أولو الألباب (2)

الشيخ مجد أحمد مكي

 
نموذج أولو الألباب في سورة الرعد:
[أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ] {الرعد:19} .
تعجُّب وإنكار، وهذا الإنكار يتكرَّر في القرآن الكريم، فلا يستوي أهل الحق والباطل: [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {الأنعام:122}.
[أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ] {محمد:14}.
[أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {الملك:22}.
لا يستوي من عَرَف الحق بما أقام الله عليه من الشواهد والبراهين، ومن عَمي عن الحق وضلَّ عنه؟ والمراد بالعمى: عمى البصيرة الذي لا يدرك الشيء رغم وضوحه ونصوعه.
[إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ]: أصحاب العقول، والألباب جمع لُب، وهو حقيقية الشيء وجوهره، فجوهر الإنسان عقله، وهو مناط التكليف وأساس الثواب والعقاب.
وأولو الألباب هم الجديرون بمعرفة أسرار الله في شرائعه وحكمه، فهم الذين يدركون حكمة شرعية القصاص: [وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:179}.
1 ـ هم الذين يدركون حِكمة الله وأسراره في خلقه وكونه:[إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] {البقرة:164}.
2 ـ هم الذين يَعتبرون بالتاريخ وقصص القرآن، فلا تمرُّ على أسماعهم وحسب، ولكنها تمرُّ على قلوبهم، ولذلك نجد في القرآن الكريم:[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ] {يوسف:111}. [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ] {الزُّمر:21}.
3 ـ هم الذين يَنتفعون بآيات الله الكونية والتنزيلية: [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ] {ص:29}.
4 ـ هم الذين يعرفون قيمة العلم ويتميزون عن الجهلاء:[ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ] {الزُّمر:9} .
5 ـ هم الذين يَستمعون المواعظ والأقوال فيتَّبعون أحسنها، يميزون بين الحسن والأحسن؛ لأنهم أصحاب عقول فهم يرنون دائماً إلى الأحسن: [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ] {الزُّمر:18}. لا يقفون عند الحسن بل يتطلَّعون إلى الأحسن.
6 ـ هم الذين يُؤمنون بالمحكمات ويصدِّقون بالمتشابهات ولا يهلكون عندها، بل لرسوخهم في العلم يقولون عند المتشابه:[ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ] {آل عمران:7}.
فهم أصحاب العقول، الذين وصفهم الله بقوله:     [وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ] {البقرة:269}، [إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ] {الرعد:19}. بصيغة الحصر: وما يذكر.... إنما يتذكر....
فالحقائق معروفة، مركوزة في داخل الفطرة الإنسانية، وخارج الفطرة الإنسانية بما بثَّ الله في الكون من آيات ومذكرات...
وصفت أولو الألباب بجملة من الفضائل الخلقية الرفيعة، فربطت بين الكمال العقلي والكمال الخُلُقي، وهو ما نلحظه في نفي الجنون عن النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ] {القلم:2}. [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4}.
أول ما وَصفهم الله تعالى به، أنَّهم يوفون بعهد الله، وهو: ما عَهِد إليهم من الإيمان به وتوحيده وطاعة رسله، وهو الذي غَرَسه في فِطَر البشر حين أخذ عليهم العهد: [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى] {الأعراف:172}، [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] {يس:60}.
ويوفون بما عاهدوا الله عليه، وما عاهدوا عليه الناس: [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ] {النحل:91}.
ومن صفات أهل البر، الآية الجامعة: [وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] {البقرة:177}، على عكس صفات المنافقين الذين إذا عاهدوا غدروا، وإذا خاصموا فجروا، وإذا ائتمنوا خانوا، وإذا حدَّثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، فشتان بين الفريقين.
[الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ المِيثَاقَ] {الرعد:20} تأكيد للوفاء بالعهد، فلا يتركون الوفاء بالعهد لمصلحة تبدو عاجلة، وبعض الناس لا يبالي بما عاهد عليه الله، وما عاهد عليه الناس.
فالمسلم لا ينقض الميثاق، وإن تبدَّت له مصلحة: [وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا] {الإسراء:34} حتى ولو كان العهد مع كافر، فالقرآن الكريم قدَّم رعاية المواثيق مع الذين بينهم وبين المسلمين مواثيق على نصرة الذين لا يعيشون في دار الإسلام من المسلمين: [وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ] {الأنفال:72}.
فأولو الألباب يحترمون المواثيق أياً كان نوعها، ومنها ميثاق الزوجية: [وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا] {النساء:21}.
أولو الألباب: أصحاب العقول، ولبُّ الشيء حقيقته وجوهره...
وأول ما وصفهم الله به، أنَّهم يوفون بعهد الله، ولا ينقضون الميثاق.
ومن أوصاف أولي الألباب: [وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ] {الرعد:21} يَصِلون ما أمرَ الله به أن يوصل، بهذا التعميم والإجمال، الذي يشمل كل العلائق والصلات المتنوعة في الحياة، من رحم وزوجية وجوار وصحبة، فهي مما أمر الله به أن يوصل، فالإسلام جاء ليوثق الصلة بين الله وعباده، وبين الناس بعضهم ببعض، فهناك الصلات الخاصَّة كالرحم والزوجية والمصاهرة والجوار، وهناك الصلات العامة: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] {الحجرات:10}، فكل المؤمنين ينبغي أن يوصل، وأن ينصر على من ظلمه، أن ينصح له، ويذبَّ عنه، ونساعده عند الشدَّة.
ما هو دافعهم إلى هذا؟: [وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ] {الرعد:21} فخشية الله هي المفتاح.
والخشية خوف مع تعظيم من المخوف سبحانه، وعلم بقدرته، ولذلك قال تعالى: [إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ] {فاطر:28}.
والتعبير بقوله سبحانه: يخشون ربهم، كما قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ] {الملك:12}، [مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ] {ق:33} فهي خشية ممزوجة بنوع من الرجاء، فهم يخشون ربَّهم الذي ربَّاهم بنعمه، ورعاهم بفضله، وغَمَرهم بإحسانه.
[وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ] {الرعد:21} يستحضرون الآخرة، فليست الآخرة غائبة عنهم، فهي نصب أعينهم، وليس كشأن صنف الناس لا يرجون لقاء الله: [إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ] {يونس:7}.
وسوء الحساب: المناقشة والاستقصاء، فهناك الحساب اليسير الذي لا مُناقشة فيه، وهناك الحساب العسير إذا أوقف الإنسان للمساءلة ونوقش: ماذا فعلت؟ وكيف فعلت؟ ولمَ فعلت؟.
فأولو الألباب يخافون سوءَ الحساب، لا يزعمون أنَّ صفحتهم بيضاء، فليسوا من الملائكة، وليسوا أنبياء مَعْصومين، إنَّهم يخافون الله تعالى دائماً كما قال سبحانه: [إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ] {المؤمنون:57}، [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ] {المؤمنون:60}.
والصبر: حَبْس النفس على ما تكره مما يقتضيه الشرع أو العقل، والصبر ضرورة دينية ودنيوية، ولا يمكن للإنسان أن يفلح أو يفوز إلا بالصبر.
فأولو الألباب يَصبرون على البلاء، كما صبر أيوب عليه السلام: [إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ] {ص:44}.
وأولو الألباب يَصْبرون عما نهى الله عزَّ وجل عنه من المعاصي، مثل صبر يوسف عليه السلام إذ راودته التي هو في بيتها، وتهيَّأت له أسباب المعصية فأبى واستعصم، وقال: [قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ] {يوسف:33}.
وأولو الألباب يصبرون على طاعة الله عزَّ وجل مهما كان منها، كما صبر إسماعيل عليه السلام الذي قال له أبوه: [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ] {الصَّفات:102}.
ويصبرون على مشاقِّ الدعوة ومَتَاعب الطريق مهما طال، كما صبر نوح عليه السلام الذي ظلَّ ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو إلى الله تعالى، يدعو قومه ليلاً ونهاراً، وسرَّاً وجَهَاراً.
أولو الباب وصفهم الله بأنَّهم صبروا، ولم يذكر على أي شيء صبروا، ولا عن أي شيء صبروا، وعبَّر بصيغة الماضي... وغيَّر صيغة المضارع [الذين يوفون]، [ولا ينقضون]، و[يصلون]، و[يخشون]، و[يخافون]..، إلى الماضي مما يدلُّ على تحقق الصبر.
ولذلك نجد في آية البر: [وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] {البقرة:177} نصبت على الاختصاص أو المدح أي: أخصُّ الصابرين وأمدحهم.
صبروا ابتغاء وجه ربهم، هناك من يصبر مُراءاة للناس، مُراعاة للخلق ليقولوا: ما أصبره عند النوازل؟ وما أثبتَه عند النوازل؟ قد يوجد من يصبر كي لا يشمت به الأعداء، كما قال الشاعر:
وتجلدي للشامتين أريهم          أني لريب الدهر لا أتضعضع
ومن يصبر لأنَّه لا يجد غير أن يصبر، ولا يخطر بباله أن يرضي الله.
مزية أولي الألباب أنَّهم صبروا ابتغاء وجه ربهم، ابتغاء ثَوابه، كما قال سبحانه: [وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ] {المدَّثر:7} ولهذا كان صبرهم عبادة، والعبادات ليست هي العبادات الظاهرة من صلاة وزكاة وحج وذكر وتسبيح، هناك عبادات باطنة: الأخلاق الربانية، وهناك: أخلاق إنسانية، الصدق والتعاون والنظام، والعدل والوفاء، وهذه تشترك فيها الأمم دينية أم غير دينية، وثنية أو غير وثنية.
[وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ]: أدَّوها قائمة مستوفية للأركان والشروط والآداب، والله سبحانه لم يقلْ: صلَّوا. وإنما قال: [وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ].
وهو تعبير يفيد أنهم يؤدُّونها مستكملة لحقوقها، [وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ] {الرعد:22} فحينما يخرجون من أموالهم ما ينبغي أن يخرج فإنما يخرجون مما رزقهم الله، فالمال ليس لهم في الحقيقة، وإنما هو مال الله عندهم، وهم لا يُخرجون هذا المال كله، ولكنهم يخرجون بعضَه، فالله يطلب البعض لا الكل: [إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ] {محمد:37}. فلو سألكموها كلها وأحفاكم أي: لم يُبقِ لكم شيئاً هنالك تبخلوا...
[سِرًّا وَعَلَانِيَةً]: فأحياناً يُنفقون سراً، إن كان السر أولى، كأن يكون أبعد عن الرياء، وخصوصاً في صدقة النفل، يخرجونها سراً بعيداً عن التظاهر، وأحياناً ينفقون عَلانية، إذا كان الإنفاق فَريضة، حتى لا يتهمهم الناس بالتفريط في الواجب، وحتى يقتدي بهم غيرهم، إذا أمنوا على أنفسهم الرياء، فهم يقدرون المواقع التي تكون أولى بالسر، أو العلن.
وقد وصف الله المؤمنين: [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {البقرة:274}، [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {البقرة:271} .
ويدرؤون بالحسنة السيئة: يَدفعون بالحسنة السيئة، لا يُقابلون الإساءة بالإساءة، بل يُقابلون الإساءة بالإحسان، لا يريدون أن يقضوا حياتهم في المخاصمة مع الناس، والشجار مع الخلق، فالعمر أقصر والحياة أهون من أن يقضوها في المشادَّة، والملاحاة مع الآخرين، إنما تتسع قلوبهم وصدورهم، ليقابلوا المسيء بالإحسان، فهم يصلون من قطع، ويبذلون لمن منع، ويعطون من حرَم، ويعفون عمن ظلم، ويحسنون إلى من أساء...
كما وصف عباد الرحمن: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا] {الفرقان:63}، [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ] {القصص:55}.
يجزون من ظلمِ أهلِ الظلم مغفرة **  ومن إساءة أهل السوء إحساناً
كما قال تعالى: [وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] {فصِّلت:34} لا يستطيع أن يقف هذا الموقف إلا الذين صبروا، وهذا يدلُّ على أهمية الصبر في الأمور كلها...
[وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ] {الرعد:22} الجنة... جنان عدن... هي جنات، وليست جنة واحدة:
جاءت أم حارثة بن سراقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة ـ وكان قد قتل يوم بدر أصابه سهم ـ فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، فقال: يا أم حارثة إنَّها جنان في الجنَّة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى (رواه البخاري من حديث أنس بن مالك).
فهي جنان.. وجنان عدن معناها: الاستقرار والإقامة والخلود: [جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ] {الرعد:23}: فالله تعالى يكرمهم بأن يدخل معهم من يحبون من الآباء والأزواج.. فالرجل تَدخل معه زوجته الجنة، والمرأة الصالحة يدخل معها زوجها كرامةً لها، حتى تكمل البهجة، ويتم السرور، حينما يلتئم الشمل.
إنَّها نعمة عظيمة ولكن هذا لا يكون إلا بشرط الصلاح، ومن صلح، أما غير الصالحين فلا يدخلون الجنة معهم: [لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] {الممتحنة:3}، [فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ] {المؤمنون:101}.
فالكافر لا يَنفعه نسب، ولا ينفعه أب ولا زوج ولا ابن... لكن الأنساب تنفع أهل الإيمان، فإذا مَات أحدهم على الإيمان فإنَّ الله ينفعه بأهله، ولو كان أقل درجة منهم: [وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ] {الطُّور:21} فالأدنى يرتفع إلى الأعلى دون أن ينقص الأعلى شيئاً.
[جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ] {الرعد:23} يدلُّ على كثرة الأبواب، لتتسع للداخلين، ويكثر التحية والسلام لهم... [سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ] {الرعد:24}.
وهنا نجد أهمية الصبر مرة أخرى، فالعبادة تحتاج إلى صبر: [رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا] {مريم:65}.
الوفاء بعهد الله، ودفع السيئة بالحسنة , والإنفاق من رزق الله:[وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا] {الإنسان:12}.
تسليمات تأتيهم من كل ناحية: [لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا] {مريم:62}. والجنة: دار السلام، لكثرة ما فيها من السلام، ولأنها دار الأمان: [لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {الأنعام:127} ومن أسمائه سبحانه: السلام، والمسلمون تحيتهم السلام.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين