أول نصر للمسلمين على الصليبيين

 

 

في السادس من رمضان

 

في السادس من شهر رمضان عام 532هـ الموافق 17 مايو 1138م، حدث أول نصر للمسلمين على الصليبيين بقيادة عماد الدين زنكي شمال الشام بحلب.

 

استطاع الصليبيون- بعد حملتهم الصليبية الأولى- أن يستولوا على جزء كبير من بلاد الشام والجزيرة خلال الفترة من [489هـ = 1069م] إلى [498هـ = 1105م]، وأنشؤوا فيها إماراتهم الصليبية الأربع: الرها، وإنطاكية، وطرابلس، وبيت المقدس.

 

وأصبح الوجود الصليبي في المشرق الإسلامي يشكل خطرًا بالغًا على بقية بلاد المسلمين، خاصة أن العالم الإسلامي- في ذلك الوقت- كان يعاني حالة من الفوضى والتشتت والضياع، بسبب تنازع الحكام والولاة، والخلاف الدائم بين العباسيين والفاطميين من جهة، وبين الخلافة العباسية التي بدأ الضعف يدب إليها ومحاولات التمرد والاستقلال عنها التي راحت تتزايد يومًا بعد يوم من جهة أخرى.

 

وسعى الصليبيون إلى بسط نفوذهم وإحكام سيطرتهم على المزيد من البلاد إليهم، وإنشاء إمارات صليبية جديدة؛ لتكون شوكة في ظهر العالم الإسلامي، تمهيدًا للقضاء التام عليه.

 

الاستعداد للمعركة الكبرى

 

ولم يشأ "عماد الدين" أن يدخل في حرب مع الصليبيين منذ البداية، فقد كان يريد أن يوطد دعائم إمارته الجديدة، ويدعم جيشه، ويعزز إمكاناته العسكرية والاقتصادية قبل أن يقدم على خوض غمار المعركة ضد الصليبيين.

 

وعمل على توحيد الإمارات الصغيرة المتناثرة من حوله تحت لواء واحد، فقد كان خطر تلك الإمارات المتنازعة لا يقل عن خطر الصليبيين المحدق بهم، وذلك بسبب التنازع المستمر بينهم، وغلبة المصالح الخاصة والأهواء على أمرائهم.

 

ومن ثم فقد عمل على تهيئة الأمة الإسلامية وتوحيدها قبل أن يخوض معركتها المرتقبة.

 

واستطاع الاستيلاء على "حلب"، كما هاجم عددًا من المواقع الصليبية المحيطة بها، وتمكن من الاستيلاء على خمسة منها، كما تمكن من الاستيلاء على "بعرين" التي وجد الصليبيون في استيلائه عليها خطرًا يهدد الإمارات الصليبية في المشرق، وحاول الصليبيون إنقاذ "بعرين"، ولكن حملتهم التي قادها الإمبراطور البيزنطي "حنا كومنين" فشلت في ذلك.

 

وعمل "عماد الدين" على تفتيت التحالف الخطير الذي قام بين الصليبيين في الشام والبيزنطيين، واستطاع أن يزرع الشك بين الطرفين ليقضي على التعاون بينهما، كما سعى في الوقت نفسه إلى طلب النجدات العسكرية من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.

 

الطريق إلى الرها

 

وسعى "عماد الدين" للاستيلاء على "دمشق" ليوحد الجبهة الشامية تمهيدًا للقائه المرتقب مع الصليبيين، إلا أن أمراءها استنجدوا بالصليبيين، وهو ما اضطره إلى التراجع عنها.

 

واستطاع أن يدعم موقفه بالاستيلاء على بعض المواقع وعدد من الحصون الخاضعة لإمارة "الرها" الصليبية، وتمكن بذلك من قطع الاتصال بين أمير "الرها" وبين حلفائه.

 

وكانت إمارة "الرها" واحدة من أهم الإمارات الصليبية في المشرق، وذلك لقوة تحصينها، وقربها من "العراق" التي تمثل مركز الخلافة الإسلامية، ونظرًا لما تسببه من تهديدات وأخطار للمناطق الإسلامية المجاورة لها.

 

ومن ثم فقد اتجهت نية "عماد الدين" إلى إسقاطها، وصحّ عزمه على فتحها، وراح يدرس الموقف بدقة، فأدرك أنه لن يتمكن من فتح "الرها" إلا إذا استدرج "جوسلين"- أمير "الرها"- وقواته خارجها، فلجأ إلى حيلة بارعة أتاحت له الوصول إلى مأربه؛ إذ تظاهر بالخروج إلى "آمد" لحصارها، وفي الوقت نفسه كان بعض أعوانه يرصدون تحركات أمير "الرها"، الذي ما إن اطمأن إلى انشغال "عماد الدين" عنه بحصار "آمد" حتى خرج بجنوده إلى "تل باشر"- على الضفة الغربية للفرات- ليستجم ويتفرغ لملذاته.

 

وقد كان هذا ما توقعه "عماد الدين"، فأسرع بالسير إلى "الرها" في جيش كبير، واستنفر كل من يقدر على القتال من المسلمين لجهاد الصليبيين، فاجتمع حوله حشد هائل من المتطوعين، فحاصر "الرها" من جميع الجهات، وحاول التفاهم مع أهل "الرها" بالطرق السلمية، وبذل جهدًا كبيرًا لإقناعهم بالاستسلام، وتعهد لهم بالأمان، ولكنهم أبوا، فما كان منه إلا أن شدَّد الحصار عليهم، واستخدم الآلات التي جلبها معه لتدمير أسوار المدينة قبل أن يتمكن الصليبيون من تجميع جيوشهم لإنقاذ المدينة.

 

حصار الرها وسقوطها

 

وبعد (28) يومًا من الحصار انهارت بعض أجزاء الحصن، ثم ما لبثت القلعة أن استسلمت لقوات "عماد الدين" في [28 من جمادي الآخرة 539هـ = 27 من نوفمبر 1144م]، فأصدر "عماد الدين" أوامره إلى الجند بإيقاف أي أعمال للقتل أو الأسر أو السلب، وإعادة ما استولوا عليه من غنائم وأسلاب، فأعادوا كل ما أخذوه إلى أصحابه.

 

وبدأ من فوره عملية تجديد وإصلاحات شاملة للمدينة، فأعاد بناء ما تهدم من أسوارها، وتعمير ما ضرب في الحرب أثناء اقتحام المدينة، وسار في أهلها بالعدل وحسن السيرة، حتى ينعموا في ظله بالأمن والعدل، واحتفظوا بكنائسهم وأوديتهم فلم يتعرض لهم في عبادتهم وطقوسهم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين