أهل البيت في الحديث النبوي (13): التعريف الاصطلاحي

نتابع في هذه الحلقة الردود والاعتراضات على القائلين بأن أهل البيت هم خمسة فقط: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنته صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة وعلي بن أبي طالب وابناهما الحسن والحسين رضي الله عهنما:

وقد سبق مناقشة استدلالهم بقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب:33]، والذي يسميه بعضهم (آية التطهير).

ونناقش في هذه الحلقة بقية استدلالاتهم بآيات القرآن:

ب- مناقشة استدلالهم بقول الله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ^ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ^ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ^﴾ [آل عمران:59-61] والذي يسميه بعضهم: (آية المباهلة):

من المعلوم من أسلوب القرآن الكريم أن الخطاب فيه أول ما يوجَّه إنما يوجَّه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -إلا إذا دلَّ دليل على غير ذلك- لأنه عليه أُنزل وهو المكلَّف بتبليغه، ولكن هذا لا يعني الخصوصيَّة فيه صلى الله عليه وآله وسلم إلا بدليل على ذلك.

وعليه فإنَّ المتبادر من قوله تعالى هنا: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ^﴾ [آل عمران:61] أن الخطاب هنا لرسول الله أولًا، ثم لجميع المسلمين بعده.

وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وأولادهم لهذه المباهلة.([1])

وورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه نفسه أنه كان يرى أن أهل البيت هم عموم المتَّقين من الأمة،([2]) ولو كان عنده شيء منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أهل البيت غيرهم ما خالفه.

مع أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: «يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي».([3])

مع ملاحظة أن قول جابر بن عبد الله-لو صح- إن هذه الآية نزلت فيهم لا يعني الحصر، كما هو معلوم من أسباب النزول، ولا يعني الحصر أيضًا على القول بأنها تعنيهم، بل المقصود أنهم بعض أفرادها.

وعلي على مكانته رضي الله عنه ليس نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جميع الوجوه باتفاق، (كالنبوة مثلًا).

ومعلوم في القرآن الكريم واللغة أن لفظ النساء إنما يقصد به الأزواج غالبًا، كقوله تعالى في نفس السورة يخاطب أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب:30، و:32]. فتفسير النساء في قوله تعالى: ﴿وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ﴾ [آل عمران:61] بالأزواج أقرب من تفسيره بفاطمة رضي الله عنها، لا لشيء إلا لأنها الأنثى الوحيدة في الجماعة.

وجعْل فاطمة رضي الله عنها نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية مع ذكر النفس والابن فيها فيه انتقاص من مكانتها باللفظ على الأقل، لأن كلمة النفس والابن أقرب إلى الشخص من النساء، وفاطمة رضي الله عنها أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عليّ ومن الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين.

ج- مناقشة استدلالهم بقول الله تعالى: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى:23] والذي يسمِّيه بعضهم: (آية المودة)، على أن المراد بالقربى خصوص الأربعة أصحاب الكساء، وبيان ذلك: إن قوله تعالى: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ وارد في سياق الرد على الكافرين والمشكِّكين برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو سبحانه يقول: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ^ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ^ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ^ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ^ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ^ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ^﴾ [الشورى:21-26]

وعليه فإن تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ ينبغي أن يلاحظ فيه جو الآيات العام، فنقول:

قُلْ: الخطاب هنا من الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

لَا أَسْأَلُكُمْ: لا أريد ولا أطلب منكم، والخطاب لقريش أولًا، ويدخل فيه جميع الناس تبعًا.

عَلَيْهِ: على تبليغ رسالة ربي، أو القرآن.

أَجْرًا: منفعة تؤدونها لي، سواء كانت ماديَّة أو معنويَّة، وأكثر ما يستخدم الأجر الدنيوي في المال.

الْمَوَدَّةَ: المحبة. ([4])

الْقُرْبَى: في تفسيرها والمراد بها أقوال، أشهرها:

الأول: أن تعملوا بالطاعة والأعمال الصالحة التي تقرِّبكم عند الله زلفى.

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرًا إلا أن توادوا الله، وأن تقربوا إليه بطاعته».([5])

والثاني: أن تصلوا قرابتكم.

والثالث: أن تودوني في قرابتي، فتحبوا قرابتي وتحسنوا إليهم وتبروهم. وهو ما استدل به القائلون بأن أهل البيت هم خصوص أهل الكساء الأربعة، كما ذكرنا حين الاستدلال لهم.

والرابع: أن تودّوني في قرابتي منكم، فتصلوا الرحم التي بيني وبينكم.

بمعنى: إنكم قومي، وأحقّ من أطاعني وأجابني وحرص على نجاح دعوتي، فأعينوني على تبليغ رسالة ربي، واحموني من الأعداء، واحفظوا حق قرابتي فيكم، وصِلُوا رحمي فيكم كما تصِلُون بقية أرحامكم، وأحبوني كما تحبون أقربائكم، فإن رعاية حق القرابة أمر مقرر عندكم. ولا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم. فإن لم تؤمنوا بما أرسلت به فاتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة. وإن لم تنصروني فكفوا شركم عني وذروني أبلغ رسالات ربي، ولا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة.([6])

عن الشعبي قال: أكثرَ الناسُ علينا في هذه الآية: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى:23]. فكتبنا إلى ابن عباس، نسأله عن ذلك. فكتب ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أوسط بيت في قريش، ليس بطن من بطونهم إلا قد ولده. فقال الله عز وجل: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ إلى ما أدعوكم إليه إلا أن تودوني بقرابتي منكم، وتحفظوني بها.([7])

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قوله عز وجل: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى:23] قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرابة في جميع قريش. فلما كذّبوه فأبوا أن يتابعوه، قال: يا قوم، أرأيتم إذا أبيتم أن تتابعوني، فاحفظوا قرابتي فيكم. ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم.([8])

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بطن من قريش إلا وله فيهم أم، حتى كانت له في هذيل أم. فقال الله عز وجل قل لا أسألكم عليه أجرًا، إلا أن تحفظوني في قرابتي، ولا تخونوني ولا تكذبوني ولا تؤذوني.([9])

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا أسألكم عليه أجرًا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم، وتحفظوا إلي القرابة التي بيني وبينكم فلا تؤذوني».([10])

وهو أولى الأقوال في ذلك بالصواب، وأشبهها بظاهر التنزيل.

وإنما كان هذا التأويل أولى بتأويل الآية لدخول ﴿فِي﴾ في قوله: ﴿إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، ولو كان معنى ذلك على ما قاله مَن قال: إلا أن تودوا قرابتي، أو تقربوا إلى الله، لم يكن لدخول ﴿فِي﴾ في الكلام في هذا الموضع وجه معروف، ولكان التنزيل: إلا مودّة القُربى، إن عُنِي به الأمر بمودّة قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو إلا المودّة بالقُرْبَى، أو ذا القربى، إن عُنِي به التودّد والتقرب. كما أنه لم يرد في استعمال لفظ القربى بمعنى التقرب.

وفي دخول ﴿فِي﴾ في الكلام أوضح دليل على أن معناه: إلا مودّتي في قرابتي منكم، وأن الألف واللام في المودّة أدخلتا بدلًا من الإضافة. وهو التفسير المروي عن حَبرُ الأمة، وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس رضي الله عنه ([11]). وكل الروايات المخالفة لهذا التفسير وخصوصًا عن عبد الله بن عباس نفسه، كلها ضعيفة السند، ومخالفة لهذا النقل الصحيح عنه، فوجب إغفالها والإعراض عنها.

والاستثناء في الآية سواء قلنا: إنه متصل بناء على تعميم الأجر، وكون المودة المذكورة من أفراد الأجر. أو قلنا: إن الاستثناء منقطع، فتكون المودة المذكورة ليست من أفراد الأجر المقصود له صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن المودة له صلى الله عليه وآله وسلم ليست أجرًا ينتفع به صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هي لازمة لهم ليمدحوا بصلة الرحم، ومن باب التقرب إلى الله سبحانه بحبهم الذي ينتج اتباعًا. وأهل البيت في الغالب أَعرَفُ الناس ببعضهم، ولذلك فأَعرَفُ الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم أهل بيته رضي الله عهنما وأحرصهم على التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم، فالنفع عائد على المتبِعين والمحبين أصالة، لا على أهل البيت.

والانقطاع أقطع لتوهم المنافاة بين هذه الآية والآيات المتضمنة لنفي سؤال الأجر مطلقًا، من مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ^﴾ [ص:86]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا^﴾ [الفرقان:57]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ^﴾ [سبأ:47]

فالمعنى المراد في هذه الآيات وأمثالها أن الله سبحانه يوجه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطب الناس، فيقول لهم: أنا أطلب منكم أن تتقربوا إلى الله سبحانه بالعمل الصالح، لتنالوا ثوابه الذي وعده لعباده الصالحين، ومَن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومَن ضل فإنما يضل عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، فأنتم الذين ستصيرون إلى الجنة أو النار. ومهمتي التي أحرص على أدائها هي تبليغ رسالة ربي عز وجل، وأبتغي منه تعالى وحده الأجر والمثوبة، ولا أريد منكم على البلاغ أي أجر مادي أو معنوي، بل إن توهم أحدكم أني أريد منه أجرًا أو أنه أعطاني أجرًا فلا يعطني شيئًا أو ليأخذْ ما أعطاه. وإنما عليكم أن تتيقنوا أن نجاتكم وفلاحكم في الدنيا والآخرة معًا في طاعتكم لي، واستجابتكم لتوجيهاتي التي هي في الحقيقة من توجيهات ربكم عز وجل أوحاها إلي، وما أنا إلا نذير وبشير، وما علي إلا البلاغ المبين. فمنفعة اتباعي هي بالتأكيد والحصر لكم وحدكم، والله سبحانه خبير بظواهرنا وسرائرنا، وإلى الله عز وجل مرجعنا جميعًا، وعليه وحده سبحانه حسابنا وجزاؤنا.

والقول بأن معناها لا أسألكم عليه أجرًا إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي، لا يناسب شأن النبوة، لما فيه من التهمة، فإن أكثر طَلَبَة الدنيا حين يفعلون شيئًا، فإنهم يسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم.

وأيضًا فيه منافاة للآيات السابقة التي تنفي إرادة الأجر من الناس.([12])

والأحاديث والروايات التي استدلوا بها لتأييد مذهبهم هذا كلها ضعيفة كما بينا في موضعه، فحديث عبد الله بن عباس قال: لما نزلت: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى:23] قالوا: يا رسول الله ومَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: «علي وفاطمة وابناهما».([13]) مثلًا وهو أقواها سندًا، فيه ثلاثة ضُعِّفوا، وربما اتُّهِم الأشقر بالكذب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هي معارضة بأحاديث وروايات أخرى أصح منها سندًا، مثل تفسير عبد الله بن عباس رضي الله عنه نفسه للآية نفسها حين سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى: ﴿إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فقال ابن عباس: عجلتَ، إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة.([14])

كما أن عبد الله بن عباس نفسه كان يرى نفسه من قربى وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما في مسلم عن عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري([15]): وكتبت تسألني عن ذوي القربى مَن هم؟ وإنا زعمنا أنّا هم، فأبى ذلك علينا قومنا.([16])

وعلى فرض صحة الحديث الذي يبين أنهم القربى فإنه لا يقتضي حصر أهل البيت فيهم فقط، بل غاية ما يقتضيه أنهم أولى الناس بالمودة، وهذا أمر متفق عليه عند جميع المسلمين.

ومهما كان المراد بالآية، وعلى أي وجه كان تفسيرها، فإن من الأمور المسلَّم بها والتي ليست محل بحث أو خلاف وجوب مودة أهل البيت، والوصاية بهم، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض، فخرًا وحسبًا ونسبًا، إكرامًا لصلتهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهة، ويضاعف ودهم إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة، كما كان عليه سلفهم الصالح، من جهة أخرى.

وقال الزمخشري: ((﴿إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾: يجوز أن يكون استثناء متصلًا، أي: لا أسألكم أجرًا إلا هذا، وهو أن تودوا أهل قرابتي، ولم يكن هذا أجرًا في الحقيقة، لأنّ قرابته قرابتهم، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. ويجوز أن يكون منقطعًا، أي: لا أسألكم أجرًا قَطّ، ولكنني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم.

فإن قلت: هلا قيل: إلا مودّة القربى، أو: إلا المودة للقربى. وما معنى قوله: ﴿إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾؟ قلت: جُعلوا مكانًا للمودة ومقرًا لها، كقولك: لي في آل فلان مودّة، ولي فيهم هوى وحب شديد، تريد: أحبهم، وهم مكان حبي ومحله. وليست ﴿فِي﴾ بصلة للمودَّة، كاللام إذا قلت: إلا المودّة للقربى، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس. وتقديره: إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. والقربى: مصدر كالزلفى والبشرى، بمعنى: قرابة)).([18])

وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ [الشورى:23] المعنى: يَقْتَرِفْ: يكتسب. حَسَنَةً: قيل المراد بالحسنة: المودة في قربى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. والأولى التعميم، أي: يكتسب أي حسنة كانت. وحب آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أعظم الحسنات، وتدخل في الحسنة هنا دخولًا أوليًّا.([19]).

انظر الحلقة الثانية عشرة هــنا

([1]) تاريخ دمشق:39/177، الدر المنثور:2/233، فتح القدير:1/348 عن محمد الباقر.

([2]) ورد ذلك حين الكلام على القول الأول في المراد بأهل البيت من هذا البحث.

([3]) الترمذي، سبق تخريجه.

([4]) القرطبي:16/21، ابن كثير:7/199، الألوسي:25/30، التحرير:25/82

([5]) أحمد:1/268، رقم:2415، والحاكم:2/481، رقم:3659، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وصححه الذهبي. والطبراني في الكبير:11/90. وقال في مجمع الزوائد:7/227، رقم:11325: رواه أحمد، والطبراني، ورجال أحمد فيهم: قزعة بن سويد، وثّقه ابن معين وغيره وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.

وقزعة بن سويد: ضعيف. تقريب التهذيب:2/30. وفي تهذيب التهذيب:8/336: قال أحمد: مضطرب الحديث، هو شبة المتروك. وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل:7/139: ليس بذاك القوي، محله الصدق، وليس بالمتين، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال البخاري: ليس بذاك القوي.

وقال ابن حبان في المجروحين:2/216: كان كثير الخطأ، فاحش الوهم. فلما كثر ذلك في روايته سقط الاحتجاج بأخباره.

([6]) استجلاب ارتقاء الغرف:1/314

([7]) الحاكم:2/482، رقم:3660، وصححه.

([8]) الطبراني في الكبير:12/254، وفيه: بكر بن سهل الدمياطي: ضعفه النسائي. حمل الناس غنه وهو مقارب. توفي سنة 289هـ. ميزان الاعتدال:/345، لسان الميزان:2/51. وفيه: عبد الله بن صالح الجهني، كاتب الليث. قال في تقريب التهذيب:1/501: صدوق، كثير الغلط، ثبت في كتابه. وكانت فيه غفلة. مات سنة 222هـ.

وهو منقطع، علي بن أبي طلحة، صدوق قد يخطئ، لم يسمع من عبد الله بن عباس. الثقات:7/211، تهذيب التهذيب:7/298، تقريب التهذيب:1/697

([9]) الطبراني في الصغير:1/136، وقال:لم يروه عن أبي سعد سعيد البقال إلا أبو زهير. وفيه: سعيد بن المرزبان، قال فيه الترمذي:4/20: ضعيف الإسناد. وقال في تقريب التهذيب:1/363: ضعيف مدلس. توفي بعد الأربعين ومئة.

([10]) الطبراني في الأوسط:3/336، وإسناده حسن. فيه: خصيف بن عبد الرحمن: صدوق، سيء الحفظ، خلط بأخرة. تهذيب التهذيب:3/124، تقريب التهذيب:1/269. وفيه: شريك بن عبد الله النخعي القاضي: صدوق، يخطئ كثيرًا، تغير حفظه منذ ولي القضاء. مات سنة سبع أو ثمان وسبعين ومئة. تهذيب التهذيب:4/293، تقريب التهذيب:1/417.

([11]) أخرجه البخاري عنه، وسيأتي تخريج هذه الرواية.

([12]) في تفسير الآية، انظر: مجمع البيان:9/48، التبيان:9/158، القرطبي:16/21، ابن كثير:7/199، استجلاب ارتقاء الغرف:1/314، الألوسي:25/30، التحرير:25/82

([13]) مجمع الزوائد: 9/266، رقم:14982، وقال: رواه الطبراني وفيه جماعة ضعفاء، وقد وُثِّقوا. سبق تخريجه.

([14]) البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة الشورى:4/1819، رقم:4541

([16]) مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم:3/1444، رقم:1812

([18]) الكشاف:4/223

([19]) الطبري:20/31، القرطبي:16/21، ابن كثير:7/199، الألوسي:25/33، التحرير:25/81

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين