أنور إبراهيم.. من المحنة إلى التمكين

إن سيرة هذا الرجل تستحق التأمل والوقوف والتدبر، فهو مر بظروف متباينة وعصيبة، نجاحات باهرة، وإخفاقات كبيرة، وحملات تشويه منظمة، هدفها اغتياله سياسيا وأخلاقيا، ولكن إرادة الله كانت غالبة، فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. فروح العزيمة والإصرار وتحمل المصاعب احتسابا لأوامر الله عز وجل، كلها زاد في طريق الإنسان ومسيرته حتى بلوغ أهدافه.

 

ولقد جاءتني خاطرة، ونحن نمر في بلادنا العربية وأمتنا الإسلامية بمحن لا تعد ولا تحصى، إذ هناك قادة ومفكرون وسياسيون أفذاذ وقامات عظيمة يقبعون في سجون المستبدين والطغاة، وقد تعرضوا لحملات تشويه واتهامات باطلة، وذلك لأنهم رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وأطاعوا الله وابتغوا رضاه وإرضائه على إرضاء الطاغية والمستبد.

 

فهل يا ترى سيخرج المظلومون من غياهب السجون ويصلون قمة السلطة بعد عقدين من الزمن كما حدث في ماليزيا مع أنور إبراهيم؟ وهل سيخرج أصحاب الفكر الخلاق بمبادئهم وأخلاقهم وقيمهم الروحية وأفكارهم النيرة ليمارسوا التجربة السياسية ويغيروا واقع بلدانهم؟ وهل سيباهون الأمم بقيم ودساتير مستقاة من الطريق الإيماني القويم (الكتاب والسنة)؟

 

ودون شك، لم تنفع ممارسات الطغاة الذين سلكوا طريق الظلم والعسف الإقصاء وكم الأفواه، واستخدموا الأساليب الإعلامية الشيطانية، فهؤلاء منهم من مضى إلى عالم البرزخ حاملا على كاهله وزر الأيام وتكاليف الظلم وإثم الطغيان، ومنهم زعماء في السجون، وآخرون في المنافي ولا أدلكم على الأمثلة، فهي كثيرة وكثيرة.

 

إن سنن الله ماضية لا تتبدل ولا تتغير، قال تعالى: {وَلَا یَحِیقُ ٱلۡمَكۡرُ ٱلسَّیِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِۦۚ فَهَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلۡأَوَّلِینَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِیلًا} سورة فاطر: 43 .

وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} الروم: 47

وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} يوسف: 90

وقال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} يوسف: 56

وحديثنا عن تجربة السياسي ورئيس الوزراء الماليزي الدكتور أنور إبراهيم، وكيف انتقل من محنة إلى محنة؟ وتحمل الصعاب حتى عاد قويا، وبلغ قمة المجد والسلطة في ماليزيا في انتخاباتها الأخيرة لنستقي العبرة والفائدة من هذه التجربة.

 

من هو أنور إبراهيم؟

ولد أنور إبراهيم في العاشر من أغسطس/آب 1947 في ولاية "بينانغ" الواقعة على الساحل الشمالي الغربي لشبه الجزيرة الماليزية، وينحدر أنور من عائلة سياسية معروفة في ماليزيا، وقد بدأ مسيرته السياسية والنضالية في مرحلة مبكرة من حياته (أنور ابراهيم، موقع أكسفورد للدراسات الإسلامية، 2018).

 

فمن عام 1968 إلى عام 1971 كان أنور رئيس الاتحاد الوطني للطلاب المسلمين الماليزيين. وفي نفس الوقت تقريبا، كان أيضا رئيسا لجمعية اللغة الماليزية بجامعة ملايا. وفي عام 1971 كان عضوا في اللجنة المؤيدة لحركة الشباب المسلم في ماليزيا. كما تم انتخابه الرئيس الثاني لمجلس الشباب الماليزي أو مجلس بيليا ماليزيا. ومن عام 1975 حتى عام 1982 شغل منصب ممثل آسيا والمحيط الهادي للمؤتمر العالمي للشباب الإسلامي.

 

ويعتبر أنور إبراهيم المؤسس المشارك للمعهد الدولي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة، وهو واحدا من 4 مديرين بالإنابة، وكما شغل منصب مستشار للجامعة الإسلامية الدولية كوالالمبور بين عامي 1983 و1988. (أنور ابراهيم، موقع أكسفورد للدراسات الإسلامية، 2018)

 

صعود سريع ومناصب وزارية وسياسية

في عام 1982 قبل أنور إبراهيم دعوة من رئيس الوزراء مهاتير محمد للانضمام إلى المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة وحكومته. وأثبتت تلك الخطوة أنها قرار سياسي حكيم، إذ صعد إبراهيم بسرعة على السلم السياسي، وتقلد مناصب وزارية متعددة، حيث شغل منصب وزير الثقافة والشباب والرياضة عام 1983، ومن ثم وزارة الزراعة عام 1984، وحقيبة التعليم بين عامي 1986 و1991 قبل تعيينه وزيرا للمالية بين عامي 1991 و1998 ونائب رئيس الوزراء بين 1993 و1998.)  أنور إبراهيم… سياسي مخضرم، 2022).

 

وفي عام 1998، صنفت مجلة "نيوزويك" الأمريكية أنور إبراهيم على أنه الرجل الأول في شرق آسيا، حيث كان يتمتع بمكانة مرموقة وشعبية كبيرة داخل ماليزيا وخارجها.

 

على رأس الازدهار الاقتصادي الملحوظ لماليزيا خلال التسعينيات، اكتسب أنور احتراما كبيرا على الساحة السياسية في أنحاء العالم، غير أنه خلال الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، اختلف مع مهاتير محمد بشأن تنفيذ إجراءات التعافي الاقتصادي. (أنور إبراهيم… سياسي مخضرم، 2022).

 

اتهامات مزيفة وافتراءات باطلة

في سبتمبر/أيلول عام 1998، أقيل أنور إبراهيم ووجهت إليه تهم عدة، بينها الفساد الإداري والمالي، نفاها في المحاكمة المثيرة للجدل التي أعقبت ذلك، معتبرا أنها تهم ذات دوافع سياسية، هدفها إنهاء حياته المهنية.

 

واندلعت احتجاجات عنيفة، عندما حكم عليه بالسجن 6 أعوام بتهمة "الفساد"، وبعد عام حكم عليه بالسجن لمدة 9 سنوات بسبب اتهامات في قضية أخلاقية.

 

وفي أواخر العام 2004، أي بعد عام من تنحي مهاتير محمد عن منصبه كرئيس للوزراء، ألغت المحكمة العليا في ماليزيا الحكم الأخير، وأطلقت سراح أنور إبراهيم (أنور إبراهيم من زعيم طلابي إلى رئيس وزراء ماليزيا، 2022).

 

أنور إبراهيم ومهاتير محمد.. تحالف وتنافس

في عام 2008، أسس أنور إبراهيم حزب "عدالة الشعب"، وكان من أكبر أحزاب المعارضة في ماليزيا. ولكن في عهد نجيب رزاق واجه أنور تهمة جديدة في قضية أخلاقية كبيرة، وهي اتهامات بممارسة فعل قوم لوط مع أحد مساعديه السابقين عام 2008، ويواجه عقوبة السجن 20 عاما، وقضى في سجنه بين عامي 2015 و2018، حيث أفرج عنه بموجب عفو ملكي في مايو/ أيار 2018.

 

وهكذا، كان سجن أنور خلال العهد الأول لرئيس الوزراء مهاتير محمد (1981-2003)، وكان آنذاك نائبا له. وأعيد سجنه في عهد رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق 2009-2018. وفي المرتين، كانت التهمة هي "التورط في قضية أخلاقية"، في حين يؤكد أنور أن الدوافع وراء سجنه كانت دوما "سياسية"، واستأنف أنور حياته السياسية، وترشح لمقعد في البرلمان وانتخب في أكتوبر/تشرين الأول 2018. (أنور ابراهيم…سياسي مخضرم، يني شفق، 2022)

 

فقد دفع تفشي الفساد في ماليزيا على أيدي رئيس الوزراء نجيب عبد الرزاق، لطي صفحة الخلافات وتشكيل تحالف من مهاتير وأنور في انتخابات البرلمان 2018، بهدف تحقيق مستقبل أفضل للماليزيين.

 

وبناء عليه، اشترك أنور مع مهاتير في تحالف سياسي معارض يدعى "جبهة الأمل" نجح في الفوز بانتخابات التاسع من مايو/ أيار 2018 البرلمانية، حيث حاز 113 مقعدا من إجمالي 222، وهو ما كفل لمهاتير تشكيل حكومة والعودة إلى منصب رئيس الوزراء، الذي سبق أن شغله على مدى 22 عاما (أنور ابراهيم… سياسي مخضرم، 2022).

 

وكان تحالف "جبهة الأمل" يتألف من حزب "عدالة الشعب" بزعامة أنور، إلى جانب 3 أحزاب أخرى هي "العمل الديمقراطي" الذي يهيمن عليه الصينيون، و"المعارضة والأمانة الوطنية" المنشق عن الحزب الإسلامي، و"وحدة أبناء الأرض" الذي شكله مهاتير بعد انشقاقه عن حزب "أمنو" قائد تحالف الحكم آنذاك (أنور ابراهيم…سياسي مخضرم، 2022)

 

وقام الائتلاف الجديد بدمج 4 أحزاب، في أول تحالف متعدد الأعراق فعليا في ماليزيا، وحصل على دعم أغلبية الملايو المسلمة والأقليات الصينية والهندية ذات العدد الكبير في البلاد (أنور ابراهيم، رئيس للوزراء بعد انتظار…، 2022).

 

وتعهد مهاتير محمد، الذي عاد مجددا إلى رئاسة الحكومة في ماليزيا، بإطلاق سراح إبراهيم، ونفذ وعده بإصدار عفو كامل عن السياسي السجين. (أنور ابراهيم، رئيس للوزراء بعد انتظار… 2022).

 

أنور إبراهيم والصعود إلى القمة

أسفرت الانتخابات العامة الماليزية، التي جرت في 19 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، عن تصدر تحالف الأمل الإصلاحي بقيادة أنو إبراهيم السباق البرلماني بـ 82 مقعدا، بينما حصل التحالف الوطني بقيادة محيي الدين ياسين على 73 مقعدا.

 

وقد أعلن القصر الملكي في ماليزيا الخميس الماضي تكليف زعيم تحالف الأمل المعارض أنور إبراهيم برئاسة الحكومة الماليزية المقبلة.

 

وأضاف بيان للقصر الملكي أن تعيين أنور إبراهيم ليكون رئيس الوزراء العاشر في تاريخ البلاد جاء بعد موافقة الملك ومجلس حكام الولايات، ويأتي تعيين أنور إبراهيم تتويجا لرحلة طويلة في عالم السياسة استمرت 3 عقود، تقلب فيها من وريث واضح للزعيم المخضرم مهاتير محمد إلى زعيم للمعارضة لفترة طويلة (زعيم المعارضة أنور ابراهيم… 2022).

 

والخلاصة أن جملة ما أراد قوله أنور إبراهيم في حملته الانتخابية الأخيرة: "نريد الخلاص من الفساد والمحسوبية والعنصرية والتعصب الديني"، فهو دعا إلى "قيم تعايش مجتمعي" و"احتواء الجميع في بلد متعدد الأعراق" و"إصلاح النظام السياسي"، فشعاره المدوي هو الإصلاح وهو ما لاقى قبولا جامعا على الصعيد الوطني الماليزي. وبهذا يكون الرجل السبعيني، قد عاش محنة تاريخية امتدت لعقود ويعود حاملا معه لواء الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والتعايش الاثني، وترسيخ أسس النهضة الإسلامية الماليزية.

 

 

المراجع:

    أنور ابراهيم: موقع أوكسفورد للدراسات الإسلامية، 2018. انظر الرابط.

    أنور إبراهيم.. من زعيم طلابي إلى رئيس لوزراء ماليزيا، مجلة الشرق. انظر الرابط.

    أنور إبراهيم يعين رئيسا للوزراء في ماليزيا بعد انتظار 25 عاما مرورا بالسج، موقع BBC. انظر الرابط.

    من هو أنور إبراهيم رئيس وزراء ماليزيا الجديد؟، العربي الجديد، انظر الرابط.

    أنور إبراهيم.. سياسي مخضرم يقود ماليزيا نحو الإصلاح، وكالة الأناضول. انظر الرابط.

    زعيم المعارضة أنور إبراهيم رئيسا للحكومة في ماليزيا، موقع الجزيرة. انظر الرابط.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين