهمونه. وغالبهم أساتذة جامعات مرموقين،  بل ويؤثرون بتلامذتهم وأهليهم تأثيرا بالغًا، كل هذا يجعل المرجعيات السياسية التي تختزن في وجدانها البغض للإسلام تحاول دراسة الأزمة جيدا واختيار أنجع الوسائل لتأخير القدر المحتوم ، كما أخبر الله تعالى عن مشركي الجزيرة ?وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون?، ولكن هيهات، وقد قال تعالى: ?هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون?.

المشكلة فينا وليست فيهم:

إذن ما يفعله الغرب ضد الإسلام ليس بمستغرب، وإن كان مستهجنا، لأن الغرب يدعي الحرية والديمقراطية، ولكنها شعارات تقف عند أعتاب العالم العربي والإسلامي، فتتلبس بمعنى مغاير للمعنى الذي وضعوه هم لها ، فنراها قتلا وتدميرا: إن في مصر ، أو في العراق ، أو في سوريا ، أو في ليبيا ، أو في أي مكان ، وكل ذلك سعيا لنشر الديمقراطية والحرية ..

ثم نراها في بلادها بوجهين متقابلين ومتضادين: وجه تقابل به أبناء الغرب من غير المسلمين ، ووجه مختلف تماما تقابل به المسلمين سواء كانوا من أبنائها أو من المهاجرين..

فعملهم هذا بدهي أخبرنا الله تعالى عنه ، ثم أعطانا مفاتيح أسلوب المواجهة في هذه الحالات، فقال سبحانه: ?لتبلونَّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور?. 

وهذه الآية من سورة آل عمران مدنية ،  وقد جاءت في معرض الحادثة التي ضرب فيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فِنْحاصًا الحبرَ اليهوديَّ القَيْنُقاعِيَّ الذي قال في الله تعالى قولا عظيما ، فذهب الحبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكيا أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، فنزلت هذه الآيات ، وفيها الحض على الصبر مما يلاقيه المسلمون من أعدائهم من أذى كلامي كبير قد لا تحتمله نفوس المؤمنين..

يقول الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: (?ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم?، يعني: من اليهود ، وقولِهِم: ?إن الله فقير ونحن أغنياء?، وقولهم: ?يد الله مغلولة?، وما أشبه ذلك من افترائهم على الله. ?ومن الذين أشركوا?، يعني النصارى ، ?أذى كثيرا?، والأذى من اليهود ما ذكرنا، ومن النصارى قولهم: ?المسيح ابن الله?، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله ، ?وإن تصبروا وتتقوا?، يقول: وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته ، ?وتتقوا?، يقول: وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم، فتعملوا في ذلك بطاعته ، ?فإن ذلك من عزم الأمور?، يقول: فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به).

ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ( يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر، مسليا لهم عما نالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين، وآمرا لهم بالصبر والصفح والعفو حتى يفرج الله، فقال: ?وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور? .... فكان من قام بحق، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، فلا بد أن يؤذى، فما له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله، والرجوع إلى الله، عز وجل ).

فالآيات نزلت والمجتمع المسلم ما زال في طور التكوين لم يشتد عوده ، ولم يقو ساعده بعد ، فكان الواجب في مثل هذه الحالات التحمل للأذى الكلامي - ?ولتسمعن? - حتى يفتح الله تعالى بين الناس بالحق.

فمن باب أولى أنه عندما لا تكون للمسلمين شوكة ولا مجتمع أن يكون الحكم بالإعراض عن هزء المستهزئين والاستمرار بالطاعة والدعوة إل سبيل الله تعالى.

يقول الله عز وجل في مثل هذا: ?وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون?.

فهذه الآيات نزلت قبل الهجرة ، يوم كان المسلمون جزءً من مجتمع مكة الذي كان يحكم بالشرك والكفر ، مع بقايا من حنيفية إبراهيم حرفوها وبدلوها ، تمام كما نراه اليوم في الغرب من بقايا من المسيحية محرفة ومبدلة ، والمسلمون يعيشون في ظلها أفضل من حالهم في بلادهم التي تظللها أحكام الإسلام ظاهرا، وفي المجتمع الغربي من لا يمكنه تصور أن يصبح المسلمون رقما صعبا، وبخاصة اللوبي الصهيوني، لذلك يأخذون جانب العداء للأنبياء والمرسلين، ويتبادلون الأفكار والأدوار ، ويجتمعون من طول البلاد وعرضها ، تحركهم نفوسهم الحاقدة على الإسلام ، ولكنهم في كثير من الأحايين لا يقدرون أن يتصرفوا ضد الإسلام من دون سبب ، لذلك هم ينتظرون هفوة ما ، أو كلمة ما ، تصدر عن مسلم ليشنوا حربا شعواء على الإسلام كله بدءً من رسول الإسلام ، وصولا إلى إله الإسلام والعياذ بالله تعالى..

تماما كما حدث مع سرية الصحابي الجليل عبد الله بن جحش رضي الله عنه، ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، يوم أرسلهم ليرصدوا حركة قريش العسكرية، وأمرهم ألا يحدثوا قتالا، ولكنهم بعد إتمام مهمتهم خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثوا قتالا ، وكان قتالهم في آخر شهر المحرم من الأشهر الحرم ، وبدأت حرب إعلامية شعواء على الإسلام وعلى رسول الله تعالى ، واتهموه بأنه ينتهك الأشهر الحرم التي جاءت شريعته لتؤكد على حرمتها ، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بذلك ، بل أمرهم ألا يحدثوا قتالا، ولكنهم لما رأوا قافلة لقريش أمامهم وفيها أموالهم ، وتبينوا سهولة استخلاصها من أيديهم ، أخذوا يتأولون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوعين بالرغبة الجامحة في استرجاع أموالهم من أيدي المشركين، فحمَّلوا الإسلامَ ، والنبيَّ صلى الله عليه وسلم، والمسلمين ، حمالة لا علاقة لهم بها ، حتى أنزل الله تعالى قوله في سورة البقرة: ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ... ?.

فالآية لم تنف الخطأ الذي وقعت فيه تلك السرية لأنها خالفت أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرقت حرمة الشهر الحرام ، إلا أنها بينت أن مسؤولية قريش أكبر ، فهي بظلمها وجبروتها وكفرها وطرد المسلمين من أرضهم التي هي بيت الله الحرام ، وحملهم على تغيير دينهم ،  كل هذا جرمه أكبر بكثير من مجرد القتل ..

من المسؤول ؟

كل هذه الأحداث كانت تقع وللمسلمين قيادة موحدة تقودهم وتسوس أمورهم وتوجههم إلى المطلوب .. وهي رسول الله صلى الله عليه وسلم..

واليوم تأتي هذه الأحداث وليس للمسلمين ما يجمعهم ، وليس عندهم من يقودهم ، وغالبهم يقودهم الهوى وردات الفعل ، فتأتي أفعالهم بعكس المطلوب لأنها خارج المطلوب الشرعي. مع العلم أن هدي نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ماثل للعيان ، والمرجعية فيه ما قاله الله تعالى: ?وإذا جاءهم أمر من الخوف أو الأمن أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم?.

فالأمور اليوم، وللأسف، لا تُرَدُّ إلى الذين أقامهم الله تعالى مقام القادر على الاستنباط ، وإنما ترد: إما لمن لا قدرة له على ذلك فينزل الأحكام في غير منازلها ، أو ترد إلى أعداء الأمة في مجالس الخوف الأممية التي ما أنشئت إلا لتشريع احتلال بلادنا ..

وأما أمر الشرع الواجب حقا ؛ القائم على الدليل القويم والفهم الدقيق والاستنباط السليم؛ فمغيب تمام التغييب. وهذا التغييب له أسبابه، منها: أن كثيرين ممن حملوا لواء الشريعة والعلم وبرَّزوا فيه فيما مضى كانوا خانعين أمام جور السلاطين، ساكتين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مُطَبِّلين للمجرمين ومبررين لأفعالهم ومبيضين لسواد وجوههم.

وكانت غالبية الناس تصفق للظالم ، وترفعه على الأكف ، وتهتف بحياته، بالرغم من أنهار الدماء الطاهرة التي كان يسفكها. و .. و .. وغيرها مما نعرفه كلنا وكنا نعيشه..

لذلك من الظلم أن نحمل عدونا المسؤولية، وهو عدونا، لا هم له إلا قتلنا.. ومن الظلم أيضا أن نشيح بوجهنا عن مسؤولية الأمة، قديما وحديثا، عما يحدث لها ..

فالله تعالى أمرنا بالاعتصام بدينه ، فأين هذا الاعتصام؟

وأمرنا بالقتال في سبيله صفا واحدا ، فأين هذا الصف؟

وقال لنا ?وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة? ، فأين هذه الآية في واقعنا؟

وحذرنا سبحانه من الركون إلى الظالمين ، وحذرنا من أن يفتننا الذي كفروا عن ديننا ، وحذرنا من الجلوس مع الذي يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها ، وكل هذا نرى أن واقع الأمة يشهد بأنها في كثير من أحكام الدين هي أبعد ما تكون عنه ، ولو بقي الأمر على هذا فسوف يصدق فينا قول إبليس الكذوب (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) .. نعم لا نستطيع لوم عدونا ، ينبغي أن نلوم أنفسنا ، وأن ننظر إلى موقع أفعالنا وأقوالنا في ميزان الشرع ، والأمر لم يفت بعد ، والجميع مطالبون بالخروج من أنانيتهم وذواتهم ، والنزول عند أحكام الشرع بتجرد بعيدا عن التأويلات التي تُمَيِّعُ حقائق الدين ... لقد أصابنا ما حذرنا منه ربنا سبحانه وتعالى مما أصاب أهل الكتاب، حيث قال سبحانه: ?وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ..?  فالحاصل اليوم أن البغي على بعضنا هو الأساس القائم، حيث نجد كثيرين لا يتجردون في إطلاق الأحكام على المخالفين، ولا ينصفون عند الخلاف، ويلوون أعناق الأحكام الشرعية لتوافق هواهم، زاعمين أنهم بهذا يتابعون الشرع... والقائمة تطول .. والمطلوب تغيير هذه النفسية التي أوصلت الأمة إلى ما أوصلتها إليه .. أما الإسلام فأمره بإذن الله تعالى إلى تمام، وهو يتقدم بخطى وئيدة وثابتة ، وتقدمه يكون على مقدار صدق هذه الأمة وتجردها، فبنوا إسرائيل أمروا بدخول بيت المقدس فتقاعسوا فتأخر الفتح أربعين سنة حتى تهيأت أسبابه.

اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين