أهل البيت في الحديث النبوي (4) الاستعمال اللغوي لأهل البيت

المطلب الثاني : الاستعمال اللغوي لأهل البيت

ورد إطلاق الأهل وأهل البيت في اللغة على معانٍ كثيرة، منها ما هو على سبيل الحقيقة، ومنها ما هو على سبيل المجاز، وإنما يُعرَف المقصود بحسب سياق الكلام.

وقد بيَّنْتُ حين الكلام على المراد بالأهل في اللغة أن أهل بيت الرجل قد يراد به الشخص نفسه، وقد يراد به ما يشمل أزواجه وأبناءه وذريته. وقد تُستعمَل كذلك بمعنى أتباع المرء.([1]) كل هذا ثابتٌ معروفٌ في لغة العرب.

وهذه بعض الاستعمالات في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة:

أولًا: الشخص ذاته:

وعليه حُمِل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «يا أبا موسى، لقد أوتِيتَ مِزمارًا من مزامير آل داود».([3])

والمقصود هو داود صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، لأنه لم يُنقل أن غير داود صلى الله عليه وآله وسلم من أهله كان حَسَن الصوتِ.([4])

ثانيًا: أزواج الرجل:

ومثاله قوله تعالى على لسان الملائكة لزوج إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ^﴾ [هود:73] وواضح أن الخطاب هو لزوج إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم وحدها، ومع ذلك قال الملائكة لها: ﴿عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ وهذا يدل على أنها أهل بيت إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، أو على الأقل منهم.

وأيضًا قوله تعالى على لسان إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ^﴾ [العنكبوت:32] ولما كانت امرأة لوط صلى الله عليه وآله وسلم كافرة استثناها الله عز وجل من الناجين من أهل لوط صلى الله عليه وآله وسلم. فدلّ هذا أن الأهل يشمل الأزواج.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ما أصبح لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا صاع ولا أمسى». وإنهم لتسعة أبيات.([5]) فهذه دلالة صريحة على دخول أزواج النبي في كلمة «آل محمد».

ثالثًا: ذريَّة الرجل:

ودليله قوله تعالى على لسان إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ^﴾ [ العنكبوت:32] ومعلومٌ أنه لم يكن أحدٌ آمن بلوطٍ صلى الله عليه وآله وسلم إلا أهل بيته، لأن الله تعالى يقول: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ^ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ^﴾ [الذاريات:35-36] فدلَّ هذا أن الأهل يشمل الذريَّة، ويشمل الأزواج كذلك.

وقال تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ [هود:45]

وهذا يدل على أن نوحًا صلى الله عليه وآله وسلم يرى أن الابن من الأهل.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤتى بالتمر عند صِرام النخل، فيجيء هذا بتمره، وهذا من تمره، حتى يصير عنده كومًا من تمر. فجعل الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بذلك التمر، فأخذ أحدهما تمرة فجعله في فيه. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخرجها من فيه، فقال: «أما علمت أن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يأكلون الصدقة».([7]) فهذا يدل على أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «آل محمد» يشمل الذريَّة.

رابعًا: قرابة الرجل:

قال تعالى على لسان موسى صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي^ هَارُونَ أَخِي^﴾ [طه:29-30]

وفيه أن موسى صلى الله عليه وآله وسلم أطلق على أخيه هارون صلى الله عليه وآله وسلم وصْف الأهل.

وكما قال تعالى على لسان يوسف صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب إخوته: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ^﴾ [يوسف:93]، وهذا يشمل الجميع من الأزواج والأصل والذرية والقرابة.

ويشهد له حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومًا فينا خطيبًا بماء يدعى خمًّا بين مكة والمدينة. فحمِدَ الله وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر. ثم قال: «أما بعدُ، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولُهما: كتابُ الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به». فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: «وأهلُ بيتي، أُذَكِّرُكم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي». فقال له حصين: ومَن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته مَن حرم الصدقة بعده. قال: ومَن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كل هؤلاء حُرِم الصدقة؟ قال: نعم.([10])

فآل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس كلهم من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

خامسًا: أتباع الرجل:

وعليه حُمِل قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ^ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ^﴾ [البقرة:49-50] ومعلوم أن جند فرعون وأتباعه هم الذين كانوا يضطهدون بني إسرائيل، وأنهم هم الذين أغرقهم الله تعالى أيضًا، وليس فرعون ولا أولاده فقط -إن كان له أولاد، فقد قيل إنه لا أولاد له.

قال القرطبي في تفسيره الجامع: آل فرعون: قومه وأتباعه وأهل دينه. إذ لم يكن له ابن ولا بنت. وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مَن هو على دينه وملته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيبًا له أو لم يكن. ومَن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا من أهله، وإن كان نسيبَه وقريبَه. ولأجْلِ هذا قال الله تعالى في ابن نوح صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [هود:46] أخرجه بالكفر من أهله، وإن كان ابنه.([12])

ويدل على ذلك أيضًا قول عبد المطلب‏:‏ وانصر على آل الصليـب وعابديه اليوم آلك

والمراد بالآل هنا الأتباع‏.‏([13])

وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: جئت أريد عليًّا رضي الله عنه فلم أجده فقالت فاطمة رضي الله عنها: انطلقَ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوه، فاجلس. قال: فجاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخلا، فدخلتُ معهما. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسنًا وحسينًا، فأجلس كل واحد منهما على فخذه، وأدنى فاطمة من حجرة وزوجها، ثم لف عليهم ثوبه، وأنا منتبِذ. فقال: «﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب:33]، اللهم هؤلاء أهلي، اللهم أهلي أحق». قال واثلة: قلت: يا رسول الله، وأنا من أهلك؟ قال: «وأنت من أهلي». قال واثلة رضي الله عنه: إنها لَمِن أرجى ما أرجو.([15])

فقد أدخله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أهله، أي: أتباعه.

ومَن فسَّر أهل الرجل بزوجه أو ولده أو أتباعه أو غير ذلك، فإنه لا يريد اختصاصه به على أنه الحقيقة وأنَّ ما غيره مجاز، بل يشير إلى أحد موارد استعماله، والاستعمال ليس دليلًا على الحصر.

وحصيلة الكلام: إنّ مراجعة كتب اللغة، وموارد استعمال الكلمة في الكتاب الكريم والسنّة الشريفة تعرب عن أنّ مفهوم الأهل له معنى عام، وهو يشمل كل مَن له صلة بالرجل والبيت صلة وطيدة مؤكدة من نسب أو سبب أو غير ذلك، من غير فرق بين الزوجة والأولاد وغيرهم، وأنّ تخصيصها بالزوجة قسوة على الحق، كما أنّ تخصيصها لغة بالأولاد وإخراج الأزواج يخالف نصوص القرآن واستعمالها، كما عرفتَ في الآيات الماضية.

هذا هو الظاهر في تحديد المفهوم، فهلّم معي نبحث عن المراد من هذا المفهوم في الآية الكريمة، وهل أُريدَ منه كل مَن انتمى إلى البيت من أزواج وأولاد أو أنّ هناك قرائن خاصة على أنّ المقصود قسم من المنتمين إليه؟

وليس هذا بشيء غريب، لأنّ المفهوم العام قد يطلق ويراد منه جميع الأصناف والأقسام كما يطلق ويراد منه -حسب القرائن- بعضهم، وقد عرفتَ أنّ المراد من الأهل في قصة موسى زوجته وفي قصة إبراهيم زوجته، وعلى هذا لا شك في شمول كلمة أهل البيت للزوجة والأولاد وغيرهما إلاّ أن تقوم قرائن على أنّ المراد صنف خاص.([16]).

انظر الحلقة الثالثة هــــنا

([1]) جلاء الأفهام:206

([3]) البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن:4/1925، رقم:4761. ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن:1/546، رقم:793

([4]) شرح مسلم للنووي:6/80، فتح الباري:3/361، و: 9/93

([5]) البخاري: كتاب البيوع، باب شراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنسيئة:2/729، رقم:1963، و:كتاب الرهن، باب في الرهن في الحضر:2/887، رقم:2373

([7]) البخاري: كتاب الزكاة، باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل وهل يترك الصبي فيمس تمر الصدقة:2/541، رقم:1414. صِرام النخل: قَطْعُه. فتح الباري:1/144

([10]) مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه:4/1873، رقم:2408

خُمّ: هو بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم: اسم لغيضة على ثلاثة أميال من الجحفة، عندها غدير مشهور. شرح مسلم للنووي:15/179

قوله: «ثقلين»: العرب تقول لكل نفيس: ثقل. وسمَّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن العزيز وأهل بيته ثقلين، لأن الأخذ بهما، والعمل بما يجب لهما ثقيل. وقيل: جعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما، وتفخيمًا لشأنهما. جامع الأصول في أحاديث الرسول:9/159، شرح مسلم للنووي:15/180، استجلاب ارتقاء الغرف:1/364

([12]) القرطبي:1/381

([13]) نيل الأوطار:2/328

([15]) صحيح ابن حبان:15/432، رقم:6976، والسنن الكبرى للبيهقي:2/152، وصحح إسناده. والطبراني في الكبير:3/55، و:22/66، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد:9/263، رقم:14973، و:14974: رواه الطبراني بإسنادين، ورجال السياق رجال الصحيح غير كلثوم بن زياد، ووثّقه ابن حبان، وفيه ضعف. قاضي دمشق، ضعَّفه النسائي. الثقات لابن حبان:7/355، ميزان الاعتدال:3/413، لسان الميزان:4/489.

قوله: منتبذ: منفرد بعيدًا. النهاية في غريب الحديث:9/7

([16]) أهل البيت:13

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين