سألني أخونا الشيخ تركي الفضلي - وهو من علماء مكة المكرمة المعنيين بالحديث والإسناد - كاتبا إلي: لماذا قال الله: "أياما معدودات"، ولم يقل: "معدودة"، وقال: "فعدة من أيام أخر"، ولم يقل: "أخرى"، مع أن الأيام جمع لمذكر؟
قلت: هما مسألتان وفيما يلي جوابهما:
أما المسألة الأولى فأقول: وردت صفة "أيام" بصيغة الجمع "معدودات" في ثلاث آيات:!- يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياما معدودات... سورة البقرة!83-184، 2- واذكروا الله في أيام معدودات... سورة البقرة 203، 3- ذٰلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات... آل عمران 24.
وردت صفة "أيام" بصيغة المفرد في آية واحدة، وهي قوله تعالى: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة... سورة البقرة 80.
وقلت: إن جمع التكسير يجوز أن يوصف بالمفرد المؤنث والجمع المؤنث، وكلاهما سائغ فصيح، فيقال: نساء كثيرة، ونساء كثيرات، وقدور راسية، وقدور راسيات، وليال طويلة، وليال طويلات، وأيام معدودة، وأيام معدودات، ويستثنى من ذلك جموع التكسير من ذوي العقول الذكور حيث يجوز وصفها بالمفرد المؤنث، ولكن لا يجوز وصفها بالجمع المؤنث، مثلا قوله تعالى: "تلك الرسل"، ولا يجوز أن يقال: الرسل العظيمات، ولكن يقال: الرسل العظام.
وورد في القرآن "أياما معدودات" و"أياما معدودة" كما سبق، قال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير "فعدة من أيام أخر": "وصفة الجمع الذي لا يعقل تارة يعامل معاملة الواحدة المؤنثة وتارة يعامل معاملة جمع الواحدة المؤنثة، فمن الأول "إلا أياما معدودة"، ومن الثاني "إلا أياما معدودات" فمعدودات: جمع لمعدودة".
وذهب أبو حيان إلى أن كلا الاستعمالين فصيح، وهو الحق، وأخطأ العلامة ابن عاشور في تفسيره إذ أراد التفريق بين "أيام معدودات" و"أيام معدودة" حيث قال: "غير أنهم إذا أرادوا التنبيه على كثرة ذلك الجمع أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث ليكون في معنى الجماعات وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة، ولذلك فأنا أرى أن معدودات أكثر من معدودة ولأجل هذا قال تعالى: "وقالوا لن تمسسنا النار إلا أياما معدودة" البقرة: 80، لأنهم يقللونها غرورًا أو تغريرًا، وقال هنا "معدودات" لأنها ثلاثون يومًا".
قلت ينتقض ما قاله ابن عاشور بآية سورة آل عمران 24 "ذٰلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات"، وهي القصة نفسها، فجاء "معدودة" مرة، و"معدودات" أخرى.
وأما المسألة الثانية فقد وردت "أخر" صفة لـ"أيام" في آية سورة البقرة الماضية، وهي قوله: فمن كان منكم مريضا أو علىٰ سفر فعدة من أيام أخر. سورة البقرة!84، وكذلك ورد في الآية التي بعدها.
ففيها ما في المسألة الأولى من صحة أن يكون صفة "أيام" جمع مؤنث، لأن "أُخَر" جمع أخرى.
وهنا أمر آخر يجب التنبيه عليه وهو أن مؤنث "أفعل" التفضيل وجمعه لا يستعملان إلا معرفين بالألف واللام أو مضافين، فيقال: "الكبرى" و"الكُبَر"، أو "كبرى النساء" و"كُبَر النساء"، قال تعالى: "إنها لإحدى الكبر"، ولا يجوز أن يقال "كبرى" أو "كُبَر" مجردين عن التعريف والإضافة.
واختلف "أُخَر" عن سائر جموع "فعلى" مؤنث "أفعل" التفضيل، فإنه يستعمل مجردا عن التعريف على خلاف القاعدة في مؤنث "أفعل" وجمعه، فكان القياس أن يقال: الأُخَر، ولكنهم عدلوا عن ذلك إلى "أُخَر"، ومن أجل علة العدل منع من الصرف، على العكس من سائر جموع مؤنث "أفعل" التفضيل الآتي على وزن "فُعَل" فإنه منصرف.
قال ابن هشام في شرح قطر الندى 297-298: "القاعدة أن كل "فعلى" مؤنثة "أفعل" لا تستعمل هي ولا جمعها إلا بالألف واللام أو بالإضافة... فكان القياس أن يقال: "الأُخَر"، ولكنهم عدلوا عن ذلك الاستعمال فقالوا: "أُخَر" كما عدل التميميون "أمس" عن "الأمس"، وكما عدل جميع العرب "سحر" عن "السحر"، قال الله تعالى: "فعدة من أيام أخر".
وورد التفسير نفسه في شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك وغيرهما من كتب النحو.
ولماذا لم يقل: "أيام أخرى"، فأجاب أبو حيان عن ذلك بقوله: "وعدل عن أن يوصف الأيام بوصف الواحدة المؤنث، فكان يكون: "من أيام أخرى"، وإن كان جائزا فصيحا كالوصف بأُخَر لأنه كان يلبس أن يكون صفة لقوله "فعدة"، فلا يدرى أهو وصف لعدة، أم لأيام، وذلك لخفاء الإعراب لكونه مقصورا، بخلاف "أخر" فإنه نص في أنه صفة لأيام لاختلاف إعرابه مع إعراب "فعدة".
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول