أيام الذكر والذكريات

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم .

أما بعد:
فحينما تهب علينا نسمات شهر ذي الحجة المبارك تهيج في النفوس الذكريات المباركة لتلك الأيام الخالدة المحفورة في ذاكرة التاريخ، المقدسة والمخلدة بذكرها في كتاب الله تعالى.
من حياة الخليل إبراهيم وولده إسماعيل وزوجه هاجر عليهم السلام.
 
من هجرة لجزيرة العرب، ومن بناء لبيت الله الحرام ورفع لقواعده، ومن أمر الله تعالى للخليل بذبح إسماعيل عليه إسماعيل، وما كان في هذه الأيام المباركة من أحداث قصها علينا القرآن الكريم وذكرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وظلت مثلا يحتذى، وأسوة تقتدى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أتباع الخليل إبراهيم وأهل الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه السلام. {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } [الممتحنة : 4]
 
فمناسك الحج على ملة إبراهيم عليه السلام
 
والأمة في مشارق الأرض ومغاربها عيدها في هذه الأيام عيد الأضحى تذكير بهذه التضحية الغالية من إبراهيم وهاجر وإسماعيل عليهم السلام استجابة لأمر الله تعالى.
والأمة يسن لها الأضحية على المستطيع، تخليدا وتذكيرا للتضحية والفداء لإبراهيم وإسماعيل عليهم السلام.
 
وتتجدد هذه الذكريات الخالدة التي تعطي المثل والقدوة لأمة الإسلام، تتجدد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إحياء للحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه السلام ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ونبذ صور الشرك والكفر والفسوق، وتجديد لدين الله الحق الذي اندرست معالمه، وغابت حقيقته بين أهل الأرض قبل مبعث سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.
 
فيبعثه الله في نفس المكان وبنفس الرسالة التي بعث بها الخليل عليه السلام.
ويضرب المثل والقدوة للبشرة كلها [ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة]
المثل والقدوة في إتباع الحق والعمل به والتضحية من أجله
هكذا كانت حياة إبراهيم عليه السلام وهكذا كانت حياة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهكذا تنبعث هذه الأشواق وتهيج في النفس هذه الذكريات فتتحرك للعمل الصالح والطاعة لله تعالى.
 
هذه الذكريات تبعث في النفس وجوب الاتباع للخليل والذبيح ولمن اقتفى أثرهم وبعثه الله بدينهم محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
 
ويشعرنا بالواجب العظم والأمانة الكبيرة التي تتحملها أمة الإسلام في عصرنا الحاضر.
·       فتبعثها للعمل وتدفعها للتضحية وتحركها لطاعة الله تعالى خاصة في هذه الأيام المباركة التي خصها الله بهذه الأحداث العظيمة وزادها الله تعالى شرفا :
 
1- أنّ الله تعالى أقسم بها:
 
إذا أقسم الله بشيء دلّ هذا على عظم مكانته وفضله، إذ العظيم لا يقسم إلا بعظيم، قال تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1-2]. والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين من السلف والخلف، وقال ابن كثير في تفسيره: "هو الصحيح".
 
 2- أنّها الأيام المعلومات التي شرع الله فيها ذكره:
 قال الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الجح:28]، وذهب جمهور العلماء على أن الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، ومنهم ابن عمر وابن عباس.
 
 
 3-أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد لها بأنها أفضل أيام الدنيا:
فعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل أيام الدنيا أيام العشر - يعني عشر ذي الحجة - قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب» [رواه البزار وابن حبان وصححه الألباني].
 
 
4- أن فيها يوم عرفة:
 ويوم عرفة يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاه ذلك فضلاً،
 
 
 5- أن فيها يوم النحر:
 وهو أفضل أيام السنة عند بعض العلماء، قال صلى الله عليه وسلم : «أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القَرِّ» [رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني].
 
 
 6- اجتماع أمهات العبادة فيها:
 قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتّى ذلك في غيره".
·       فهذه الأيام منزلتها كبيرة وفضلها عند الله عظيم وفضل العمل فيها عند الله عظيم
 
كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام - يعني أيام العشر - قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» [رواه البخاري].
 
 
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكرت له الأعمال فقال: ما من أيام العمل فيهن أفضل من هذه العشر، قالوا: يا رسول الله، الجهاد في سبيل الله؟ فأكبره، فقال: ولا الجهاد إلا أن يخرج رجل بنفسه وماله في سبيل الله، ثم تكون مهجة نفسه فيه» [رواه أحمد وحسن إسناده الألباني].
 
 
 
·       ولذلك يستحب في هذه الأيام المباركة من الطاعة أكثر من غيرها ففي هذه الأيام يؤدي كثير من المسلمين من الطاعات ما لا تؤدى في غيرها منها:
 
 
1.     الحج فهو ركن من أركان الإسلام وشريعة من شرائعه وفريضة من فرائضه قال الله تعالي {إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ}. (آل عمران: 96- 97).
 
 
والحج من أفضل الطاعات والقربات التي يتقرب بها العبد لربه سبحانه وتعالى من أفضل الأعمال- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم): أيُّ العمل أفضل؟ قال: "إيمانٌ بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال؛ "حج مبرور" متفق عليه.
 
 
- يمحو الله به الذنوب: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من حجَّ فلم يَرفُث ولم يَفسُق، رَجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه. الرفَث: هو الكلام البذيء، ويأتي بمعنى الجماع.
 
 
- ثوابه الجنة :عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "العمرة إلى العمرة كَفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلّا الجنة" رواه الشيخان.
والحج لا يكون إلا في هذه الأيام المباركة قياما بفريضة الله تعالى، وشكرا لله على نعمه، وتذكيرا بهذه الأيام الخالدة والمواقف التالدة.
 
 
2.    - الصيام: وهو يدخل في جنس الأعمال الصالحة، بل هو من أفضلها، وقد أضافه الله إلى نفسه لعظم شأنه وعلو قدره، فقال سبحانه في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» [متفق عليه].
 وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة بمزيد عناية، وبيّن فضل صيامه فقال: «صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده» [رواه مسلم].
 
 
 وعليه فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل الصالح فيها. وقد ذهب إلى استحباب صيام العشر الإمام النووي وقال: صيامها مستحب استحباباً شديداً.
 
 
3.     - الصلاة:
وهي من أجلّ الأعمال وأعظمها وأكثرها فضلاً، ولهذا يجب على المسلم المحافظة عليها في أوقاتها مع الجماعة، وعليه أن يكثر من النوافل في هذه الأيام، فإنها من أفضل القربات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه: «وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه» [رواه البخاري].
 
 
4.    - التكبير والتحميد والتهليل والذكر:
فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» [رواه أحمد]. وقال البخاري: "كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما". وقال: "وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً".
 
 
ويستحب للمسلم أن يجهر بالتكبير في هذه الأيام ويرفع صوته به.
والاكثار كذلك من الأعمال الصالحة المستحبة في سائر العام فتكون أكثر استحبابا وثوابا في هذه الأيام المباركة كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستحب للعبد الإكثار من الذكر والاستغفار وقراءة القرآن والصدقة والدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام وبر الوالدين، وغير ذلك من الطاعات والعبادات وسائر القربات لله تعالى
 
 
أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 

الشيخ الدكتور/ علاء محمد سعيد


 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين