أهل البيت في الحديث النبوي(8): التعريف الاصطلاحي

ثالثًا: أدلة القائلين بأن أهل البيت هم خمسة فقط: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة بنت محمد، وعلي بن أبي طالب، والحسن والحسين ابنا علي وفاطمة رضي الله عهنما:

أصحاب هذا القول يرون أن أهل البيت اصطلاح قرآني خاص، وأنه لقبٌ لهؤلاء الخمسة فقط دون غيرهم، على سبيل النصّ عليهم. ولذلك فإن هذا اللقب لا يشمل غير هؤلاء المذكورين من بيت النَّسب حتى ولو كان أقرب من بعضهم في درجة النسب كالعباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو مساويًا لبعضهم كأبناء عمومة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أصهاره صلى الله عليه وآله وسلم سوى علي رضي الله عنه، أو بناته صلى الله عليه وآله وسلم سوى فاطمة رضي الله عنها.

والضابط في ذلك ليس قرابة النسب وإلا لشمل جميع أقربائه مسلمهم وكافرهم، وليس مجرد السكنى وإلا لشمل جميع الساكنين معه من الأزواج والخدم وغيرهم، وإنما هو اصطفاء واجْتباء من الله تعالى لهؤلاء الخمسة فقط، بناء على ما عندهم من استعدادات.([1])

واستدلوا لقولهم هذا بالقرآن الكريم والسنة النبوية، كما يأتي:

1- من القرآن الكريم:

أ- قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب:33]، وهذه الآية هي محور البحث، واستدلوا بها من وجوه:

أحدها: ما ذُكِر من أنهم سببُ نزول هذه الآية أو أنها فيهم نزلت:([2])

ومن ذلك ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا عليًّا وفاطمة وحسنًا وحسينًا رضي الله عهنما فجلّلهم بكساء، ثم قال: «﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾». قال: «وفيهم نزلت».([3])

وما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «نزلتْ هذه الآية في خمسة: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ فيَّ وفي علي وفاطمة وحسن وحسين».([4])

وما روي موقوفًا على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، قال: نزلتْ في خمسة، في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عهنما.([5])

وهذا له حكم المرفوع.

وعن عطية العوفي قال: سألتُ أبا سعيد الخدري: مَنْ أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجْس وطهَّرهم تطهيرًا؟ فعدَّهم في يده خمسة: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين.

قال أبو سعيد: في بيت أم سلمة أُنزلتْ هذه الآية.([6])([7])

ودعوى نزول الآية في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرف عظيم لم تدّعه لنفسها واحدة من النساء، بل صرّحتْ غير واحدة منهنَّ بنزولها في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين.([8]) وهُنّ كُنّ أحرص على نقلِ هذا الفضل وإثباته، لو صح.

ثانيها: مخالفةُ نظْمِ المقطع من الآية في الضمائر لما سبَقَه ولما تلاه من الآيات، فقد قال سبحانه حين الكلام على أهل البيت: ﴿عَنْكُمُ﴾ و ﴿يُطَهِّرَكُمْ﴾ على خطاب التذكير، بخلاف استخدام البيان القرآني ضمير الإناث المتمثل بنون النسوة في كل الأوامر والنواهي السابقة والتالية للآية، وكذلك خطاب النساء، إلا في هذا الجزء من الآية، فقد استخدم خطابَ التذكير، فعقَلْنا أن قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب:33] خطابٌ لمن أراده من الرجال، ليُعْلِمهم تشريفه لهم، ورفعه لمقدارهم، أن جعل نساءهم على هذا الوصف المذكور في الآيات.

والسر في تبديل الضمائر في الصيغة الخطابية من التأنيث إلى التذكير، يدل على أن المرادين بهذا الخطاب غير المرادين بتلك الآيات. أي إن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسن من أهل البيت الذين يقصدهم تعالى بهذا الخطاب في هذه الآية، إذ لو كان الخطاب للنساء لقال سبحانه: عنكنَّ، ويطهركنَّ.([9])

ثالثها: البيت بالمعنى اللغوي قد يُقصَد به بيت السكنى، وقد يُقصَد به بيت القرابة والنسب. وكِلَا الاحتمالين عام.

أما عمومه على تقدير أنه بيت السكنى فلأنه يشمل الأبناء والأزواج والإماء والخدم، فإن كل هؤلاء يسكنون البيت. وأما عمومه على تقدير أنه بيت القرابة فظاهر أيضًا.

وقد صرحتِ الأدلة الصحيحة أنّ هذا العموم غيرُ مراد، وهو ما اتفق عليه جمهور المسلمين.

فالآية نزلتْ في بيت أم سلمة، ولم يُدْخِلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مدلولها، لو كان المراد بالبيت بيت السكنى.

أضف إلى ذلك أنه قد كان لعلي رضي الله عنه بيته الذي يسكن فيه، وهو غير بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلو كان المراد بيت سكنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يدخل علي ولا فاطمة ولا الحسن ولا الحسين رضي الله عهنما في مضمون الآية، مع أن دخولهم في مدلول الآية لا ريب فيه.

ومن أقربائه صلى الله عليه وآله وسلم: بنو نوفل وبنو عبد شمس، وليسوا من أهل البيت، مع أنهم في نفس درجة قرابة بني هاشم.([10])

واحتمال دخول الأزواج في مسمَّى أهل البيت بحسب اللغة غير وارد هنا، بدلالة القرائن التي تنفي هذا الدخول في إطلاق عُرف الشارع. فلم يبق إلا القول بأن المراد بأهل البيت إنما هو مصطلح خاص يقصد به بيت النبوة، وهم أصحاب الكساء.([11])

ولام التعريف في (أهل البيت) قد تكون للجنس أو للاستغراق أو للعهد.([12])

واللام التي تُستخدم للجنس كله كقوله سبحانه: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر:2]، واللام التي يراد منها استغراق أفراد العام كقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّها النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة:73]، واللام التي تستعمل في العهد باعتبار معهودية مدخولها بين المتكلّم والمخاطب، كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:173].

ولا يمكن حَمْلُ اللام في (البيت) على الجنس أو الاستغراق، لأنّ الأَوّل إنّما يناسب إذا أراد المتكلم بيان الحكم المتعلّق بالطبيعة. ومن المعلوم أنّ الآية الكريمة ليست بصدد بيان حكم طبيعة أهل البيت.

كما لا يصح أن يحمل على العموم، أي: جميع بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإلاّ لناسب الإتيان بصيغة الجمع، فيقول: أهل البيوت، كما أتى به عندما كان بصدد إفادة ذلك، وقال في صدر الآية: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب:33].

فتَعيَّن أن يكون المراد هو الثالث، أي البيت المعهود. فالآية تشير إلى إذهاب الرجْس عن أهل بيت خاص، معهود بين المتكلم والمخاطب، وحينئذ يقع الكلام في تعيين هذا البيت المعهود، فما هو هذا البيت؟ هل هو بيت أزواجه، أو بيت فاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم؟

لا سبيل إلى الأوّل، لأَنّه لم يكن لأزواجه بيت واحد حتى يكون هو المشار إليه، بل تسكن كل واحدة في بيت خاص، ولو أُريد واحدًا من بيوتهن لاختصَّت الآية بواحدة منهن، وهذا ما اتفقتْ الأُمّة على خلافه.

هذا كلّه على تسليم أنّ المراد من البيت هو البيت المبني من الأحجار والأخشاب، في حين أنّه يتعيّن حمله على بيت خاص معهود، وهو بيت النبوة، ولا يصح حمله إلا على بيت خاص وهو بيت علي وفاطمة.([13])

وأمّا لو قلنا بأنّ البيت قد يُطلَق ويراد منه تارة بيت السكنى، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب:33]، وأُخرى غير هذا النمط من البيت، مثل قول القائل: (بيت النبوة) و (بيت الوحي) تشبيهًا لهما على المحسوس، فلا محيص أن يراد منه المنتمون إلى النبوَّة والوحي بوشائج معنويَّة خاصَّة على وجه يصح مع ملاحظتها، عدّهم أهلًا لذلك البيت، وتلك الوشائج عبارة عن النزاهة في الروح والفكر، وكمال الأهلية والاستعداد لنيل هذا المقام السامي، ولا يشمل كل مَن يرتبط ببيت النبوة عن طريق السبب أو النَّسب فحسب، وفي الوقت نفسه يفتقد الأواصر المعنويَّة الخاصَّة، وعلى ذلك لا يصح تفسير الآية بكل المنتسبين عن طريق الأواصر الجسمانيَّة لبيت خاص حتى بيت فاطمة، إلاّ أن تكون هناك الوشائج المشار إليها، والله تعالى هو الذي عرف أولئك الذين حصلوا على الكمالات التي أهلتهم لهذا المقام، فأخبر عنهم نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فعيَّنهم صلى الله عليه وآله وسلم لنا من خلال حديث الكساء، وغيره.

وهذه القرينة تحضّ المفسر على البحث عن الأفراد الذين يرتبطون بالبيت بأواصر خاصة.

وبذلك يسقط القول بأنّ المراد منه أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّه لم تكن تلك الأواصر الخاصة بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبينهنّ باتفاق المسلمين، وأقصى ما عندهن أنهن كنَّ مسلمات مؤمنات.([14]) وهذا ما بيَّنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث كثيرة بقوله: «اللهم هؤلاء أهل بيتي»([15])، وبدعائه لهم. وهم الذين شملهم رسول الله بكسائه، وهم علي وفاطمة وابناهما، بالإضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأس أهل البيت وسيدهم.

وأخبار إدخاله صلى الله عليه وآله وسلم عليًّا وفاطمة وابنيهما رضي الله عهنما تحت الكساء، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم هؤلاء أهل بيتي»، ودعائه لهم، وعدم إدخال أم سلمة أكثر من أن تحصى. وهي مخصصة لعموم أهل البيت، بأي معنى كان البيت.([16])

ولو سلمنا جدلًا، أن المراد هو بيت السكنى، فإن ذلك لا يحتم دخول الزوجات إذ إن الألف واللام فيه إنما هي للعهد الخارجي. وهو البيت الذي اجتمع فيه أهل الكساء مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.([17])

فيخرج كل مَن لم يكن داخلًا في ذلك البيت آنئذٍ. لاسيما وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخرج أم سلمة وقد كانت تسكن ذلك البيت، كما نصَّت الروايات.([18])ولقد ضَل مَن ضل في تفسير الآية بغير أصحاب الكساء، فحَمَل البيت في الآية على البيت المبني من حجر ومدر مع أنّ المراد غيره.([19])

رابعها: استخدم البيان القرآني البيت بصيغة الجمع فقال: ﴿بُيُوتِكُنَّ﴾، حين الكلام على الأزواج، وبصيغة الإفراد حين الكلام على أهل البيت، وفي هذا دلالة على أن المراد ب﴿بُيُوتِكُنَّ﴾، غير المراد ب: ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾، وهو أنه أراد به غير المذكور فيما قبله وفيما بعده من زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فالمراد ب: ﴿بُيُوتِكُنَّ﴾: خصوص الأزواج، والمراد ب: ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾: خصوص أصحاب الكساء.([20])

خامسها: الآيات المتعلقة بأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تخاطبهن بلفظ ﴿أَزْوَاجكَ﴾ أو ﴿أَزْوَاجه﴾ والمقصود النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومرتين بلفظ ﴿نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾ الصريحين في زوجاته، والعدول عنهما إلى لفظ ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ قرينة على أنّ المخاطب به غير المخاطَب بهما.([21])

سادسها: إن مجيء آية تطهير أهل البيت ضمن سياق الآيات النازلة في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعني بالضرورة أن يكون المقصود فيها واحدًا، ذلك أنه يوجد العديد من آيات الكتاب الكريم التي تحوي الواحدة منها أمرين مختلفين تمامًا عن بعضهما، وإنما يعرف ذلك بالقرائن.([22])

ب- قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ^ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ^ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ^﴾ [آل عمران:59-61] وذلك حين قدم وفد نصارى نجران، وجادلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عيسى ابن مريم صلى الله عليه وآله وسلم. فلما استكبروا عن قَبول الإسلام، بعد إقامة الحجَّة عليهم ببيان الحق لهم، أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو هؤلاء المحاججين حين اليأس من إسلامهم أن يدعوا جميعًا أبناءهم ونساءهم وأنفسهم، ثم يبتهلوا إلى الله سبحانه أن ينزل لعنته وغضبه على الكاذبين. فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمباهلة، ولم يَدْعُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جانبه إلا عليًّا وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عهنما، ولم يأخذ غيرهم([23]) من الأزواج أو بقية القرابة، مع وجودهم وتيسُّر أخْذهم، بل أكَّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعله بقوله الصريح، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم هؤلاء أهلي»، للتأكيد على أن هؤلاء فقط هم أهله.

وقد روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ [آل عمران:61] دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليًّا وفاطمة وحسنًا وحسينًا، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي».([25])

وفي رواية قال صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم هؤلاء أهلي، وأهلُ بيتي».([26])

وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: فيهم نزلت: ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ الآية.

قال جابر: أنفسنا وأنفسكم: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي، وأبناءنا: الحسن والحسين، ونساءنا: فاطمة.([27])

فقوله تعالى: ﴿أَبْنَاءَنَا﴾ قيل: أراد الحسن والحسين، ويؤيده قوله تعالى في إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ^ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ^﴾ [الأنعام:84-85] ومعلوم أن عيسى صلى الله عليه وآله وسلم إنما انتسب إلى إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم بالأم -لا بالأب- فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابنًا. و﴿نِساءَنَا﴾: فاطمة. و﴿وَأنْفُسَنَا﴾ عنى نفسَه صلى الله عليه وآله وسلم وعليًّا رضي الله عنه، والعرب تسمي ابن العم نفسه، كما قال: ﴿وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ [الحجرات:11] يريد: إخوانكم.([28])

ج- قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ^ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ^﴾ [الشورى:22-23]

وقد ورد أن الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المراد بالقربى فيها فقال: إنهم أهل الكساء، كما ذكر عبد الله ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزلت: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى:23] قالوا: يا رسول الله، ومَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: «علي وفاطمة وابناهما».([29])

وذكر ابن كثير عن ابن أبي حاتم([31]) قال: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا رجل سماه، حدثنا حسين الأشقر، عن قيس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى:23] قالوا: يا رسول الله، مَن هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال: «فاطمة وولدُها».([32])

وخطب الحسن بن علي رضي الله عنه الناس حين قُتِل علي رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لقد قبض في هذه الليلة رجل، لا يسبقه الأولون بعمل، ولا يدركه الآخِرون. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيه رايته، فيقاتل وجبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فما يرجع حتى يفتح الله عليه. وما ترك على أهل الأرض صفراء ولا بيضاء، إلا سبعمائة درهم فضلت من عطاياه، أراد أن يبتاع بها خادمًا لأهله. ثم قال: أيها الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن ابن علي، وأنا ابن النبي، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشير، وأنا ابن النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذي كان جبريل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا، وأنا من أهل البيت الذي افترض الله مودتهم على كل مسلم، فقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ [الشورى:23]، فاقتراف الحسنة: مودتنا أهل البيت.([33])

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا فخطب فقال للأنصار: «ألم تكونوا أذلاء فأعزكم الله بي؟ ألم تكونوا ضلالًا فهداكم الله بي؟ ألم تكونوا خائفين فأمَّنكم الله بي؟ ألا تردُّون علي»؟ قالوا: أي شيء نجيبك؟ قال: «تقولون: ألم يطردك قومك فآويناك؟ ألم يكذبك قومك فصدقناك»؟ فعدَّد عليهم. قال: فجثوا على رُكَبِهم، فقالوا: أموالنا وأنفسنا لك. فنزلت: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾.([34])

وهذا التأكيد على وجوب المودة في القربى وتمكُّنها فيهم، وجعلها أجرًا للرسالة، إنّما كان وسيلة لإرجاع الناس إليهم في أمور الرسالة، لأنهم أعلم الناس بها، كما ورد في حديث الثقلين.

والاستثناء منقطع، والمودة ليست أجرًا، ويكون التقدير: أُذَكِّرُكم المودة في القربى.([35]) كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أُذَكِّرُكم الله في أهل بيتي».([36])

ولذلك قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببيانهم بأسمائهم وأشخاصهم بأوضح بيان.([37])

2- من السنة الشريفة:

أ- حديث الكساء: الذي رواه جماعة من الصحابة في الصحيح وغيره،([38]) وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شمل عليًّا وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عهنما بكسائه صلى الله عليه وآله وسلم ودعا لهم، وأشار إليهم بأنهم هم أهل بيته، بأسلوب الحصر، دون غيرهم. وكرَّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في مناسبات مختلفة.

وحين دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَن دعا عند نزول آية التطهير لم يُبْقِ من أهلها المرادين فيها أحدًا سواهم، وإلا لأدخله. وإذا كان ذلك كذلك استحال أن يدخل معهم فيما أُريدتْ به سواهم.([39])

ومن هذه الروايات: ما روته عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم غداةً، وعليه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ من شعر أسود. فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: «﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾».([40])

وعن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلَّل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء، ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، أذهبْ عنهم الرجس، وطهرْهم تطهيرًا».([41])

وعن واثلة بن الأسقع الليثي رضي الله عنه قال: جئتُ أريدُ عليًّا رضي الله عنه فلم أجده، فقالت فاطمة رضي الله عنها: انطلقَ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوه، فاجلس. قال: فجاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخلا، فدخلتُ معهما. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسنًا وحسينًا، فأجلس كل واحد منهما على فخذه، وأدنى فاطمة من حجره وزوجها، ثم لف عليهم ثوبه، وأنا منتبذ، فقال: «﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، اللهم هؤلاء أهلي، اللهم أهلي أحق».([42])

وفي رواية لأحمد والحاكم: قال صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق».([43])

وعن عبد الله بن عباس: وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثوبه على علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾([44])

وعن عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عن أبيه قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرحمة هابطة قال: «ادعوا لي، ادعوا لي». فقالت صفية: مَن يا رسول الله؟ قال: «أهلَ بيتي، عليًّا وفاطمة والحسن والحسين». فجيء بهم. فألقى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كساءه، ثم رفع يديه، ثم قال: «اللهم هؤلاء آلي، فصلِّ على محمد، وعلى آل محمد». وأنزل الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.([45])

وورد في كثير من روايات حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مكانها من أهل البيت هؤلاء، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفي ذلك عنها كما هو ظاهر الروايات، فكانت تقول: يا رسول الله، وأنا منهم؟ فيقول: «لا، وأنتِ على خير».([46]) أو يقول: «أنتِ على مكانك».([47])

ويقول مطمئنًا لها مع ذلك إنها وإن لم تكن كذلك فإنها «بخير» و «على خير» و «إلى خير» و «من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم».

فنفى عنها كونَها من أهل البيت المقصودين بالآية، وأثبت لها الخيرية لكونها من أهله، يعني: أزواجه. والزوجة تسمى بهذا الاسم، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنكِ من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم». وما قال إنكِ من أهل البيت.([48])

ولما أرادت أم سلمة رضي الله عنها الدخول تحت الكساء منعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك.([49])

ودعوى إدخال أم سلمة صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الكساء -على فرض صحتها، مع أنا لا نسلِّم بذلك- بعد منعها من ذلك في البداية تدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل أم سلمة تحت الكساء لتشارك أهل بيته بما اختصهم الله به، بل أدخلها إرضاءً لها، وتطييبًا لخاطرها بأنه راض عنها، لا أنها من أهل البيت، وذلك بعد أن قضى دعاءه لابن عمه، وابنته، وابنيه، كما ورد في نفس الرواية. وبعد أن بيَّن أهل بيت النبوة، أهل بيته الخاصين.([50])([51])

فدلَّ ما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أم سلمة رضي الله عنها أنها ليست مشمولة بالآية.

ولم يدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم سلمة مع أصحاب الكساء لئلا يتوهَّم دخول غيرها من مثيلاتها من الأزواج، وفي نفس الوقت دل إخراجه لها على إخراج مثيلاتها من أهل البيت.([52])

ودلَّ فعلُه صلى الله عليه وآله وسلم كما روى كل هؤلاء الصحابة، وتكراره قراءة هذه الآية، على أن المرادين بما فيها هم: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عهنما دون مَن سواهم. ولذلك حَصَرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت الكساء ليؤكد على اختصاصهم بالآية، بشكل مُعلَن على وجه يقطع الطريق على كل تأويل آخر، يطمع به طامع أو مبغض حاسد.

قال الطحاوي: ((فدل ما روينا في هذه الآثار [روايات حديث الكساء] مما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أم سلمة مما ذكر فيها لم يرد به أنها كانت ممن أريد به مما في الآية المتلوة في هذا الباب، وأن المرادين بما فيها هم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلي، وفاطمة، وحسن، وحسين عليهم السلام دون مَن سواهم)).([53])

ويحتمل أنَّ لأم سلمة خصوصيَّةً استحقَّت بها ذلك، تمامًا كما كان الحال بالنسبة إلى سلمان الفارسي وواثلة، فإن إدخالهم في أهل البيت إنما هو لخصوصية كانت لهم، فلا يُعَمَّم على غيرهم.([54])

ب- يضاف إلى ذلك: تكراره صلى الله عليه وآله وسلم المرور على باب علي وفاطمة فترة طويلة يوقظهم لصلاة الصبح ويرغِّبهم فيها، وينبِّههم وينبِّه الآخرين غيرهم إلى أنهم ينبغي أن يكونوا من السابقين والمسارعين إلى العبادة، لأنهم أهل البيت الذين يريد الله سبحانه أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرًا.

وهذا الأسلوب العملي المتكرِّر منه صلى الله عليه وآله وسلم للتأكيد على أنهم هم أهل البيت لا غير، لأنه لم يَرِد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قرأها عند أي من بيوت الغير من الأزواج أو بقية القرابة. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقصد من هذا الإصرار العظيم على هذا الأمر أن يزيد الأمر ثبوتًا، وتأكيدًا، ورسوخًا، وأن يزيل أية شبهة فيما يرتبط بالمراد من أهل البيت.

بهذا الإعلان بالقول والفعل منه صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصورة الواضحة المتكررة أَعلَمَ الآخرين بالمقصود بأهل البيت.([55])

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: «الصلاة يا أهل البيت، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾».([56])

وعن أبي الحمراء([57]) رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي باب فاطمة ستة أشهر، فيقول: «﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾».([58])

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء إلى باب علي أربعين صباحًا بعد ما دخل على فاطمة، فقال: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، الصلاةُ، رحمكم الله، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾».([59])

وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: شهدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسعة أشهر، يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند وقت كل صلاة، فيقول: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلَ البيت، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، الصلاةُ، رحمكم الله». كلَّ يوم خمسَ مرات.([60])

ج- حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعتُه يقول: «يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي».([61])

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وزيد بن أرقم رضي الله عنه: قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما».([62])

قالوا: والمراد بالعترة هم الأقربون من الذريَّة والنسل، وهم أصحاب الكساء.([63])

وبالحديث الذي ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العترة استدلوا على إخراج الأزواج من أهل البيت، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسَّر أهل البيت بالعترة، ولا يدخل أزواج الرجل في عترته.

وأصرح منه في ذلك حديث زيد بن أرقم الآتي.

د- حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومًا فينا خطيبًا بماء يدعى خمًّا بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكَّر، ثم قال: «أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به». فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: «وأهلُ بيتي، أُذَكِّركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي». فقال له حصين([64]): ومَن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته مَن حرم الصدقة بعده. قال: ومَن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس. قال: كل هؤلاء حُرِم الصدقة؟ قال: نعم.([65])

وفي رواية أخرى: سئل زيد بن أرقم: مَن أهل بيته نساؤه؟ فقال: لا، وأيم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها، فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعَصَبته الذين حُرِموا الصدقة بعده.([66])

وبالنسبة لرواية زيد بن أرقم هذه، فإنا نسجل عليها المؤاخذات التالية:

- تفسير زيد بن أرقم رضي الله عنه لـ(أهل البيت) بأنهم مَن حُرِم الصدقة، إنما هو اجتهاد منه، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عيَّن المراد من أهل البيت بأنهم أصحاب الكساء، فيكون اجتهاده مخالفًا للنصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعيين أهل البيت، والمعيار هو كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لا اجتهاد في مقابلة النص.([67])

- المراد بالبيت في آية التطهير هو بيتُ النبوَّة، ولو كان المراد بيتَ النسب، لأدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الكساء العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأقرب من علي رضي الله عنه في النسب، أو لأدخل أبناء عمومته الآخرين كجعفر وابن عباس وغيرهم إذ هؤلاء يساوون عليًّا رضي الله عهنما في النسب.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستطيع أن يدخلهم في الكساء كما أدخل أصحاب الكساء.

أو لمرَّ على بيوتهم، وقرأ آية التطهير ولو لمرة واحدة على الأقل، كما فعل ذلك مع أصحاب الكساء بصورة متكررة.

- إن زيد بن أرقم لم يكن بصدد بيان المراد من عبارة (أهل البيت) الواردة في آية التطهير، بل كان يفسر المراد من حديث الثقلين. فيكون على رأيه لأهل البيت معنيان، وهو هنا يذكر المقصود بهم في حديث الثقلين، وهذا على ما فيه قد يتسامح فيه.

- إنَّ حرمة الصدقة لا تنحصر بالمذكورين في حديث زيد بن أرقم، فإن جميع بني هاشم عند جمهور أهل السنة -وأضاف بعضهم بني المطلب- يشاركونهم في هذا الحكم([68])، وهذا يعني دخولهم جميعًا في مفهوم أهل البيت، الأمر الذي يناقض الحصر في حديث زيد.([69])

- إن هذا الحديث يوحي بإخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل البيت، وهو داخل باتفاق.([70])

وبالتالي فإن الاستدلال بهذا الحديث على أن المراد من أهل البيت مَن حُرِّمتْ عليهم الصدقة من أقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قول مردود.

هذا بالإضافة إلى أن زيد بن أرقم رضي الله عنه في هذا الحديث ينفي صراحة كون أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته أو من أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم، وعلّل ذلك بقوله: إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها، فترجع إلى أبيها وقومها.

وقوله في الرواية الأولى: نساؤه من أهل بيته، لعله أراد به: أنساؤه من أهل بيته؟ بهمزة الاستفهام الإنكاري، كما هو صريح قوله في الرواية الأخرى، فيكون بمعنى ليس نساؤه من أهل بيته. فيكون رضي الله عنه ممن يرى أن نساءه صلى الله عليه وآله وسلم لسن من أهل البيت أصلًا.

أو يُحْمَل قوله على أن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل بيته بالمعنى العام لعبارة أهل بيت الرجل، ولكن آية التطهير لا يقصد بها ذلك المعنى العام، بل المقصود بها مَن حُرِم الصدقة من بعده، ويدل على ذلك أنه رضي الله عنه قد عقبه بقوله: (لكن) الدالة على أن ما بعدها هو الصحيح، وإلا لكان الأصح أن يقول هكذا: نساؤه من أهل بيته، وكذا مَن حرموا الصدقة بعده.([71])

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة رضي الله عنها: «إنكِ أهلي خير».([72]) أو: «إنكِ من أهلي».([73]) كقوله صلى الله عليه وآله وسلم لواثلة رضي الله عنه: «إنكَ من أهلي». يحمل على معنى: اتباعك إياي أو إيمانك بي. فأَدخلَهم بذلك في أهله. وواثلة أبْعَدُ منه صلى الله عليه وآله وسلم من أم سلمة من ناحية النسب، لأن واثلة رجل من بني ليث، ليس من قريش، وأم سلمة من قريش.([74])

ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم سلمة ولا واثلة ولا غيرهم من غير أهل الكساء من أهل البيت حقيقة، وإن كان يحتمل أنه جعلهما من أهله بمعنى إشراكهما في الدعاء لهما، لا أنهما من أهل البيت كما هو صريح نفيه صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد وجدنا الله تعالى قد ذكر في كتابه ما يدل على هذا المعنى، وهو قوله تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ^ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ^ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ^﴾ [هود:45-47] فلما نادى نوح ربه فقال: رب إن ابني من أهلي، أجابه سبحانه في ذلك بأن قال له: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾.

فكما جاز أن يُخْرِجه من أهله، وإن كان ابنه، لخلافه إياه في دينه، جاز أن يُدخِل في أهله مَن يوافقه على دينه، وإن لم يكن من ذوي نسبه.

فمثل ذلك أيضًا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جوابًا لأم سلمة وواثلة: «أنتِ من أهلي»، يحتمل أن يكون على هذا المعنى أيضًا.([75])

كل هذه الأدلة تدل على أن أهل البيت مصطلح خاص بالخمسة أهل الكساء: (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عهنما.)

وكل الأحاديث التي يطلق فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصف أهل البيت على غير أصحاب الكساء، يجاب عنها بأحد جوابين: إما أنها متأوَّلة على معنى العموم والتوسع على سبيل المجاز، ضرورة الموافقة مع مفهوم الآية ودلالة الحصر في حديث الكساء.

وإما أنها ضعيفة السند لا يصح الاحتجاج بها.([76])

انظر الحلقة السابعة هـــنا

([1]) أهل البيت في آية التطهير:265، أهل البيت:55

([2]) سيأتي الكلام على هذه الروايات ص:73، وهي ضعيفة كلها، فيها عطية العوفي وهو ضعيف، تقدم ص73.

([3]) الطبراني في الأوسط:4/134، فيه: شهر بن حوشب، كثير الأوهام والإرسال. توفي سنة 112هـ. تهذيب الكمال:12/578، تقريب التهذيب:1/423، تهذيب التهذيب:4/324.

جَلَّلهم بكساء: أي: غطاهم به. تحفة الأحوذي:9/48

([4]) قال الهيثمي في مجمع الزوائد:9/264: رواه البزار، وفيه: بكر بن يحيى بن زبان وهو ضعيف. قلت: لم أعثر عليه في مسند البزار، ووجدته بلفظ مختلف في كشف الأستار عن زوائد البزار:3/221: عن أبي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «نزلت هذه الآية في خمسة: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ في عباس وعلي وفاطمة والحسن والحسين». بإضافة العباس رضي الله عنه. وفيه: مندل بن علي العنزي، واسمه عمرو، وهو ضعيف. مات سنة 167هـ. تهذيب التهذيب:10/264، تقريب التهذيب:2/212

وفيه: عطية بن سعد العوفي، ضعيف، تأتي ترجمته، ص73.

([5]) الطبراني في الصغير:1/232، وفي الأوسط:3/380، وقال: لم يرو هذا الحديث عن سفيان الثوري إلا عمار بن محمد، ولم يروه عن عمار بن محمد إلا أبو الربيع الزهراني وسليمان الشاذكوني، والكبير:23/327، و:3/56. ضعيف. قال الهيثمي في هذا الحديث وتاليه في مجمع الزوائد:7/207، رقم:11272، و: 9/265، رقم:14977: فيه: عطية العوفي، وهو ضعيف.

([6]) الطبراني في الأوسط:2/229، وقال: لم يرو هذا الحديث عن هارون إلا سليمان تفرد به الأحوص. فيه: عطية بن سعد العوفي، ضعيف. وفيه: سليمان بن قرم، سيء الحفظ، يتشيع. تقريب التهذيب:1/390. فالحديث ضعيف.

([7]) انظر في سبب النزول أسباب النزول للواحدي:334

([8]) أهل البيت أئمة الهدى:35، مودة أهل البيت:35، سنّة أهل البيت:30

([9]) التبيان في تفسير القرآن:8/340، البيان في تفسير القرآن:8/157، المحرر الوجيز:4/444، القرطبي:14/181، البحر المحيط:7/224، فتح القدير:4/279، شرح مشكل الآثار:2/247، أهل البيت أئمة الهدى:23، أهل البيت في آية التطهير:97، أهل البيت:17، مودة أهل البيت عليهم السلام وفضائلهم:28، سنّة أهل البيت:35

([10]) الألوسي:22/14، أهل البيت أئمة الهدى:35

([11]) أهل البيت أئمة الهدى:35

([12]) قال الكشميري في العرف الشذي:1/22: ((اعلم أن اللام عند أهل المعاني قسمين: لام العهد الخارجي، ولام الحقيقة، والأول على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يكون المعهود مذكورًا سابقًا، ويسمَّى بالعهد الذكري. والثاني: ما يكون حاضرًا، ويسمَّى بالعهد الحضوري. والثالث: ما يكون معلومًا بين المتكلم والمخاطب، ويسمَّى بالعهد العلمي. ومثال العهد الحضوري: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة:3] (الخ). والثاني: أيضًا على ثلاثة أقسام، لأنه إما أن يكون المراد من مدخوله نفس الحقيقة من حيث هي هي، ويسمَّى لام الجنس، أو من حيث وجودُها في حصة منتشرة، ويسمَّى لام العهد الذهني، أو من حيث وجودُها في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللغة، فيسمَّى لام الاستغراق. وأما عند النحاة فالقسم الثالث للعهد الخارجي عهد ذهني عندهم، ولام العهد الذهني، لأهل المعاني لام الجنس عند النحاة، والمختار عندي هو قول النحاة)).

([13]) مجمع البيان في تفسير القرآن:8/155

([14]) أهل البيت في آية التطهير:102، و:161، أهل البيت:14 ومابعد، و:55

([15]) الترمذي، وحسَّنه، يأتي تخريجه ص57.

([16]) الألوسي:22/15، أهل البيت في آية التطهير:179

([17]) أهل البيت في آية التطهير:162

([18]) فتح القدير:4/278، الألوسي:22/13-15، التحرير:22/15

([19]) أهل البيت:17

([20]) أهل البيت في آية التطهير:102، أهل البيت:15

([21]) أهل البيت:20

([22]) أهل البيت:42

([23]) التبيان في تفسير القرآن:2/485

([25]) مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه:4/1870، رقم:2404

([26]) النسائي في الكبرى:5/122، الحاكم:3/159، رقم:4708، قال الذهبي: علي وبُكَيْر تُكُلِّم فيهما.

علي هو ابن ثابت الجزري: تهذيب الكمال:20/335، تقريب التهذيب:1/689صدوق، ربما أخطأ. وقد ضعفه الأزدي بلا حجة. و

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين