أندلسييو مدينة فاس 2-3

 جذورهم، وإشعاعهم، ومحافظتهم على هويتهم الأندلسية

 

أثر الأندلسيين العلمي والقانوني في فاس:

لقد شهد القرن العاشر الهجري-السادس عشر الميلادي نزوح عائلات علمية عديدة لمدينة فاس، وبذلك فقد كان لهم أثر مهم في ازدهار الحراك العلمي بها، خاصة في جامعتها القرويين. ففي القرن السادس عشر الميلادي، المذكور، أقام اكلينار البلجيكي بفاس سنة 1540، أيام السلطان أحمد الأعرج السعدي عام 948 هجرية وكتب رسائل باللاتيني، وصف فيها القرويين ودروسه بها، وعادات الطلبة و المدرسين، وطريقة التدريس، وفنون العلم المدروسة فيه؛ فكانت: التفسير و الحديث، و الأصول و الفقه،  والنحو والبيان، و المعاني والبديع، والمنطق والعروض، و الحساب و التنجيم، و الكلام والتصوف، و اللغة والتصريف، والتوحيد والتاريخ، والجغرافيا و الطب، والقضاء والأحكام و الأدب. ولا شك أنه كان للأندلسيين الواردين والوافدين بفاس أثر بليغ في نقل حضارة غرناطة والأندلس إليها، ويتجلى هذا الأثر في النقاط التالية:

 

1- قدومهم بمكتبات مهمة، ومؤلفات قيمة إلى مدينة فاس...من مثل كتب الشاطبي "الاعتصام" والموافقات"، وابن أبي عاصم؛ من مثل "التحفة" التي اعتنى الفاسيون بشرحها، و"سن المهتدين" لمحمد بن يوسف المواق، آخر قضاة غرناطة، والمتوفى بها بعد سقوطها، وشرحه على "مختصر الشيخ خليل"، وكذا مؤلفات أعلام من الأندلس سابقين ولاحقين، ومكتبات لأسر علمية كبيرة كأمثال أسرتي ابن سودة، وابن سليمان، ومن أشهر المكتبات بفاس في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي: مكتبة ابن الغرديس، التي جمع منها الإمام أبو العباس أحمد الونشريسي موسوعته: "المعيار المعرب، عن فتاوى أهل الأندلس والمغرب". في عشرة مجلدات...

 

2- قدومهم بمنهج علمي، وتأثيرهم به في المحيط الفاسي، خاصة مدرسة الإمام محمد بن يوسف العبدري؛ الشهير بالمواق، حتى صار علماء القرويين يقولون: نحن مالكيو المذهب، مواقيو الفهم، كما أن القضاء والفتيا بنيت على مصنفات أبي عبد الله محمد بن محمد ابن جزي الكلبي، وأبي بكر محمد بن عاصم الغرناطي، وعلي بن قاسم الزقاق التجيبي...وكذا كان لمدرسة ابن حزم الظاهري تأثير في المغرب عند ورودهم أولا، ثم في القرن الرابع عشر/ العشرين ثانيا..ويكفي أن مدار أهل فاس، بل أهل المغرب والمالكية عموما على منظومة الفقيه المجاهد: عبد الواحد بن أحمد ابن عاشر الأنصاري الأندلسي المتوفى رحمه الله سنة 1040هـ/ أواسط ق17م...

 

3- الأدب والشعر، فقد حل بمدينة فاس سابقا ولاحقا أدباء كبار، أثروا بمدارسهم الأدبية والفنية واللغوية على آداب فاس وإبداعاتها؛ كأمثال لسان الدين ابن الخطيب السلماني، وإسماعيل بن يوسف ابن الأحمر، ومحمد بن محمد ابن جزي، ومحمد بن عبد الوهاب الغساني، ومحمد بن قاسم ابن زاكور، وأبو مدين الفاسي الفهري، وحمدون ابن الحاج السلمي، ومحمد بن المفضل غريط...وقد جلبوا إلى فاس الكثير من فنون الأدب والشعر؛ كالموشحات والمسجعات، على أساليب رائقة، وتراكيب فريدة، متضمنة للعامية، وربما الأعجمية، ومفعمة بالتشبيه، والتمثيل، ومختلف فنون البلاغة، وقد استعمل الفاسيون الكثير من هذه المبدعات في فنون الموسيقى والسماع التي سنتحدث عنها لاحقا بحول الله. كما تعتبر كتاباتهم ومؤلفاتهم في فن الأدب والشعر، مدارس تدرس على حده.

 

4- وفي علوم الفلك، والتوقيت والتنجيم؛ فقد كان لمؤلفات الأندلسيين وطرقهم في التدريس والتعليم، والفهم، وما ابتكروه من ساعات شمسية ورملية، أثر مهم في فاس، ومن أوائل أعلامهم الذين لهم صيت عالمي: الفلكي المؤقت أبو بكر ابن باجة السرقسطي التجيبي (ت529هـ/ الثاني عشر ميلادي)، ومنهم أيضا: مسعود الطليطلي، وعلي قصارة، وأبو جيدة المشاط، والموسوعي عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي، وابنه محمد، ولهما مؤلفات في التوقيت والفلك والتنجيم، وكذا الموقت عبد الرحمن بن يوسف الفاسي، 

 

5- في الميدان العلمي كانت مساهمة الجالية الأندلسية بالمغرب ذات أهمية كبيرة، حيث برزوا في ميدان العلوم التجريبية والترجمة، وبفضلهم دخلت عدة مصطلحات تقنية إلى اللغة العربية، وبرزوا في العلوم التجريبية كالطب والصيدلة. وقد قرب الملوك السعديون الأطباء الأندلسيين وشجعوهم على تطوير بحوثهم وتأليف مؤلفاتهم، وبرز الأندلسيون أيضا في علمي الفلك والهندسة وظلوا لمدة طويلة أساتذة تلك العلوم بالمغرب.

 

6- أما في الكتابة التاريخية؛ فقد كان للأندلسيين الفضل في إيقاظ جذوة الشعور بأهمية التاريخ في فاس، فعلاوة على يحيى السراج صاحب الفهرس النفيس في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، وحفيده سميه أيضا في القرن العاشر الهجري/ الخامس عشر الميلادي، فقد كان لمن حل بمدينة فاس من أهل الأندلس الفضل الكبير في إحياء هذا الشعور، والتأريخ لمدينة فاس، أياما، ورجالا، وأنسابا، وغير ذلك، وأسرتان من الأسر الأندلسية؛ كالقادري، والفاسي الفهري، تركتا عشرات المؤلفات في هذا الميدان، وأنشأتا مدارس للاعتناء بالتأريخ والكتابة فيه، كما أن أسماء بارزة؛ كمثل محمد المدرع الأندلسي، وعبد الله ابن يخلف الأندلسي، وابن عيشون الشراط الأندلسي، وعبد المجيد المنالي الأندلسي، وأحمد بن حمدون ابن الحاج السلمي، وغيرهم كثير، كان لهم فضل كبير في التأريخ لمختلف الحقب، والوقائع، والأعلام، والصوفية...إلخ.

 

كما أنه عرفت بمدينة فاس أسر علمية، تواتر فيها العلم منذ قدومها إلى فاس؛ مثل: ابن سودة، وابن سليمان، والفاسي الفهري، وابن الحاج السلمي، وابن جلون، وجسوس، والقادري...

 

وهناك أسر عرفت بعلوم الأدب والشعر؛ كابن زاكور، وغريط، وابن إدريس العمروي...إلخ.

 

النشاط الدبلوماسي:

كان للأندلسيين بفاس أثر دبلوماسي كبير، ممثلا في تقلد الأندلسيين لوظائف مخزنية مهمة في أزمان المرينيين، والوطاسيين، والسعديين والعلويين، حتى إن أسرا توارثت تلك المناصب وبعضها إلى الآن...وقد تمثلت تلك الوظائف في مختلف التخصصات: كالوزارة، والصدارة، والحجابة، والسفارة، والكتابة...إلخ.

 

ومن السفراء الأندلسيين الشهيرين الذين كان لهم أثر معروف في الدبلوماسية المغربية: الوزير الكاتب، والسفير محمد بن عبد الوهاب الغساني الأندلسي ق12هـ/ 17م ، صاحب كتاب "رحلة الوزير في افتكاك الأسير"، والسفير يحيى الغزال الأندلسي؛ صاحب كتاب "نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد"، ق12هـ/ 18م، والسفير عبد الله بن عبد السلام الفاسي الفهري ق14هـ/ 20م.

 

ومن الأسر التي تناوبت على العمالة في فاس: بيت الغرناطي، وهم ينتسبون لذي الوزارتين لسان الدين ابن الخطيب السلماني، فقد توارث هذا البيت منصب العمالة بمدينة فاس، خاصة في زمن السلطان مولاي إسماعيل وبنيه، ومن الشهيرين به: السيد علي الغرناطي..

 

كما توارثت مناصب الوزارة والكتابة أسرة ابن سليمان الأندلسي، وذلك منذ نحو ثلاثمائة عام إلى الآن، ومن الشهيرين: وزير الخارجية المغربي قبل الحماية: الحاج عبد الكريم ابن سليمان، ورئيس مجلس العرش الحاج الفاطمي ابن سليمان..

 

ومن البيوتات التي توارثت منصب الكتابة والوزارة أيضا: بيت غريط، وأحيانا ينطق: غرنيط، ومن أبرزهم الأديب المصقاع: محمد بن المفضل غريط الأندلسي، صاحب كتاب "فواصل الجمان، في أدباء وكتاب الزمان"..طبع مرارا، وبيت ابن يعيش، وغيرهما..

 

وكان لبيت الفاسي الفهري تحمل لمسؤوليات مخزنية عديدة؛ كالوزارة؛ فمن أهم وزرائهم: عبد الله الفاسي الفهري، والعباس الفاسي الفهري، ومحمد بن عبد الواحد الفاسي الفهري، ثم بعد الاستقلال تواتروا على المناصب الوزارية...كما تحمل من قبل خطة الخطابة في جامع القرويين؛ فاستمرت لديهم نحو المائتي عام.

 

التصوف والإصلاح الديني:

عند بحثنا في تاريخ التصوف الديني في مدينة فاس، نجد الأثر الأندلسي واضحا عليه، تأسيسا، ونهضة، وتحملا، وقد كان لأبي المحاسن يوسف بن محمد الفاسي الفهري المالقي اللبلي (1013هـ/ 1604م)، أثرٌ أساسٌ في النهضة بالزاوية الصوفية، ليس بفاس فقط، بل في المغرب، وقد أخذ عنه أعلام التصوف في وقته.

 

كما أنه أحاط نفسه بمجموعة من الأندلسيين، خاصة الموريسكيين؛ إذ نجد من بين الأسماء: إبراهيم بن محمد النيار الندلسي، والفقيه محمد بن علي القنطري، والفقيه محمد بن علي النيجي، وعلي بن يوسف المدجن البيطار، وعلي الفخار، وشقرون الفخار...إلخ.

 

وقد تعاقبت على هذه الزاوية أسر أندلسية؛ فإضافة لأسرة الفاسي اللبليين، أسرة ابن عبد الله معن الأندلسيين، وأسرة الخصاصي الأندلسيين، وقد استمروا في هذه الزاوية نحو قرنين من الزمان، إلى أن ورثتها الزاوية الدرقاوية المنبثقة عن مولاي العربي الدرقاوي، تلميذ مولاي علي الجمل العمراني تلميذ سيدي العربي ابن عبد الله معن الأندلسي، تلميذ سيدي قاسم الخصاصي الأندلسي، تلميذ سيدي أحمد ابن عبد الله معن الأندلسي تلميذ سيدي محمد ابن عبد الله معن الأندلسي تلميذ سيدي عبد الرحمن الفاسي الفهري تلميذ سيدي يوسف الفاسي المذكور.

 

وتتجلى أهمية هذه الزاوية بأنه تفرعت عنها أهم زوايا المغرب؛ كالدلائية، والتادلية، والناصرية، والعياشية، والوزانية، عدى من تفرعوا عن الزاوية الدرقاوية وريثتها.

 

كما أن الزاوية القادرية في فاس والمغرب هي زاوية أندلسية بامتياز، فقد توارثتها الأسر القادرية في فاس، وتطوان والجديدة، وسلا...وكلها منحدر من مدينة وادي آش شرق غرناطة.

 

كما تتميز حلقات الذكر في فاس بالأناشيد الأندلسية، بأشعارها وأوزانها، فلا تخلوا من موشحات، ومقصورات، ووتريات، وتمثل أشعار الششتري الأندلسي، وأبي مدين المرسي، وابن عربي الحاتمي الأندلسي، وإبراهيم الساحلي الأندلسي، وغيرهم من أعلام التصوف في الأندلس عنصرا أساسيا، خاصة ما دبجوه من أشعار عشقية إلهية، وأمداح نبوية راقية.

 

الفن والمعمار:

يمثل الفن بمختلف أنواعه، والمعمار سمة بارزة لأندلسيي فاس، فزقاق فاس، وقصورها، والكثير من مساجدها، تحاكي في فن الزخرفة بشتى أنواعها ما يوجد في قصور الأندلس ومدنها الراقية كالزهراء والزاهرة، وغرناطة وإشبيلية، علاوة على الطرب الأندلسي بشتى أنواعه، من توشيح، وغرناطي، وموال، وموسيقى وعزف...إلخ...وسأقسم هذا المحور إلى التالي:

 

أ-أثر فن المعمار الأندلسي في فاس:

يقول الأستاذ الموسوعي عبد العزيز ابن عبد الله رحمه الله، عند حديثه عن معمار فاس: "ازدهرت مظاهر الحضارة والعمران في عهد بني مرين الذين أصبحوا أقوى ملوك إفريقيا الشمالية، إذ بالرغم عن محتدهم الصحراوي فإن هؤلاء الرجال استطاعوا - بفضل اتصالهم المزدوج بـ (بني نصر) ورثة الحضارة الأندلسية، وبالموحدين، التكيُّف والانسياق في مجرى الحضارة تبعا للمقتضيات المدنية، مع استمداد من معطيات الفكر الإسلامي والمجالي الطريفة في التجديد، وقد تبلور اتجاههم في إقامة المدارس المحصنة والمساجد وقباب الأضرحة، والفنادق المزخرفة والمدارس الفخمة التي أضفت على المغرب المريني طابعا خاصا من الروعة والبهاء" .

 

"تلك هي المظاهر الجوهرية التي يمكن أن نستخلص منها صورة عن الفن المريني الذي بدأت تتبلور فيه مجالي الازدواج بين الطابعين الأندلسي والمغربي في شكل جديد سمي بالفن الإسباني الموريسكي" .

 

"وبالرغم عن التأثرات الأندلسية التي رسمت هذا الفن؛ فإنه اصطبغ بسمة خاصة؛ إذ عوضا عما كان يذكي المهندس الأندلسي من رغبة في تحقيق التوازن بين القوى في معالم المعمارية؛ هدف المهندس المغربي إلى ضمان متانة الهيكل بالإضافة إلى ما كان يشعر به من حاجة إلى مزيد من الزخرفة والتنسيق، وهذا هو الطابع العام الذي يتسم به مجموع الفن الإسلامي من تسطيرات ناتئة ومقربصات وتلوينات علاوة على روعة الهندام. ورغما عما يتسم به هذا الفن المعماري، الذي بلغ في العصر المريني أوج عنفوانه من إيغال في التوريق والتسطير والنقش، مع قلة توازن بين الأجزاء وعدم جودة المواد، فإن المجموع ظل - كما يصفه المؤرخ أندري جوليان - واضح المعالم، متوازي النسب، تتجانس نقوشه تجانسا رائعا ضمن الحيز الذي يملأه، وهذا بالإضافة إلى ما انطوت عليه الألوان من دقة وجناس كاملين" .

 

"وهذا التناسق الفني يرجع الفضل فيه إلى نشاط المهندس الأندلسي الذي كان تأثيره ملحوظا في مجموع المآثر المعمارية. وإذا كان الفن قد استطاع الصمود في نهاية العهد المريني فما ذلك إلا بفضل العناصر الأندلسية التي هاجرت إلى المغرب، بحيث أصبح المغاربة منذ عهد الوطاسيين عالة في كثير من الفنون والحرف على الأندلس، ومع ذلك فإن الفن المغربي الذي نشطت مقوماته العمرانية ظل محتفظا بجودته النادرة رغما عن انعدام الفخامة في مجاليه، ذلك أن وفرة الزخرفة وثراءها وروعتها انتظمت في إطار من الوضوح والدقة لا غبار عليه". انتهى باختصار.

 

قلت: وبرحلة بين قصور فاس، وصالوناتها "مضافاتها" الواسعة، وما تضمنته من أجنة وسقايات، ورياض مملوءة بالأزهار من كل الأنواع، وأنواع الشجر المثمرة وغير المثمرة، وما اتسمت به حدائقها – كجنان السبيل مثلا، والتي اعتبرتها منظمة اليونسكو معلمة إنسانية – يجد التجانس والتشابه الكبير بينها وبين مثيلاتها في بلاد الأندلس، خاصة في قصر الحمراء بغرناطة، وقصور بني عباد بإشبيلية...وإن كان المغاربة – في الجملة – لا يحبذون تزويق المساجد، تورعا، ولما في ذلك من التشويش على المصلي وإشغال باله، خلافا لما يرى في مساجد الأندلس – كجامع قرطبة مثلا – من التفنن في الفسيفساء، والألوان الجميلة، والسواري الرخامية الرفيعة، والأقواس الباهرة.

 

-يتبع-

الحلقة الأولى هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين