أولو الألباب (1)

الشيخ مجد أحمد مكي

 
العقلُ موهبةٌ إلهيَّةٌ وهبه اللهُ تعالى للإنسان، وشرَّفه به على جميع أنواع الحيوان، به يَعرفُ العاقلُ حَسَنَ الأشياء وقبيحها، وكمالها، ونقصانها، وبه يُعلم خَيْر الخيرين وشرّ الشرَّين.
ولقد بَلَغَ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرجحيَّة العقل وكماله الغايةَ القُصوى التي لم يبلغها أحدٌ سواه، وذلك بفضل الله تعالى عليه ونعمته.
قال الله تعالى: [ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2)]. {القلم}.. أي: أنت في أعلى مستوى كمال العقل، وسمو الفكر. فلقد أقسم سبحانه بالقلم، وبما يسطِّره المسطرون في المستوى الأعلى الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صريف أقلامه، وما تُسطِّره الأقلام المُستمدَّة من القلم الأول، أقسم بهذا القسم العظيم على سعة عقل هذا الرسول الكريم وإنه ليس فيه شائبة جنون، وإنما هو صاحب العقل الأكمل، والعلم الواسع الأفضل، وكيف لا يكون عقله فوق العقول، وقد أنعم الله عليه وخصَّه بالنبوَّة الجامعة والخاتمة، والرسالة العامَّة، ونزول القرآن الجامع للعلوم كلها، فإنَّ هذه النعم لا يتحمَّلها إلا من خصَّه الله بأكمل العقول، وأرجحها؛ ولذا قال تعالى: [مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ] {القلم:2}. أي: ما أنت بسبب نعمة ربك عليك بالنبوة والرسالة والقرآن الجامع لأنواع العلوم والحكمة، ما أنت بمجنون، فهو ينفي عنه ما اختلقه أعداؤه صلى الله عليه وسلم، ويثبت له بالدليل القاطع أرجحيَّة العقل والحكمة.
وذلك أنَّ من أوحي إليه القرآن، وأوحي إليه الحكمة التي هي فوق كل حكمة، كيف يتصوَّر أن يكون فيه شائبة خَلَلٍ أو نَقْص؟!.
[وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ] {القلم:3} بسبب صبرك على طعنهم بك [غَيْرَ مَمْنُونٍ] غير مقطوع. [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4} فهو صلى الله عليه وسلم أكمل الناس خُلُقاً وعقلاً.
إنَّ العقل الكامل هو الأصل الذي تنشأ عنه الخصال الحميدة والمواهب الرشيدة، وبه تقتبس الفضائل، وتُجتنب الرذائل، وهو الذي يُسلم صاحبه إلى مجامع الفضل والخير، كما ورد في حديث إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه حين دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلَّم عليه بالنبوَّة قال: فردَّ عليَّ السلام بوجهٍ طَلْق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: تعال فأقبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداك قد كنتُ أرى لك عقلاً رجوتُ أن لا يُسلمك إلا إلى الخير... (البيهقي في الدلائل 4: 455).
وروى الطبراني (في الكبير 70) عن قرة بن هبيرة رضي الله عنه أنَّه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّه كان لنا أرباب وربات الغيد هنَّ من دون الله عزَّ وجل، فدعوناهن فلم يجبن، وسألناهنَّ فلم يُعطينَ، فجئناك فهدانا الله بك، فنحن عبيد الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أفلح من رُزق لباً، عقلاً راجحاً، اهتدى به إلى الإسلام وفعل المأمورات، وترك المنهيات: [ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ] {الرعد:19}.
فالإسلام لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر، ولهذا قال ابن مسعود: إذا سمعت:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا] فأرْعها سمعك، فكل من استمع إلى هذا الدين وعَقَله ووعاه لابدَّ أن يُسَلِّم له ويَستسلم إليه.
ولما دخل الأعرابيُّ الفطريُّ العاقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيَّن له صلى الله عليه وسلم أوامر الإسلام ومناهيه، فخرج الأعرابي وأعلن إسلامه فقال له قومه: بم عرفت أنه رسول الله ؟ فقال: ما أمر محمدٌ بأمر قال العقل: ليته نَهَى عنه، ولا نهى عن شيء فقال: ليته أمر به.
وقد أدرك عبد المطلب حقيَّة الآخرة بعقله، وذلك أنَّه قال يوماً: ما من ظالمٍ يشتدُّ ظُلمه إلا سَينتقم الله منه قبل أن يموت، فقيل له: فلان طغى وجار، فقال انتقم الله منه يوم كذا، فقيل له: فلان. فقال: انتقم الله منه يوم كذا، فقيل له: فلان جار وطغى، ولم يصبه شيء! ففكَّر طويلاً ثم قال: إذاً لابدَّ من يوم آخر ينتقم الله منه.
وإلى ذلك تعبَّد الله تعالى العقلاء فقال سبحانه: [أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ] {الجاثية:21}.
ومن ثَمَّ قال تعالى مخبراً عما يقول الكفار يوم القيامة: [وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ] {الملك:11} يعني: أنَّهم لو سمعوا لهذا الدين لعلموا وعقلوا أوامره ومعانيه وحكمه، وأحكامه، لكنهم عَمُوا وصمُّوا.
فأوسع العقولِ وأكملُها وأرجحُها هو عقلُ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويتجلَّى لك كمالُ عقله، وسعةُ فكره، في جميع قضاياه وأعماله وأقواله وأحواله:
1 ـ مواجهته للعالم الذي انتشرت فيه الجاهلية الجهلاء في جميع طبقاته ومِلَله.
2 ـ أساليب حجَّته على عَبدَة الأوثان، وأدلته على اليهود والنصارى، وإلزامهم الحجة وإفحامهم وإلقامهم حجر الخذلان.
3 ـ حُسن تأليفه بين قومه الذين كانوا أشتاتاً مُنقسمين على بعضهم ورفعه الخلاف من بينهم وإبعادهم عن الشحناء والبغضاء، لاسيما في محازِّ الاختلافات، ومثار العصبيات والقبليات من أكبر الشواهد على سموِّ فكره وسعة عقله.
4 ـ مَواقفه اليقظة من المتصدين له بالعداوة، وأخذه بأنواع الحذر، وردّه مكرهم عليهم.
5 ـ سعة علومه العظمى ومَعَارفه الكبرى، التي لا يحصيها إلا الله تعالى.
إنَّ جميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوامر والإرشادات والجزئيات والكليات هي أماني العقلاء والحكماء وغايات أهل النظر والفكر:
1 ـ إنَّ موضع التكاليف الشرعية هو العقل، حتى إذا فُقِد العقل ارتفع التكليف..
2 ـ ولو كانت أوامره ونواهيه غير معقولة، لكان التكليف بها تكليفاً بما لا يُطاق.
3 ـ ولو كان فيما جاء فيه مُناقضة للمعقول، لكان الكفار ردوا عليه بذلك، فتارة يقولون: ساحر، وتارة شاعر، وتارة مجنون، وكيف يتفق الشعر والسحر مع الجنون..
4 ـ جميع العقلاء شهدوا بحقيقة ما جاء به صلى الله عليه وسلم ولهذا سلموا وأسلموا.
هذا النجاشي حين قال له جعفر: إنا كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي فينا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله عزَّ وجل لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن وآباؤنا نعبد من دون الله: من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحق الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وشهادة الزور، وأكل مال اليتيم.
فقال النجاشي بعد ذلك: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله وأنَّه الذي نجد في الإنجيل، وإنه الرسول الذي بشَّر به عيسى بن مريم، والله لولا ما أنا فيه من الملك، لأتيت هذا النبي حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه، كما في مسند أحمد (1740). وفي رواية الطبراني: لأتيته حتى أقبل نعليه.
وهذا أكثم بن صيفي، يبعث جماعة من قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغه مخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأتيا النبي فقالا له: نحن رسل أكثم، وهو يسألك: من أنت؟ وما أنت؟ وبم جئت ؟ فقال أما من أنا: فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا؟ فأنا عبد الله ورسوله، جئتكم بقول الله: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] {النحل:90}.فقالا: ردِّد علينا هذا القول فردَّده عليهم حتى حفظوه.
فأتيا أكثم فقالا له: أبى أن يرفع نسبه، فوجدناه أزكى النسب وسطاً في مضر، وقد روى لنا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوساً، ولا تكونوا أذناباً. (أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة 3: 285).
فجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعقول المحكم، ولا يمكن أن يأتي بمتناقضات عقلية، أو محالات فكرية، لكن قد يأتي بعظائم من الحكمة العالية التي تعجز العقول البشرية عن الإحاطة بها، واستيعاب جميع أسرارها، لضعف العقول عن ذلك، كما تضعف الأبصار عن التحديق في صفاء الشمس والإحاطة بنورها، وإنما ترى الأبصار من نور الشمس ما لا يسعها إنكاره، ولكنها لا تستطيع إدراكه وإحاطته، فالشريعة هي أحكام الله، وأحكام الله صادرة عن علمه، وحكمه، وأنى للمخلوق أن يحيط علماً بذلك كله.
القرآن يعرض صوراً لبعض النماذج البشرية ليتأسَّى بها الناس، ومن هذه النماذج: نموذج المتقين في أول سورة البقرة، ونموذج المؤمنين في أوائل سورة الأنفال، وأوائل سورة المؤمنون. ومنها: نموذج عباد الرحمن في أواخر سورة الفرقان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين