أهمّية الدِّراسات المشتركة في المقررات الجامعية علم الكلام والسنة النبوية نموذجا (1)

ضبط المصطلحات

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين، وبعد، فإنَّ جميع العلوم الإسلامية منتمية إلى الوحي، والمقصود بالوحي القرآن الكريم والسنة والنبوية، والسنة النبوية ترجع في الأصل إلى القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى هو الذي أعطى للسنة النبوية هذه المرجعية في آيات كثيرة، منها قوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(1)، وقوله سبحانه {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}(2).

وعلى هذا فالقرآن الكريم هو أصْلُ العلوم وأساسها، وإذا كان القرآن هو الذي أعطى المشروعية لجميع العلوم ومنها السنة النبوية، فإنَّ علم الكلام بالمعنى الذي نقصده يُعدُّ أساسا للعلوم، وبمقابل هذا نجد مناهج المتكلمين أثَّرت في التعامل مع السنة النبوية، فكان للمتكلمين أثر في هذا التعامل، وبناء على هذا نجد المتكلمين في بعض الأحيان يضعّفون بعض الأحاديث مع أنها صحيحة بميزان المحدثين، ويحتجون ببعض الأحاديث مع أنها ليست صحيحة بميزان المحدثين.

من هذا المنطلق جاء شبب الاختيار وأهمية هذه الدراسة لتكشف عن ضرورة الموازنة بين علمي الكلام وبين السنة النبوية وخاصة في العصور المتأخرة التي افتقدنا فيها هذا التناسق بينهما نظرا إلى ضعف التحصيل العلمي في الجامعات، وهذه الموازنة تنطلق من التآخي بين العلوم وتأثير بعضها على بعض، فعلم الكلام أثَّر في السنة من جهة المعايير التي وضعها بعض المتكلمين لقبول السنة والاحتجاج بها، كما أنَّ السنة كانت مصدرا من مصادر العقيدة الإسلامية، ولم أجد دراسةً اعتنت بهذا الجانب الذي يربط بين هذين العلمين من جهة التأسيس وأثر هذا في الجامعات.

أبرز المناهج التي سلكناها في دراستنا هذه هو المنهج التاريخي الوصفي الذي رجع بنا إلى مفهوم المصطلحات وضوابطها والنماذج من العلمَين، ومن الجلي أنَّ المنهج المقارن هو أساس في هذه الدِّراسة.

فيما يتعلَّق بهيكلة الدِّراسة فقد تمَّ تقسيمها إلى أربعة مباحث، وتحت كل مبحثٍ مطلبان.

المبحث الأول: ضبط المصطلحات:

تقوم هذه الدراسة كشأن الدراسة الأخرى على مصطلحات، ومن الأهمية بمكان ضبط هذه المصلحات، وأرز هذه المصطلحات مفهوم السنة وعلم الكلام

المطلب الأول: مفهوم السنة لغة واصطلاحا

يرجع مفهوم السن بالمعنى اللغوي إلى الاطِّراد والجريان على شكل واحدٍ لا اعوجاج فيه، يقول ابن فارس(ت:395ه):"السين والنون أصل واحد مطرد، وهو جريان الشيء واطراده في سهولة، ومما اشتق منه السنة وهي السيرة، وسنة رسول الله عليه السلام: سيرته" (3)، والسيرة تشمل الجوانب الحسنة والقبيحة وهذا ما أكَّده ابن سيده المرسي(ت:458ه)(4).

المقصود بالسنة النبوية في دراستنا هو المعنى الأصولي، وهي لا تخرج عن نوعين قول وفعل للنبي عليه الصلاة والسلام، يقول أبو بكر الجصاص(ت:370هـ):"وسنن رسول الله - عليه السلام - على وجهين: قول وفعل"(5)، والمقصود بالأقوال هي التي تصدر من اللسان كقوله عليه الصلاة والسلام:" «من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه» (6)، والمقصود بالأفعال: السُّنن التي تحتاج إلى عملٍ عضلي، وذلك كصلاته، وصومه وحجه، وغزواته... من ذلك مثلاً: صلُّوا كما رأيتموني أصلي، وقضية وضوء النبي عليه الصلاة والسلام.

والسنة التقريرية: هي ما فُعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره، أو علم به فسكت عليه؛ لأنه لا يسكت على باطل، ولا يُقر إلا حقاً؛ وكإقرار النبي صحابته على لبس ما نسجه الكفار من الثياب، ومن ذلك تقريرهم على ما بأيديهم من الأموال التي اكتسبوها قبل الإسلام من الربا أو غيره. ويذكر ابن القيم(ت:751ه) في كتابه إعلام الموقعين الكثير من الأمثلة المتعلقة بالتقريرات.

باختصار كلمة السنة هي بالمعنى الأصولي، ولا تعنينا هنا السنة بالمعنى الفقهي أو الحديثي؛ حيث يضيف المحدثون صفات النبي عليه الصلاة والسلام كحديث كعب بن مالك -رضي الله عنه أنه قال:" فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه " (7).

وكذلك لا تدخل التصرفات الجبليَّة كذات الأكل والشرب والنوم، وكذا لا تدخل الأمور الخاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام كجمْعه أكثر من أربع نسوة.

المطلب الثاني: علم الكلام

ليس القصد من هذه الدراسة هو الحكم على علم الكلام وبيان ماله وما عليه، فهذا ليس من مقاصد هذه الدراسة، وإنما الذي يعنينا هو ضبط المفاهيم والمصطلحات كمدخل لدراستنا، وبناء على هذا فعلم الكلام له تعاريف كثيرة منها تعريف ابن خلدون(ت:808) "هو علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة والرّدّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السّلف وأهل السّنّة" (8).

وليس خافيا الفرق بين علم الكلام وعلم العقيدة، ومن أبرز الفروق أنَّ علم الكلام توسَّع في أشياء ليست داخلة في العقيدة كالحديث عن الهواء والرطوبة والتعمق الزائد في الجوهر والعرض، وخاصَّة في كتب المتكلمين الأخيرة ككتاب المواقف في علم الكلام لعضد الدين الإيجي الأشعري (ت: 756 ه) وكتاب شرح المقاصد لسعد الدِّين التفتازاني الماتريدي (ت:793هـ)(9).

ويُفهم من هذا أنَّ علم الكلام ينطلق من الأدلة العقليَّة، وهذا الانطلاق ليدافع عن الأدلة النقليَّة، ومن المعلوم أنَّ السنة النبويَّة هي من الأدلة النقلية، فهل هذا يعني أنَّ السنة النبوية تقوم على علم الكلام؟

الجواب عن هذا بحسب عقيدة الباحث فمن يرى الكلام بدعة وأنه لا يجوز الاقتراب منه لا يقتنع بهذا الكلام، ومن يرى أنَّ وظيفة علم الكلام هي الدفاع عن العقيدة الإسلامية فهو يرى أن الجدل في الدفاع عن النبي عليه الصلاة والسلام يرجع إلى علم الكلام، وعلينا هنا أن نفرق بين أمرين: بين السنة النبوية كأقوال وأفعال بالتعريف السابق فهذه لا علاقة لها بعلم الكلام، إذ مرجعها إلى مصطلح الحديث، وبين من ينكر وجود النبي عليه الصلاة والسلام ابتداء فهذا يُرد عليه من خلال علم الكلام، وخير من وضح هذه المسألة الغزالي(ت:505ه) في مقدمة كتابه "المستصفى".

فالعلوم عنده تُقسم عقلية كالطب والحساب والهندسة وإلى دينية كالكلام والفقه وأصوله وعلم الحديث وعلم التفسير وعلم الباطن، ثم يخلص إلى نتيجة مفادها "فالعلم الكلي من العلوم الدينية هو الكلام وسائر العلوم من الفقه وأصوله والحديث والتفسير علوم جزئية؛ لأن المفسر لا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصة والمحدث لا ينظر إلا في طريق ثبوت الحديث خاصة" ويستدل على ذلك ببعثة الرسول وصدقهم بالمعجزات وما يجوز عليهم وما يستحيل في حقهم وهي من مباحث المتكلمين، وخلاصة هذا أن المتكم" يبتدئ نظره في أعم الأشياء أولا وهو الموجود، ثم ينزل بالتدريج... فيثبت فيه مبادئ سائر العلوم الدينية من الكتاب والسنة وصدق الرسول، فيأخذ المفسر من جملة ما نظر فيه المتكلم واحدا خاصا وهو الكتاب فينظر في تفسيره، ويأخذ المحدث واحدا خاصا وهو السنة فينظر في طرق ثبوتها..."(10).

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين