أندلسييو مدينة فاس1/3

 جذورهم، وإشعاعهم، ومحافظتهم على هويتهم الأندلسية

لقد مثل سقوط الأندلس كارثة حضارية وإنسانية بما تعنيه من معنى، نظرا لمدى التطور العلمي والحضاري الذي شهدته بلاد الأندلس من كافة النواحي، ذلك التطور الذي دعمه الأندلسيون بالتأليف والكتابة، والصناعة والبناء، والموسيقى...وغير ذلك، حتى شكل حضارة من أروع ما شهدته الإنسانية، مازالت بصماتها المعمارية واضحة، ومازالت – كحضارة – واقعا معيشا يفرض نفسه في كافة المجالات.

 

ولإن كان سقوط الأندلس يعد كارثة من وجة، فقد كان بمثابة النعمة والرحمة للمناطق التي شملها النزوح والهجرة الأندلسية، الذي كان سبب الطرد التعسفي الذي مارسه المستعمر القشتالي على أهل الأندلس، حيث تم طرد النخبة المثقفة والعالمية، والإبقاء على العامة المستضعفين، والأطفال والنساء مغربين في أوطانهم وبلادهم.

 

ذلك أن البلاد التي استقبلت مهاجرة الأندلس؛ استقبلتهم بعلومهم، وفنونهم، وحضارتهم، وتقدمهم، وتجربتهم البعيدة والواسعة المدى، ما تسبب في نهضة حضارية فيها، وزخم معرفي مهم.

 

ولإن كانت بلاد استفادت من تلك الهجرات، واحتضنت أولئك الأمم من المهجرين المنكوبين، فآختهم، وآوتهم، وساوتهم بأهلها وسكانها حتى صاروا وحدة لا تنفك؛ فإن مدسنة فاس نالت القدح المعلى من ذلك، فهي – مع كونها تاريخيا – قرينة إشبيلية وقرطبة وبلنسية وغرناطة؛ فقد ورثت أهم عناصر تلك الحضارة، لما أنها كانت ملاذ النخبة من أهل بلاد الأندلس؛ وليس أقلهم آخر ملوكها أبو عبد الله ابن الأحمر النصري، المعروف بالريتشيكو.

 

سأستعرض في كلمتي هذه حول "أندلسيي فاس"، الوجود الأندلسي في فاس: منشؤه، ومميزاته، وأثره، ذلك أنني سأتحدث عن العائلات المنحدرة من الأندلس إلى مدينة فاس، عبر التاريخ، مقسما تلك العائلات إلى: عائلات أندلسية قدمت قبل سقوط غرناطة، وعائلات موريسكية قدمت بعد سقوط غرناطة، معددا أهم تلك العائلات..

 

كما سأتحدث عن المميزات التي صبغت كلا النوعين من الأسر، من حيث العادات والتقاليد، والهموم، والاعتناء بالبحث والحفاظ على هويتهم بالرغم من مكثهم بالمغرب عبر قرون..

 

وسأتحدث عن أهم الآثار التي احتفظت بها تلك العائلات، من قصص وأخبار، ومفاتيح بيوت، وكتب، وغير ذلك من الآثار المهمة التي تعتبر رابطا لهم بجذورهم الأندلسية العريقة.

 

وسأتحدث إن شاء الله عن أثر الأندلسيين في فاس، مقسما ذلك إلى:

 

- الأثر العلمي والمعرفي.

- المناصب الإدارية التي تتابعوا عليها.

- الأثر الحضاري.

- الصناعات وما هو من جنسها.

- الفن والطرب.

 

معتمدا في معلوماتي على جرد ميداني، إضافة إلى معلومات مستقاة من كتب التاريخ والتراجم التي عنيت بهذا المجال، خاصة ما كتبه الأندلسيون أنفسهم...سائلا الله تعالى التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

 

الوجود الأندلسي في فاس:

يرجع الوجود الأندلسي في فاس إلى وقت تأسيسها وبنائها، سنة 192هـ، ذلك أن المؤرخين ذكروا بأن مولانا إدريس الأزهر لما بنى فاس، قدمت عليه وفود من القيروان ومن الأندلس، فوهبهم الأرض وقال: "من بنى أرضا فهي له"، إذ أصل مدينة فاس: أرضا كان اشتراها مولانا إدريس رضي الله عنه من قبيلة زواغة.

 

فبنى القيروانيون مدينة على الضفة الغربية لواد الجواهر، أو واد فاس، سميت "فاس القرويين"، وبنى الأندلسيون مدينة على الضفة الأخرى تسمى: "فاس الأندلس"، وبنى كل أبناء مدينة سورا على مدينتهم، ليختط في فاس ابتداء سوران محيطان بحيين سكنيين.

 

قال عبد الملك الوراق: "كانت فاس في القديم بلدين، لكل منهما سور يحيط بها، وأبواب تختص به، والنهر فاصل بينهما، وسميت إحدى العدوتين: عدوة القرويين؛ لنزول العرب الوافدين من القيروان بها، وكانوا ثلاثمائة أهل بيت . .وسميت الأخرى: عدوة الأندلس؛ لنزول العرب الوافدين من الأندلس بها، وكانوا جمعا غفيرا يقال: أربعة آلاف أهل بيت".

 

فدل ذلك على أن أندلسيي فاس عند تأسيسها كانوا أكثرية سكانها، وهو ما يبرر التوأمة التاريخية بين فاس والأندلس، بحيث نجد عائلاتٍ فروعا منها في فاس، والأخرى في الأندلس.

 

وقد بقيت أسوار المدينتين متمايزتين إلى أن هدمها ووحدها في سور واحد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين رحمه الله، سنة 472 للهجرة، فصارت مدينة واحدة.

 

وتعد مشاركة الأندلسيين في بناء فاس أول مراحل النزوح الأندلسي لها، كما أن هناك مراحل أخرى، ابتدأت خاصة بعد ابتداء سقوط ممالك الأندلس أولا، وازدهار الدولة المغربية ثانيا، إذ وصفها عبد الواحد المراكشي في القرنين: السادس والسابع الهجريين فقال: "ومدينة فاس هي حاضرة المغرب في وقتنا هذا وموضع العلم فيه؛ اجتمع فيها علم القيروان و علم قرطبة .. فهي اليوم على غاية الحضارة، وأهلها في غاية الكيس ونهاية الظرف، ولغتهم أفصح اللغات في ذلك الإقليم، وما زلت أسمع المشايخ يدعونها: بغداد المغرب".

 

ومن أهم تلك المراحل أيضا: مرحلة المرابطين؛ خاصة بعد معركة الزلاقة سنة 479هـ/ 1086م، واتساع دولة المرابطين لتعم كل الأراضي المتبقية من الأندلس.

 

ومن أهم تلك المراحل أيضا: مرحلة الموحدين؛ خاصة في فترة يعقوب المنصور(1184-1199م)، الذي هزم ألفونصو الثامن في معركة الأرك،حيث اتسع البناء في زمنه، واستقدم مهرة الصناع والمهندسين. وفي فترة ابنه الناصر لدين الله، حيث كانت نكبة معركة العقاب سنة609هـ/ 1212م، وانهار الجيش الموحدي في الأندلس، وبذلك تدافعت الأسر الأندلسية مهاجرة من إيبيريا للمغرب.

 

ولكن أهم فترة للنزوح الأندلسي لفاس؛ كانت في القرون الثامن والتاسع والعاشر، فما بعدها، وهي فترة الدولة المرينية ثم الدولتين الوطاسية والسعدية، حيث نزح مئات الألوف من الأندلسيين للمغرب، خاصة مدينة فاس التي استوطنتها آلاف الأسر، بل إن المؤرخين يذكرون بأن السلطان أبا عبد الله الصغير ابن الأحمر، خرج من غرناطة إلى فاس ومعه خمسمائة عائلة...

 

وقد كان سبب هذا النزوح كما لا يخفى: سقوط الأندلس، واستعمارها من قبل القشتاليين وحلفائهم، والمعاملة السيئة التي عومل بها أهلها، بحيث أجبروا على تغيير أسمائهم، ولغتهم، ودينهم...

 

نبذة عن الأسر الأندلسية التي استوطنت فاسا:

باستعراض لكتاب مثل: "زهر الآس في بيوتات فاس" للعلامة المؤرخ عبد الكبير بن هاشم الكتاني، رحمه الله، نجد العشرات من الأسر التي أرخ لها صاحب الكتاب، وإن كان اقتصر في كتابه على ذكر الأسر غير المنتمية للشرف الحسني أو الحسيني، كما أنه – في الغالب – ذكر الأسر التي تعرف عليها، أو التي لم تنقرض..حيث – كما لا يخفى الباحث – قد انقرضت أسر كثيرة عبر التاريخ المغربي، بعد الموجات المتتالية من الأوبئة التي تعرضت لها مدينة فاس..

 

وقد أحصى محقق الكتاب، والدي، الدكتور علي بن المنتصر الكتاني رحمه الله، نحو 25 في المائة من عائلات فاس أندلسية الأصل، وهي نسبة مهمة اعتبارا بوصول أسمائها إلينا، وعدم اندماجها تماما في المجتمع بحيث يعسر تمييزها من غيرها، وإلا فالنسبة ستكون أكثر من ذلك لا محالة.

 

ويمكن تقسيم الأسر الأندلسية في فاس إلى: أسر أندلسية، وأسر موريسكية...بمعنى الأسر التي حلت بفاس قبل سقوط غرناطة، والأسر التي حلت بها بعد سقوط غرناطة..

 

والفرق بين النوعين: أن الأسر التي نزحت قبل سقوط غرناطة تطبعت بالعادات الأندلسية العريقة، والعنعنات التي كانت منتشرة قبل السقوط، كما حافظت على أسمائها العربية، وما يتعلق بذلك من حرف ومهن ووظائف مخزنية وإدارية.

 

أما الأسر التي نزحت بعد سقوط غرناطة؛ فهي - في الغالب - تحمل ذاكرة المأساة، والاضطهاد، والرغبة في الرجوع، وكثير منها مازالت محتفظة بآثارها في الأندلس من كتب ومفاتيح بيوت، وألبسة..إلخ، كما تحتفظ ذاكرتها بالكثير من أخبار الأندلس وعادات أهلها وتقاليدهم وطبائعهم، وتنزهاتهم ومنتجعاتهم في أوطانهم التي رحلوا عنها، وهم في الغالب لا يحبون الاختلاط سوى بأمثالهم، ولا التصاهر إلا مع بني جنسهم، وجلهم لهم أسماء غير عربية.

 

فمن الأسر الأندلسية التي حلت بالمغرب قبل سقوط غرناطة: بيت السراّج، وبيت ابن سودة، وبيت ابن سليمان، وبيت ابن عبد الله الأندلسي، وبيت الغرناطي، وبيت المواق، وبيت الزقاق، وبيت التماق، وبيت الدباغ الحسنيون، وبيت ابن جلون، وبيت ابن شقرون، وبيت ابن فرحون، وبيت الشطيبي، ومن آخرهم: بيت الفاسي الفهري الذي حلوا قريب سقوط غرناطة...إلخ.

 

أما الأسر الموريسكية؛ فمثل بيت ابن الأحمر، وبيت صفيرة، وبيت ابن الحاج السلمي، وبيت الفهري، وبيت العطار، وبيت باسو، وبيت بردلة، وبيت البسة، وبيت التماو، وبيت تيميرو، وبيت الطرون، وبيت اللب، وبيت اللرول، وبيت المنطرش، وبيت فنجيرو، وبيت الغندوش، وبيت قزمان، وبيت قلمون، وبيت سنكليو، وبيت ميكو، وبيت المريي الحسني، وبيت المركسي، وبيت الندلسي، وبيت الروندة، وبيت الكرديسي، وبيت الكسطلي، وبيت الغزال، وبيت شركسي، وبيت شمتري، وبيت زركلي، وبيت اليدري، وبيت مارشيسي، وبيت بوصلي، وبيت شبلي، وبيت طاهري، وبيت عمري، وبيت دارستي...إلخ.

 

كما أن هناك بيوتا قدمت فاس، وتحتاج إلى دراسات حول جذورها الأندلسية أو الموريسكية، أو حتى المدجنة؛ بمعنى من استقر في الأندلس بعد سقوط مناطقهم عشرات ومئات السنين، ولم يكرهوا على تغيير هوياتهم إلا بعد سقوط غرناطة، فاطضروا إلى الانحياز للمغرب – وفاس بالخصوص – من أجل المحافظة على دينهم وعقيدتهم..

 

ومن أسماء البيوتات المنتمية لمدن: الإبريني، والأرجبي، وتاندرشي، والأندلسي، والإشبيلي، والقرطبي، والباجي، والبرجي، والبلجي، والقرموني، والموجاري، والأطريري، والقمارشي، والبلنسي، والرندي...إلخ. والغالب في هذه أنها عائلات موريسكية.

 

ومن بين الأسماء التي حافظت على أسمائها القديمة: ابن الأبار، والأزرق، والأموي، والبلاج، والبزار، والبواب، والبيار، والبيطار، والجنان، والدراج، وابن عزمون، وابن حيون، وابن المليح، والكوي، والمدجن، والكاتب، والغرديس، وابن فرحون، وابن وعدون...إلخ.

 

آثار احتفظ بها الأندلسيون في المغرب:

وقد احتفظت العديد من العائلات الأندلسية، خاصة الموريسكية، بآثار تدل على انتمائها للأندلس، كمفاتيح بيوتها، وبعض الأواني المميزة، ومصاحف، وسيوف، وغير ذلك من الأدلة التي يثبتون بها انتماءهم لموطنهم الأصلي: الأندلس، ويتأملون بها العودة إلى هناك ريثما يعود الفرع إلى الأصل، وقد يحتفظون بما يرتبط بأهلهم الذين تركوهم هناك، من زوجات وأبناء، من لباس أو حلي، أو ما شابه ذلك، في صورة مأساوية تراجيدية، تمثل مدى الألم والحسرة التي ملأت قلوبهم إثر الطرد والتفريق عن العرض وأعز شئ.

 

ومن العائلات التي احتفظت بمفاتيح بيوتها في الأندلس: عائلة بردلة الذين مايزالون يحتفظون بمفاتيح بيتهم بغرناطة إلى الآن، وعائلة الغرناطي أيضا؛ مازالوا يتوارثون مفاتيح بيتهم بغرناطة إلى الآن.

 

والبحث عن تلك الآثار والمآثر يحتاج إلى وعي جماعي، من أجل الحفاظ عليها مخافة ان تضيع أو تضيع ذاكرتُها، إذ تمثل حمولة إنسانية لا تخفى قيمتها لدى الباحث والمؤرخ، وقد بلغني أن أسرة بردلة الأندلسية الموريسكية قام أفرادها قديما وحديثا بشراء الكثير من تلك المآثر، والحفاظ عليها، كما كان أفرادها يقومون بإعالة المعوزين والفقراء من الأسر الموريسكية الفاسية الذين تعذرت عليهم وسائل العيش والنهوض الاقتصادي والاجتماعي في القديم.

 

وقد كان للعائلات الأندلسية الدور الرائد والهام في المجالات العلمية والمالية والسياسية والثقافية والحرفية...نلمح إلى بعض تلك الأدوار فيما يأتي..

 

-يتبع-

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين