أمير المؤمنين في الحديث  -6-

 

المنهج الخلقي عند الثوري

لقد حاولَ الفلاسفةُ العقليون أن يرسموا للأخلاق منهجاً، وأن يُقَعِّدوا لها قواعد وأن يضعوا لها موضوعاً يلتزم، وبدأو مُنفصلين عن الدين يتساءلون عن أهداف الإنسان من سلوكه، وأجمعوا على أنَّ هدف الإنسان من سلوكه إنَّما هو السعادة، ثم اختلفوا طرائق ومذاهب في:

1 ـ تحديد السعادة.

2ـ الطريق الموصل إليها.

وكان سقراط ـ في التاريخ الواضح ـ من أوائل العقليين الذين بدأوا في تحديد السعادة وفي رسم الطريق الموصل إليها: إنَّها الرضا، والرضا يتأتَّى من تحديد الرغبات بحيث لا يَرغب الإنسان إلا فيما يستطيعه.

لماذا يشقى الإنسان؟ لأنَّ له رغبة لم يحققها، فإذا حدَّد كل إنسان آماله ومطامحه ورغباته بحسب استطاعته بحيث لا تتعداها عاشَ سعيداً.

وأخفقَ مذهب سقراط حتى عند أخصِّ تلاميذه ـ أفلاطون ـ فقد رسمَ مذهباً للسعادة والسلوك غير مذهب أستاذه، بل رسمَ عدَّة مذاهب حسب تطوره الفكري الذي استمرَّ طيلة حياته في صيرورة مُتتابعة لا تستقر على رأي، ولو طال به الزمن لرسم مَذاهب أخرى غير التي نعرفها عنه.

وأخفقت جميعُ مذاهب أفلاطون في النظرة الفاحصة لتلميذه ـ أرسطو ـ فقد حاول أن يَرسم أيضاً مذهباً للفضيلة ومَنهجاً للسلوك من أجل الوصول إلى السعادة، وأخفق مذهبه إخفاقاً بَيِّناً. وهكذا إلى الآن كلما جاء فيلسوف عقلي بنى للفلسفة مذهباً أخلاقياً يرى أنَّه كفيل بسعادة الإنسان فرداً، والسعادة الإنسانيَّة جماعة أو جماعات.

بيد أنَّ هذه المذاهب لم تصلْ بالأفراد ولا بالإنسانية إلى السعادة، ولعل الكثيرين ممن يُعالجون هذه الموضوعات يشعرون بالشقاء أكثر من غيرهم. وإذا كانت المذاهب العقلية قد أخفقتْ في رَسْمِ طريق السعادة فإنَّ أهل الإيمان الصادق الذين حقَّقوا إيمانهم سعدوا في حياتهم وعَبَّروا عن هذه السعادة بقولهم مثلاً: نحن في لذَّة لو عَلِمَها الملوك لجالدونا عليها بسيوفهم.

وذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى ـ وهو أحكم الحكماء ـ قد حدَّد السعادة وحدَّد الطريق إليها، وضمن لمن اتبع الطريق وسَلَك سبيلَه واستقام على صراطه... ضمنَ له السعادة في هذه الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة، قال الله تعالى: [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {النحل:97}.

وقال أيضا: [أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {يونس:64}.

وقال أيضا: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] {فصِّلت:30} .

واستجابَ قوم للدعوة إلى ما يحييهم حياةً طيبة فحقَّقوا الرضا والسكينة والطمأنينة.

والرضا، والسكينة، والطمأنينة، والحياة الطيبة، وعدم الخوف، وعدم الفزع، وعدم الحزن، والأمن... كل هذه معاني ضَمِنَها الله لمن حَقَّق له العبودية الصادقة.

وأراد سفيان الثوري أن تَسير الأمَّة إلى الهدى، وأن تسلك سبيل الله فيتحقَّق لكل إنسان قسطٌ من السعادة بقدر ما يُحقق من خطوات في الطريق.

واستمرَّ سفيانُ طيلة حياته يبشِّر بالفضيلة وبالتقوى ويدعو إلى الخير مُلتزماً في كل ذلك السَّنَنَ الديني المستقيم. لقد كان يُبَشِّر بذلك في كلماته وفي مواعظه وفي نصائحه وفي خِطاباته، وكان يُبشِّر بذلك بسلوكه المهتدي تطبيقاً صادقاً.

وأجمعُ وصاياه تعبيراً عن منهجه ما أوصى به علياً بن الحسن السلمي فقال: 

(عليك بالصدق في المواطن كلها، وإياك والكذب والخيانة ومجالسة أصحابها فإنها وزر كله، وإياك يا أخي والرياء في القول والعمل فإنَّه شرك بعينه، وإياك والعُجْبَ فإنَّ العملَ الصالح لا يُرفع وفيه عُجْبٌ، ولا تأخذنَّ دينَك إلا ممن هو مشفقٌ على دينه فإن مثل الذي هو غير مُشفق على دينه كمثل طبيب به داء لا يستطيع أن يُعالج داءَ نفسه، ويا أخي إنما دينك لحمك و دمك، ابكِ على نفسك، وارحمها فإن أنت لم ترحمها لم تُرحم. وليكن جليسُك من يُزهِّدك في الدنيا ويُرَغِّبك في الآخرة، وإياك ومجالسةَ أهل الدنيا الذي يخوضون في حديث الدنيا فإنَّهم يفسدون عليك دينَك وقلبك. وأكثرْ ذِكَرَ الموت، وأكثر الاستغفار مما قد سَلَفَ من ذنوبك، وَسَل الله السلامةَ لما بَقي من عُمُرك.

ثم عليك يا أخي بأدب حَسَن، وخُلُق حسن، ولا تخالفن الجماعة فإنَّ الخير فيها إلا من هو مُكبٌّ على الدنيا كالذي يَعْمُر بَيتاً ويخرِّبُ آخر، وانصح لكل مؤمن إذا سألك في أمر دينه، ولا تكتمن أحداً من النصيحة شيئاً إذا شاورك فيما كان لله فيه رضاً.

وإياك أن تخونَ مؤمناً، فمن خان مُؤمناً فقد خانَ الله ورسوله، وإذا أحببت أخاك في الله فابذل له نفسك ومالك، وإياك والخصومات والجدال والمراء فإنك تصير ظَلوماً خوَّاناً أثيماً. وعليك بالصبر في المواطن كلها، فإنَّ الصبر يجرُّ إلى البرِّ، والبر يجرُّ إلى الجنَّة، وإياك والحدَّة والغضب فإنَّهما يجرَّان إلى الفُجور والفجور يجرُّ إلى النَّار، ولا تمارين عالماً، وإنَّ الاختلاف إلى العلماء رحمة، والانقطاع عنهم سخط الرحمن.

وعليك بالورع يخفِّف الله حسابَك، ودعْ كَثيراً مما يَرِيبك إلى ما لا يَرِيبك تسكن، وإنَّ لله عليك حقوقاً وشروطاً كثيرة يَنبغي أن تؤدِّيَها ولا تكونن غافلاً عنها فإنَّه ليس يغفل عنك وأنت مُحاسب بها يوم القيامة. 

وإذا أردتَ أمراً من أُمور الدنيا فعليكَ بالتُّؤَدة، فإن رأيتَه مُوافقاً لأمر آخرتك فخذه وإلا فقفْ عنه واسأل اللهَ العافية. 

وإذا هممتَ بأمرٍ من أمور الآخرة فشمِّر إليها وأسرع من قبل أن يحول بينها وبينك الشيطان، ولا تكونن أكولاً لا يعمل بقدر ما يأكل فإنَّه يُكره لك، ولا تأكل بغير نيَّة ولا بغير شهوة، ولا تحشون بطنَك فتقع جِيفة لا تذكر الله، وإياك والطمع فيما في أيدي الناس؛ فإنَّ الطمع هلاكُ الدِّين، وإياك والحرص على الدنيا؛ فإنَّ الحرص مما يَفضح الناس يوم القيامة. 

وكن طاهرَ القلب نقي الجَسَد من الذنوب والخطايا، نَقِيَّ اليد من المظالم، سليمَ القلب من الغشِّ والمكرِ والخيانة، خالي البطن من الحَرَام، فإنَّه لا يدخل الجنَّة لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ. 

كفَّ بصرَك عن الناس، ولا تمشين بغير حاجة، ولا تَكَلَمَنَّ بغير حكم، ولا تبطش بيدك إلى ما ليس لك، وكن خائفاً حَزيناً لما بقي من عُمُرِك لا تدري ما يحدث فيه من أمر دينك.

أَقِلْ العَثْرة، واقبلْ المعذرةَ، واغفرْ الذنب، وكن ممن يُرجَى خَيرُه ويؤمنُ شرُّه، لا تبغض أحداً ممن يُطيع الله، وكن رحيماً للعامَّة والخاصَّة، ولا تقطع رحمك، وصلْ من قَطَعك، وصلْ رَحِمَك وإن قطعك، وتجاوز عمن ظلمك تكن رفيق الأنبياء والشهداء.

وعليك باللباس الخشن تجدْ حَلاوة الإيمان، وعليكَ بقلَّة الأكل تملك سهر الليل، وعليك بالصوم فإنَّه يسد عنك بابَ الفجور ويفتح عليك باب العبادة، وعليك بقلَّة الكلام يَلِنْ قَلبُك، وعليك بطول الصمت تملك الورع، ولا تكونن حريصاً على الدنيا، ولا تكن حاسداً تكن سريع الفهم، ولا تكن طعَّاناً تنجُ من ألسنة الناس.

وكنْ رحيماً تكن محبباً إلى الناس، وارضَ بما قَسَمَ الله لك من الرزق تكن غنياً، وتوكَّلْ على الله تكن قوياً، ولا تنازعْ أهلَ الدنيا في دنياهم يحبُّك الله ويحبك أهلُ الأرض، وكن مُتواضعاً تستكملْ أعمال البر، اعملْ بالعافية تأتك العافية من فوقك. كن عفواً تظفرْ بحاجتك، كن رحيماً يترحَّم عليكَ كلُّ شيء.

يا أخي: لا تَدَعْ أيَّامَك ولياليك وساعاتك تمرُّ عليكَ بَاطلاً، وقدِّم من نفسك لنفسك ليوم العَطَش، يا أخي فإنَّك لا تَرْوَى يومَ القيامة إلا بالرضا من الرحمن، ولا تدركْ رضوانه إلا بطاعته، وأكثرْ من النَّوافل تُقرِّبْك إلى الله، واجتنب المحارِمَ كلَّها تجدْ حلاوةَ الإيمان.

جالسْ أهلَ الورع وأهلَ التقى يَصلح أمرُ دينك، وشاورْ في أمر دينك الذين يخشون الله وسارعْ في الخيرات يَحُل الله بينك وبين المعصية، وعليك بكثرة ذكر الله يُزهِّدك اللهُ في الدنيا، وعليك بذكرِ الموت يُهَوِّن الله عليك أمرَ الدنيا، واشتقْ إلى الجنَّة يوفِّق الله لك الطاعة، وأشفقْ من النار يُهَوِّن الله عليك المصائب.

أَحِبَّ أهلَ الجنة، تكن معهم يومَ القيامة وأبغضْ أهلَ المعاصي يحبك الله، والمؤمنون شهودُ الله في الأرضِ، ولا تسبنَّ أحداً من المؤمنين ولا تحقرنَّ شيئاً من المعروف.

وانظر يا أخي: أن يكونَ أولُ أمرك تقوى الله في السرِّ والعلانية، واخشَ الله خشيةَ من قد عَلِمَ أنَّه مَيِّتٌ ومبعوث، ثم الحشر ثم الوقوف بين يدي الجبار عزَّ وجل، وتحاسب بعملك، ثمَّ المصير إلى إحدى الدارين إما جنَّة ناعمة خالدة وإما نار فيها ألوان العذاب مع خلود لا موتَ فيه. وارجُ رجاءَ من علم أنَّه يعفو ويعاقب، وبالله التوفيق لا ربَّ غيرُه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر :مجلة الأزهر (السنة 42 ، محرم 1390هـ )، الجزء الأول.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين