أهل البيت في الحديث النبوي (12): التعريف الاصطلاحي

 

ثالثًا: الردود والاعتراضات على القائلين بأن أهل البيت هم خمسة فقط: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنته صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة وعلي بن أبي طالب وابناهما الحسن والحسين رضي الله عهنما:

1- مناقشة استدلالاتهم بالقرآن الكريم:

أ- مناقشة استدلالهم بقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب:33]، والذي يسميه بعضهم (آية التطهير).

يرد عليهم أن الأدلة على دخول الأزواج في مدلول الآية كثيرة، منها: إن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبب نزول هذه الآية، -كما صرح عبد الله بن عباس وعكرمة- أو صورة سبب النزول، بمعنى أنهن الموضوع الأساسي الذي تتحدث عنه الآيات.

وسبب النزول داخل في المراد بالنص قولًا واحدًا، إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح, وهو ما عليه جمهور علماء الأصول من أن صورة سبب النزول قطعية الدخول في النص، فلا يصح إخراجها إلا بمخصص.([1])

وقد ورد أن الآية نزلت في بيت أم سلمة، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عهنما أجمعين، وجلَّلهم بكساء، وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي»([2])، ودعا لهم.

وهو صريح في أن الآية نزلت في بيت أم سلمة قبل أن يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكساء، ودون ذكر أن أهل الكساء هم سبب النزول أو حصرها بهم.

والأحاديث التي تبيِّن أن هذه الآية نزلت في أصحاب الكساء فقط، إما ضعيفة السند فلا يصح الاحتجاج بها، إذ كل هذه الأحاديث تدور على عطية العوفي، وعطية هذا هو ابن سعد العوفي، روى عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهم رضي الله عهنما، وروى عنه الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد ومسعر وغيرهم. يعتبر بعض الأئمة بحديثه، والأكثر كأحمد وابن معين والثوري وغيرهم على أنه ضعيف. بل ذهب ابن حبان إلى أنه لا يحل كتابة حديثه، ولا الاحتجاج به. قال أحمد بن حنبل: كان يأتي الكلبي([3]) فيأخذ عنه التفسير، ثم يكنيه بأبي سعيد، يوهم أنه أبو سعيد الخدري، فيحمل منه على أنه الخدري.([4]) قال فيه ابن حجر: صدوق، يخطىء كثيرًا، وكان شيعيًّا مدلِّسًا.([6])

فكيف يقبل تفرده في الرواية، مع ما فيها من المخالفة والمعارضة لغيرها.

وحتى الحديث الوارد عن أم سلمة إنما ورد من روايته عن أبي سعيد عنها.

وعلى القول بثبوت هذه الروايات فهي متأولة إذ لا دلالة فيها على الحصر، أو معارضة بأدلة أخرى أقوى تصرح بأن غيرهم من أهل البيت، على وجه يمنع الحصر. فيجب التوفيق بينها لذلك.

مع أنه لم يرد في السنة الصحيحة كلها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال مثلًا: إن سبب نزول آية ما هو كذا أو في كذا.([7])

وعلى كل الأحوال، وعلى فرض التسليم بصحة الأحاديث التي تبين أنهم سبب النزول، وأن الآية إنما نزلت فيهم، وعدم معارضة روايات أخرى، فإن الصحيح في علوم القرآن أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص سبب النزول.([8]) بمعنى أن الآية التي تنزل بسبب خاص لا يخصص لفظها العام بسبب النزول الخاص، بل يبقى على عمومه.

ومن المعلوم أيضًا أن العدد لا مفهوم مخالف له. ولذلك فذِكْرُ عدد ما في مسألة ما لا يقصد منه دائمًا الحصر، بل قد يقصد أيضًا التمثيل أو المبالغة أو لسهولة الحفظ، وأمثال ذلك.([9])

ومنها: قرينة سياق الآيات الظاهر في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أهل البيت.

وهذه القرينة ردَّ أصحاب القول الثالث على الاستدلال بها بما يأتي:

تصريح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقصر الآية على أصحاب الكساء، ومنع غيرهم من الدخول فيها.

فإن كان ذلك يعتبر مخالفة لنص القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون أول من خالف هذا النص، والعياذ بالله تعالى من هذه الدعوى. ([10])

وجود دلائل على أنّ آية التطهير آية مستقلة نزلت مستقلة، متعلقة بقضية خاصة، وهذا يجعل منها جملة اعتراضية هنا. ودليل ذلك أننا لو رفعنا هذا الجزء من الآية منها لم يتطرق أيّ خلل في نظم الآية ومعناها، ولتحَصَّل من ضم بقية الآية الثالثة والثلاثين إلى الآية الرابعة والثلاثين آيةٌ تامة متناسقة واضحة المضمون.([11])

وهذا دليل على أنّ قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب:33] آية مستقلة وردت في ضمن الآية المتعلقة بالنساء لمصلحة ما، صاحب الشريعة أعرف بها.([12])

تغيير الخطاب في هذه الجزء من الآية يحمل على أنه جملة اعتراضية وقعت بين الآيات المتعلقة بأزواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كما سبق، أو على سبيل الالتفات. والمسوغ لذلك هو أن هذا الاعتراض وهذا الالتفات إنما يهدفان لبيان شيء مرتبط بنفس الموضوع الذي تعالجه سائر فقرات الآية، أو الآيات السابقة واللاحقة.

وبيان ذلك: إن سياق الآيات إنما هو في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول لزوجاته أن يفعلن هذا، ويتركن ذاك، بهدف بيان كرامة أهل البيت. وقد خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزوجات بتلك الأوامر والزواجر امتثالًا لأمر الله تعالى.

أو إن الخطاب الإلهي كان موجهًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولًا، ثم التفت إلى الزوجات، وخاطبهن بما له مدخلية في هذا التعظيم والتكريم لمقام النبوة الأقدس، ثم عاد ليتم الكلام فيما بدأه أولًا، الأمر الذي يعني على كِلا التقديرين أنه لا توجد أية مخالفة للسياق.([13])

اختلاف لحن الخطاب في الآيات الواردة حول نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان الإنذار والتهديد ظاهرًا فيها، ولسان الآية المربوطة بأهل بيته لسان المدح والثناء، فجعل الآيتين آية واحدة، وإرجاع الجميع إليهن ممّا لا يقبله الذوق السليم، فأين قوله سبحانه: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا^ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا^ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا^﴾ [الأحزاب:30-32] من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب:33]؟!([14]) فالأمر والنهي والوعد بالثواب والعقاب يتَّجه للأزواج، والمدح والثناء يتجه لأهل البيت المرادين.([15])

وكل ما سبق من اختلاف الضمائر في هذا الجزء من الآية، وإفراد البيت، والمراد به هنا، والخلاف في دخول الزوجة في أهل البيت -مع أن الراجح عندهم عدم دخولها إلا مجازًا، وبقرينة ترجح هذا الدخول- يجعل من القول بأن السياق في الأزواج أمرًا غير مقبول.

وعليه فلا يلزم من حصر المقصود بـ (أهل البيت) في أصحاب الكساء أي محذور، لا من حيث مخالفة السياق، ولا من حيث ظروف نزول الآية.([16])

هذا بالإضافة إلى أنّ السياق وإن كان وسيلة مقبولة لتعيين ما أُريد من الكلام، فإنه حجَّة ظنيَّة اجتهاديَّة إذا لم يقم دليل أقوى على خلافه، وقد قام الدليل على خلاف ذلك، بل قام على وحدة السياق ولكن كما أوضحنا لا كما توهم الآخرون. ولو سلمنا: أن السياق له ظهور في كون الخطاب للزوجات، فقد عرفنا أنه لابد من رفع اليد عنه، لأجل الروايات الحاصرة لـ(أهل البيت) في أصحاب الكساء دون سواهم. فالتمسك بدعوى وحدة السياق الضعيفة تمسك بالاجتهاد في مقابلة النص، وهو لا يصح.([17])

وإنما ذكر البيان الإلهي الكلام عن أهل البيت ضمن الكلام على النساء لفائدتين:

- تعريفهنّ على جماعة بلغوا في التورع والتقى الذروة العليا، والقمة في الطهارة عن الرذائل والمساوئ. وبذلك استحقوا أن يكونوا أُسوة في الحياة وقدوة في مجال العمل، فيلزم عليهن أن يقتدين بهم.

- التنبيه على أنّ حياتهنّ مقرونة بحياة أُمّة طاهرة من الرجس ومطهرة من الدنس، ولهنَّ معهم لحمة القرابة، ووصلة الحسب، واللازم عليهن التحفّظ على شؤون هذه القرابة بالابتعاد عن المعاصي والمساوئ، والتحلّـي بما يرضيه سبحانه، ولأجل ذلك يقول سبحانه: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [الأحزاب:32]، وما هذا إلاّ لقرابتهن منه صلى الله عليه وآله وسلم وصلتهن بأهل بيته، وهي لا تنفك عن المسؤولية الخاصة، فالانتساب للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولبيته الرفيع سبب المسؤولية ومنشؤها.([18])

والحقيقة أن سياق الآيات قرينة صريحة في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أهل البيت، لأن اللَّه تعالى قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا^ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا^ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا^ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا^ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا^ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا^ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا^ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا^﴾ [الأحزاب:28-35] فهو سبحانه يقول لنبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ لِأَزْوَاجِكَ...﴾، ثم يتابع في نفس خطابه لهن يأمرهنَّ وينهاهنَّ، إلى أن قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، ثم قال بعده: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾. فما قبل الآية وما بعدها صريح في أنها نازلة فيهنّ, وأن الخطاب موجَّه لهن، لا يخالط أحدًا تدبَّرَ القرآن شك في ذلك.([19])

وهذا مثل دخول زوج إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم في أهل بيته في قوله تعالى على لسان الملائكة: ﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [هود:73].

فقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ متصل بما قبله، إذ هو تعليل لما تضمنته الآيات السابقة من أمر ونهي، ابتداء من قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾. أي: إنما أوصاكنَّ الله تعالى بما أوصاكنَّ به من التقوى، وأن لا تخضعن بالقول، ومن قول المعروف، والسكون في البيوت، وعدم التبرج، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والطاعة لأنه أراد لكُنّ التخلية عن النقائص، والتحْلية بالكمالات. فإن موقع ﴿إِنَّمَا﴾ يفيد ربْطَ ما بعدها بما قبلها، فالمعنى أمَركن الله بما أمر، ونَهاكُنّ عما نهى لأنه يريد أن يُذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيرًا. فهذا التعليل وقع معترضًا بين الأوامر والنواهي المتعاطفة. ([20])

وهذا الربط والاتصال يمنع جعْلها آية مستقلة عن غيرها.

وليس بجيد قول مَن قال: إن قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ ابتداء أو استئناف مخاطبة الله تعالى لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جهة الموعظة، وتعديد النعمة بذكر ما يتلى في بيوتهن من آيات الله تعالى والحكمة، لأن الآيات كلها من قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ منسوق بعضها على بعض، فكيف صار هذا في الوسط كلامًا منفصلًا لغيرهن؟!([21])

والتخصيص بأهل الكساء لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، لأنه يقتضي جعل هذه الآية حشوًا بين ما خوطب به أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تكون هذه الآية مبتورة عما قبلها وما بعدها.([22])

نعم قد ورد نزول آية فقط أو جزء من آية بشكل مستقل وفي أوقات مختلفة وكان يأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بوضعها في المكان المناسب ليكون قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة ويفهم على ما أثبته الله ورسوله فيه في النهاية، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم أثبت هذه الآية على هذا النحو، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعلم الناس بكتاب ربه تعالى، ولو كان المعنى على غير المراد الذي يفهمه مَن يقرأ القرآن لجعله في موضع مستقل منعًا للالتباس، وكان وضْعه في موضع يجعل فيه لبسًا خطأ (يبرأ الله ورسوله منه).

ولو فتحنا باب الأخذ ببعض الآيات أو أجزائها بشكل مستقل عن سياقها لما استقام في كتاب الله معنى، ولفُتِح باب عظيم للفتنة والافتراء على كتاب الله سبحانه.

ومن أراد أن يدعي مخالفة السياق، ويفْصِل معنى الآية، ويجعل جزأها خطابًا لقوم، والجزءَ الأخر لخطاب آخرين، ويناقض المعنى الظاهر المستقيم، ويفسر الآية بغيره، فإنه يحتاج إلى دليل يثبت فيه امتناع إرادة ظاهر السياق، وعدم إمكانية الجمع، وهذا مالا يوجد عليه دليل، بل الدليل على خلافه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول الآية دعا عليًّا وفاطمة والحسن والحسين، وجلَّلهم بالكساء، ودعا لهم حرصًا منه صلى الله عليه وآله وسلم على أن يشملهم هذا الفضل العظيم، وليبين أن الآية تشملهم أيضًا، لأن المتبادر للذهن منها أنها لنسائه خاصة.

ولو قلنا: إن الآية يقصد بها عليّ وفاطمة والحسن والحسين فقط لما كان لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي فائدة، لأنه يصبح من باب توكيد أمر مؤكد، وتحصيل ما هو حاصل.

إلا أنه يمكن أن يقال: إن فائدة الدعاء هنا الثبات أو الزيادة في المدعو به.

وربما كان منشأ توهُّم هذا الحصر منذ العصر الأول قراءةَ هذه الآية على الألسن دون اتِّصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها، وربْطَها بحديث الكساء فقط دون بقية الأحاديث.([23]) وربما كان هذا ما دفع عبد الله بن عباس رضي الله عنه وعكرمة وغيرهما إلى إعلان أنّ الآية نزلت في الزوجات خاصة.

هذا بالإضافة إلى أن صيغة حديث الكساء لا تفيد الحصر، ولا تنفي دخول غيرهم في أهل البيت، كما سنبين حين الكلام على حديث الكساء.

ومنها: المراد بالبيت بيت السكنى وأهله لا بيت القرابة، على ما يقتضيه سياق الآية وسباقها، ويشهد له العرف. فيعُدّ من أهل البيت مَن له مزيد اختصاص به: إما بالسكنى فيه مع القيام بمصالحه والاهتمام بأمره، وعدم كون الساكن في معرض التبدل والتحول بحكم العادة الجارية من بيع وهبة كالأزواج، وإما بالسكنى فيه كذلك بدون ملاحظة القيام بالمصالح كالأولاد. وإما بقرابة من صاحبه تقضي بحسب العادة بالتردد إليه، والجلوس فيه من غير طلب من صاحبه لذلك أو بعدم المنع من ذلك.

وبتفسير أهل البيت بمَن له مزيد اختصاص به على الوجه الذي ذكرنا يندفع ما يُتَوهَّم من شموله للخدم والإماء والعبيد الذين يسكنون البيت، فإنهم في معرض التبدُّل والتحوُّل بانتقالهم من مِلك إلى مِلك بنحو الهبة والبيع، وليس لهم قيام بمصالحه واهتمام بأمره إلا حيث يؤمرون بذلك، ونظْمُهم في سلك الأزواج بدعوى أن نسبة الجميع إلى البيت على حد واحد مما لا يرتضيه منصف، ولا يقول به إلا متعسف.

وتَأوُّل البيت على معنييه الحقيقي والمجازي يصدق ببيت النسب كذلك، ويكون هذا من حَمل القرآن على جميع محامله غير المتعارضة.([24])

وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلمهنَّ أزواجه في حياته وبعد وفاته، فلا تنقطع صلتهن به، ومكانتهن منه حتى بعد مماته صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:53] وهي ميزة لهنَّ وحدهنَّ دون غيرهنَّ من النساء، باعتبارهنَّ أمَّهات المؤمنين أبدًا ما بقين أحياء، قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب:6]. فدعوى انقطاع الصلة الزوجيَّة غير متحققة فيهن، بل اتِّصالُهنَّ به شبيهٌ بالنَّسَب، لأنَّ اتِّصالَهُنَّ به غيرُ مرتفع، وهنَّ زوجاتُه في الدنيا والآخرة.([25]) نعم لم يدخلن في أهل بيته إلا بعد زواجه صلى الله عليه وآله وسلم بهن، فهنّ من أهل البيت بالتبعيَّة لا بالأصالة، ولذلك كان أهل الكساء أحق بهذا اللقب، وهو ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم صراحة حين قال عند أحمد: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق». وعند الحاكم: «هؤلاء أهل بيتي، اللهم أهل بيتي أحق»([26]).

وإفراد البيت حين الكلام على إرادة إذهاب الرجس والتطهير، وجمْعُه في غيره، لا يُستدل به على إرادة الحصر في أصحاب الكساء، لأن بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة، وإنما ذكر البيت هنا بلفظ المفرد لأن بيوت الأزواج المطهرات باعتبار الإضافة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيت واحد، والتكريم إنما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصالة، ولأهل البيت رضي الله عهنما تبعًا.

فكأن المراد بالبيت هنا بيت كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكل بيت من تلك البيوت أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وزوجه صاحبة ذلك، مع أنه صلى الله عليه وآله وسلمليس له بيت يسكنه سوى سكناهن. ذلك أن زوج الرجل هي ربة بيته، والعرب تدعو الزوجة البيت، فكانت بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يميَّز بعضها عن بعض بالإِضافة إلى ساكنة البيت، يقولون: بيت عائشة، وبيت أم سلمة. وإضافة البيوت إليهن لأنهن ساكنات بها أسكَنهُنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا أنها ملك لهن. ولذلك لما تُوفِّيت الأزواج كلهن لم يُعطَ منها شيء لورثتهن.

بل إن هذه الإِضافة كالإِضافة إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [الطلاق:1]، ولا يقتضي ذلك أنها ملك لهُنّ.

وجمْع البيت فيما سبق آية التطهير في قوله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب:33] وفيما لحق في قوله: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب:34] باعتبار الإضافة إلى الأزواج المطهَّرات اللاتي كنَّ متعددات، ودفعًا لتوهم إرادة خصوص بيت واحدة فقط لأمر وقع فيه، لو أفرد، إذ المراد الأمر بأن تقر كل واحدة منهن في بيتها، وكذلك الأمر بذكر ما يتلى في بيتها من آيات الله والحكمة. فجمع حين اختلف التفصيل ليشمل كل التفصيلات، وأفرد بقوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ حين كان المراد باللفظ أمرًا واحدًا يشمل الجميع. هذا بالإضافة إلى أن أهل البيت هنا في المفرد يشملهن ويشمل غيرهن.([27])

وأمَّا ما استدلوا به من أن خطاب التذكير في قوله تعالى: ﴿عَنْكُمُ﴾ و ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ﴾ يمنع من دخول أمهات المؤمنين في جملة أهل البيت، لأن البيان القرآني استخدم ضمير الإناث في كل الأوامر والنواهي السابقة والتالية للآية، إلا في هذا الجزء من الآية فقد استخدم خطاب التذكير، قالوا: وهذا يدل على أن المرادين بهذا الخطاب غير المرادين بتلك الآيات، فهو استدلال مردود، لوجوه منها:

من جهة اللفظ: من المعروف أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم أن زوج الرجل يطلق عليها اسم الأهل، كما قالت امرأة العزيز للعزيز: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [يوسف:25]، وهي تقصد بالأهل نفسها.

وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر، ونظير ذلك قوله تعالى في قصة إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [هود:73] والمخاطب زوج إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم وهو معها، ولم يكن لهما ولد يومها.

ومنه قوله تعالى في قصة موسى صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لعلي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ^﴾ [القصص:29] والمخاطب امرأة موسى صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن جهة المعنى: وهو أن الآية الكريمة شاملة لهنّ ولغيرهن، وفيهم ذكور: كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الخطاب رب كل بيت من بيوتهن، وهو مشمول بهذا الخطاب، كما أنه مبلِّغه.

وفي هذا التغليب إيماء إلى أن هذا التطهير لهنّ لأجل مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلتكنْ قريناتُه مشابهاتٍ له في الزكاة والكمال، كما قال الله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [النور:26] يعني أزواج النبي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.([28])

فذكَّر سبحانه الضمير لأنه أراد دخول غيرهن معهن.([29])

قال القرطبي يجيب عن تذكير الضمائر: ((يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل، كما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ أي امرأتك ونساؤك. فيقول: هم بخير. قال الله تعالى: ﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [هود: 73] والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم. وإنما قال: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ﴾ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليًّا وحسنًا وحسينًا كان فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر)).([30])

والآية عامة في جميع أهل البيت، فناسب أن يعبر عنهم بصيغة المذكر.

ولعل اعتبار التذكير هنا أيضًا أَدخَلُ في التعظيم.([31])

وعليه فضميرا الخطاب موجَّهان إلى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على سَنن الضمائر التي تقدمت.([32])

وفي: ﴿عَنْكُمُ﴾ تغليبان أحدهما: تغليب المذكر على المؤنث. والآخر: تغليب المخاطب على الغائب، إذ غير الأزواج المطهرات من أهل البيت لم يجر لهم ذكر في ظاهر الآيات.

والقول بالتغليب هنا ضروري على كل الأقوال، إن لم يكن من أجل إدخال الزوجات، فلأجل إدخال فاطمة رضي الله عنها التي اتفق الجميع على أنها من أهل البيت.([33])

ولَمَّا بيّن سبحانه أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويطهرهم تطهيرًا، دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحب أهل بيته إليه، وأعظمهم اختصاصًا به، وهم: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين رضي الله عهنما، فجُمِع لهم بين قضاء الله تعالى وبين دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان ذلك لهم فضيلة ونعمة عظيمة أسبغها الله سبحانه عليهم.

فدخول علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عهنما في مضمون الآية دلت عليه السنة النبوية المشرفة، وهو شيء جرى بدعوة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بعد نزول الآية، أحَبَّ أن يُدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج.([34])

ولو لم يقل صلى الله عليه وآله وسلم ما قال في دعائه لهم لتُوُهِّم عدم دخولهم في الآية، لعدم اقتضاء سياقها ذلك.([35])

قال القرطبي: ((فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت، لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهن، يدل عليه سياق الكلام)).([36]).

انظر الحلقة الحادية عشرة هـــنا

([1]) ابن كثير:6/410، الإتقان في علوم القرآن:1/87

([2]) الترمذي، سبق تخريجه.

([3]) متهم بالكذب.

([4]) الجرح والتعديل:6/382، الكامل في الضعفاء:5/369، المجروحين لابن حبان:2/176، تهذيب التهذيب:7/200

([6]) تقريب التهذيب:1/678

([7]) الألوسي:22/17

([8]) الإتقان في علوم القرآن:1/89

([9]) الألوسي:1/217

([10]) أهل البيت أئمة الهدى:22

([11]) أهل البيت:48

([12]) ومن عجيب ما ذُكِر من حِكَم ذلك، ما قيل في كتاب أهل البيت لجعفر سبحاني:51: ((ولكن يبقى هنا سؤال آخر، وهو أنّه إذا كانت الآية، آية مستقلة فلماذا جاءت في المصحف جزءًا من آية أُخرى، ولم تكتب بصورة آية تامّة في جنب الآيات الأخرى؟ الجواب: التاريخ يطلعنا بصفحات طويلة على موقف قريش وغيرهم من أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّ مرجل الحسد ما زال يغلي، والاتجاهات السلبية ضدهم كانت كالشمس في رابعة النهار، فاقتضت الحكمة الإلهية أن تجعل الآية في ثنايا الآيات المتعلّقة بنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلممن أجل تخفيف الحساسية ضد أهل البيت، وإن كانت الحقيقة لا تخفى على من نظر إليها بعين صحيحة، وأنّ الآية تهدف إلى جماعة أُخرى غير نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وللسيد عبد الحسين شرف الدين هنا كلام ربّما يفصل ما أجملناه فإنّه قدّس اللّه سرّه بعد ما أثبت أنّ قوله سبحانه: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ^﴾ ]المائدة:55[ منزل في حقِّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) طرح سؤالًا، وهو أنّه إذا كان أمير الموَمنين (عليه السلام) هو المراد من الآية فلماذا عبر عن المفرد بلفظ الجمع؟ فقال: إنّ العرب قد تعبّـر عن المفرد بلفظ الجمع لنكتة التعظيم حيث يستوجب. ثم قال: وعندي في ذلك نكتة ألطف وأدق، وهي أنّه إنّما أُتي بعبارة الجمع دون عبارة المفرد بُقيًا منه تعالى على كثير من الناس، فإنّ شانئي علي وأعداء بني هاشم وسائر المنافقين وأهل الحسد والتنافس لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد، إذ لا يبقى لهم حينئذ مطمع في التمويه، ولا ملتمس في التضليل. فيكون منهم بسبب يأسهم حينئذ ما تخشى عواقبه على الإسلام. فجاءت الآية بصيغة الجمع مع كونها للمفرد اتقاء من معرتهم، ثم كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة ومقامات متعددة. وبث فيهم أمر الولاية تدريجًا حتى أكمل اللّه الدين وأتمَّ النعمة، جريًا منه على عادة الحكماء في تبليغ الناس ما يشق عليهم. ولو كانت الآية بالعبارة المختصة بالمفرد لجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكبارًا. وهذه الحكمة مطردة في كل ما جاء في القرآن الحكيم من آيات فضل أمير الموَمنين وأهل بيته الطاهرين)).

وأعجب من ذلك وأخطر، ما قاله السيد جعفر مرتضى الحسيني العاملي جوابًا على القول بأن سياق الآيات يوجب القول بأن زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم هنَّ المرادات في آية التطهير. حيث أجاب في كتاب أهل البيت في آية التطهير:109 وما بعد:

((بأن القرآن قد نزل تدريجًا، ولم يترتَّب في الجمع حسب ترتيبه في النزول. وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعيِّن المواضع التي ينبغي أن توضع فيها الآيات النازلة، فيقول: ضعوا هذه الآية في سورة كذا، وضعوا تلك في سورة كذا. فقد يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وضع آية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ.. ﴾. في هذا الموضع من آيات الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من أجل صيانة القرآن عن أن تناله يد الخيانة، بالتصرف والتحريف. إذ لو لم يفعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لوجد الآخرون أنفسهم أمام إحراجات كبيرة فيما يختص بأمر الإمامة، وموقعها، وخصائصها، من الطهارة والعصمة، حينما يواجهون النصَّ القرآني الصريح في هذا المجال. وعلى هذا فالسياق لا يكافئ الأدلة الصحيحة والصريحة عند تعارضهما، لعدم الوثوق حينئذٍ بنزول الآية في ذلك السياق. بل لابد من ترك فحوى السياق -لو سلم ظهورها فيما زعموا- والاستسلام لحكم تلك الأدلة القاطعة. وذلك لا ينافي البلاغة، ولا يخل بالإعجاز. أو قد يكون عثمان أو غيره قد جعل آية التطهير في هذا الموضع، ظنًّا منه أن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هنَّ المعنيات بها، واجتهادًا في الترتيب. ومن المعلوم: أنه قد وقع اختلاف كثير في ترتيب المصاحف، حتى اصطلح الناس على مصحف عثمان، وقد رووا: أنهم حين جمعوا القرآن فقدوا آية من سورة الأحزاب، فوجدوها عند خزيمة بن ثابت.

بل من الممكن أن يكونوا قد وضعوا آية التطهير في سياق مخاطبة النساء، لبعض مصالحهم الدنيوية. وقد ظهر من الأخبار عدم ارتباطها بقصتهن، فالاعتماد في هذا الباب على النظم والترتيب في غاية البطلان.

وربما يجدون في قوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾، على انسجامها واتصالها، لو قدر ارتفاع آية التطهير من بين جملها، ما يؤيد ذلك. أضف إلى ذلك: وجود أخبار تدل على سقوط آيات كثيرة، حتى من سورة الأحزاب التي هي مورد البحث، فلعله قد سقط من قبل الآية وبعدها آيات لو ثبتت لم يفت الربط الظاهري بينها.

ونقول: إننا وإن كنا نوافق على أن القرآن ليس مرتبًا على حسب النزول، إلا أننا لا نستطيع قبول سائر ما ذكروه هنا. وذلك للأسباب التالية:

1- إن ما دلّ على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان هو الذي يعين مواضع الآيات، لا يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد تصرف حتى في أجزاء الآية الواحدة، كما هو الحال هنا؛ لأن آية التطهير جزء من آية، وليست آية مستقلة، وهل يعقل أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم قد لفق بين جزء آية وجزء آية أخرى؟! إن نظير ذلك لم يُنقَل إلينا ولا ادعاه أحد. ومجرد الاحتمال لا يكفي.

2- ما ذكروه من أن من الممكن أن يكون التحريف قد نال القرآن بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا يصح، فإن سور القرآن وآياته كانت معروفة بأسمائها ومحفوظة ومكتوبة لدى العشرات من الصحابة منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان قد وظّف كُتّابًا يكتبون القرآن، ويعملون على حفظه وضبطه بإشراف مباشر منه صلى الله عليه وآله وسلم.

3- إن تصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن إن كان بالشكل الذي يوجب حجب دلالة آية عن معناها المقصود فهو غير معقول، لأن ذلك بذاته يكون تحريفًا للقرآن وتضييعًا للحق، ويجعل الناس معذورين بالمخالفة، ويكون لهم الحجة بعد الرسل.

وإن كان لم يوجب ذلك، فلا مجال ولا مبرر للتصرف المذكور، ولا يصح ما قصد إليه من صيانة القرآن من التحريف، ويبقى المحذور الكبير المقتضي للتحريف قائمًا بالفعل. إلا أن يقال: لا ريب في أن هذا الجزء من الآية الذي يصرح بتطهير أهل البيت (عليهم السلام) قد نزل مستقلًّا في مناسبة قضية الكساء. ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد وضع هذه الفقرة في ضمن آيات خطاب النساء بأمر من الله سبحانه وتعالى، من أجل تشريف أهل الكساء، وتفهيم الزوجات وغيرهن أنهن لسن في مستوى هذه الصفوة المطهرة، وهذا الكلام لا محذور فيه كما هو ظاهر.

4- ولو سلمنا اختصاص الآية بالزوجات فمعنى ذلك أن يكون تصريح النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الكساء باختصاص الآية بأهل الكساء غير سديد فكيف ونحن نجده صلى الله عليه وآله وسلم، يصرّ في أكثر من مرة -على الظاهر- على خروج نسائه عن مفاد الآية الشريفة؟!

5- لقد أثبتنا في كتابنا (حقائق هامة حول القرآن الكريم) بصورة قاطعة أن القرآن سليم من أي تحريف أو تبديل فيه، وتحدثنا أيضًا عن ترتيب القرآن ونزوله وغير ذلك من بحوث، فليراجعه مَن أراد)).

([13]) أهل البيت في آية التطهير:94

([14]) مجمع البيان:8/157، أهل البيت أئمة الهدى:23، أهل البيت في آية التطهير:100، أهل البيت:48

([15]) أهل البيت أئمة الهدى:23،31

([16]) أهل البيت في آية التطهير:145

([17]) أهل البيت في آية التطهير:96، أهل البيت:42، آية التطهير:23، مودة أهل البيت:28، سنة أهل البيت:33

([18]) مجمع البيان في تفسير القرآن:8/158، التبيان في تفسير القرآن:8/338، أهل البيت:46

([19]) ابن كثير:6/415، فتح القدير:4/280، التحرير: 22/14

([20]) التحرير:22/14

([21]) القرطبي:14/182

([22]) التحرير:22/16، من هم أهل البيت للطاهر القرطاجي:37

([23]) التحرير:22/16

([24]) الألوسي:22/15

([25]) جلاء الأفهام:217

([26]) أحمد:4/107، رقم:17029، الحاكم:3/159، رقم:4706، وصححه، ووافقه الذهبي.

([27]) البيضاوي:1/373، ابن كثير:6/415، الألوسي:22/12، التحرير:22/11

([28]) التحرير:22/14

([29]) شعب الإيمان:3/86

([30]) القرطبي:14/182، وانظر: تحفة الأحوذي:9/48

([31]) الألوسي:22/13

([32]) التحرير:22/14

([33]) تحفة الأحوذي:10/195

([34]) القرطبي:14/181

([35]) الألوسي:22/15

([36]) القرطبي:14/182

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين