المُحدِّث الفقيه:
قال شعبةُ وابن مَعِين وجماعة: سفيان أمير المؤمنين في الحديث. ويقول يحيي ابن يمان: ما رأىتُ مثلَ سفيان، ولا رأى سفيان مثله. كان سفيان في الحديث أمير المؤمنين، ومما يُفسِّر هذه الإمارة أنَّ يحيي بن يمان قال: كتبتُ عن سفيان عشرين ألفاً، وأخبرني الأشجعي أنَّه كتب عن سفيان ثلاثين ألفا وسمعت سفيانَ يقول: ما أُحَدِّث من كل عشرة بواحد، أي: أنَّ سفيان كان يحدِّث بأقل من عُشْرِ ما يحفظ.
ويتحدَّث ابنُ المبارك فيما يَروي عبد الرازق عن استفاضة سفيان في العلم وعن سعة دائرته في فنونه ولاسيما الحديث فيقول: أقعد إلى سفيان فيحدث فأقول ما بقي من علمه شيء إلا وقد سمعتُه، ثم أقعد مجلساً آخر فأقول: ما سمعتُ من علمه شيئاً.
ومن أجل هذه الاستفاضة التي شاهدها ابن المبارك كان يقول: لا أعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان، ويقول ابن المبارك أيضاً: كتبت عن ألف ومائة شيخ وما فيهم أفضل من سفيان.
ولا يكاد ابن المبارك يملُّ الحديث عن سفيان، إنَّه يقول أيضا: ما رأىتُ مثل سفيان كأنَّه خُلِقَ لهذا الشأن، وقال أيضاً: «كنت إذا أعياني الشيء أتيت سفيان أسأله فكأنما أغترف من بحر». وكان سفيان يفتن كل من يتصل به عن مشاهدة أو عن دراسة لتاريخه وسيرته، كان يَبْهره بعلمه وكان يَبْهره بحفظه للحديث وكان يبهره بصلاحه وتقواه، وكان يَبْهره بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وكان يبهره بعفَّة نفسه عن كل ما فيه شُبهة، يتحدَّث عنه وكيع فيقول: كان بحراً، ويتحدث عنه الإمام حمَّاد فيقول: لم يتقدمه في قلبي أحد، ويعجب الإمام أحمد بن حنبل من سفيان أنه كان إذا قيل له: إنه رؤي في المنام قال: أنا أعرف بنفسي من أصحاب المنامات.
ويقول أبو أسامة فيما يروي ابن الجوزي: من أخبرك أنَّه رأى بعينيه مثل سفيان فلا تصدقه.
وإذا كانت المقادير قد هيَّأت سفيان للعلم على وجه العموم فإنها هيَّأته على الخصوص ليكون مُحدِّثاً، وذلك بسبب هذه الذاكرة التي كانت من القوَّة بحيث لا يندُّ عنها شيء، يحدث يحيي بن يمان فيقول: سمعت سفيان الثوري يقول: ما استودعتُ أذني شيئاً قط إلا حفظته حتى إني أمرُّ بكذا -كلمة قالها- فأسد أذني مخافةَ أن أحفظ ما يقول.
ووثق الناس بسفيان الثوري في الحديث لصفات تحلَّى بها، لقد وثقوا به في الحديث لأنَّه لم يكن يُريد به إلا وجه الله والدار الآخرة.
لقد حدث محمد بن يوسف الغريابي قال: سمعتُ الثوري يقول: ما من عمل أفضل من طلب الحديث إذا صَحَّت النيَّة فيه. قال أحمد: قلت للغريابي: وأي شيء النيَّة؟ قال: تُريد به وجهَ الله والدار الآخرة، ولقد كان سفيان معنياً عناية فائقةً بمسألة النيَّة الخالصة. إنَّه يقول: لو أني أعلم أنَّ أحداً يطلب الحديث بنيَّة لأتيته في منزله حتى أحدثه. وكان بسفيان هُيَامٌ بالحديث، لقد كان محباً، لقد كان عاشقاً.
يصفُ شيئاً من ذلك عبد الرحمن بن مهدي، فيقول: كنا نكون عند سفيان الثوري فكأنَّه قد أُوقِفَ للحساب فلا نجترئ أن نُكَلِّمه فنعرض بذكر الحديث فيذهب ذلك الخشوع فإنما هو: حدثنا، وحدثنا.
ويقول سفيان: يَنبغي للرجل أن يُكرِه وَلده على طلبِ الحديث فإنَّه مسؤول عنه، وينصح الناس قائلاً: أكثروا من الأحاديث فإنَّها سِلاحٌ، ويتَّجه إلى الشباب الذي كان دائماً يَنتظره بالقرب من بَيته فيقولُ لهم: يَا مَعْشَر الشباب تعجَّلوا بركة هذا العلم فإنَّكم لا تدرون، لعلكم لا تبلغون ما تُؤمِّلون منه ليفد بعضكم بعضاً. ويتبيَّن الإنسان مدى حُبِّ سفيان للحديث مما حَدَّث به يحيي بن يمان قال: سمعتُ سفيان يقول: لو لم يَأتني أصحابُ الحديث لأَتَيتُهم في بيوتهم.
وكما كان سفيانُ مَعْنياً بإذاعة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنَّه كان مَعْنياً بطلاب الحديث أنفسِهم، فقد كان ينصحُ طلاب الحديث دائما بأن يبدأوا بتعلُّم الأدب وأن يتعبَّدوا حتى إذا استقامَ بهم الطريق في الأدب والعبادة أملى عليهم الحديث.
يحدِّث أبو عاصم كما يَروي صاحب الحِلْية أنَّه سمع سفيان الثوري يقول: «كان الرجلُ إذا أراد أن يكتبَ الحديث تأدَّب وتعبَّد قبل ذلك، ويتحدَّث الثوري عن صاحب الحديث من ناحية المعيشة فيقول: يعجبني أن يكون صاحبُ الحديث مَكْفيَّاً، فإنَّ الآفاتِ إليهم أسرع وألسنة الناس عليهم أسرع.
ويتحدَّث عن أصحاب الحديث من حيث الأمانة في النقل: روى عبد الله بن عبد الرحمن قال: قال سفيان الثوري: مَن كذبَ سقطَ حَديثُه. قال وسمعتُه يقول: قال وكيع: هذه بِضَاعة لا يَرتفع فيها إلا صادق.
ولما تحلَّى به سفيان من صفات تتناسب مع حامل الحديث قدَّره الناس في صورة كريمة حقاً، ويعبر عن ذلك ما قاله عبد الله بن داود الخريبي: ما رأىت محدثاً أفضل من سفيان الثوري. ويقول أبو بكر بن عباس: إني لأرى الرجل يحدِّث عن سفيان فينبل في عيني. ومن أطرف ما يروى في ذلك أنَّ يحيي بن سعيد قال: ما كتبتُ عن سفيان عن الأعمش أحب إلي ما سمعت من الأعمش.
ولقد وَازَنَ كثيرٌ من الناس بينَ سفيان وغيره، ونقتصر هنا من هذه الموازنات على ما حدَّث به إسحاق بن راهويه قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي ذكر سفيان وشعبة ومالكاً وابنَ المبارك فقال: أعلمهم بالعلم سفيان. وقال إسحاق: وقال يحيي بن سعيد كان سفيان أبصر بالرجال من شعبة.
ومن طريفِ الآراء في الثقة بسفيان محدِّثاً ما يقوله يحيي بن سعيد: ليس أحد أحبَّ إليَّ من شعبة، ولا يَعْدِلُه أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان، وفي يومٍ من الأيام ذكر شعبةُ حديثاً عن إسحاق فقال رجل: إنَّ سفيان خالفك فيه، فقال شعبة: دعوه سفيان أحفظ مني.
وشعبةُ يقول في صَراحة الرجل الصادق: إذا خَالفني سفيانُ في الحديث فالحديث حَديثُه. يقول أبو نعيم: للإمام أبي عبد الله سفيان بن سعيد عن مَسَانيد الحديث ما لا يُضبط كثرةً سبق إلى جمع بعض حديثه الماضون من أسلافنا وعلمائهم.
هذا ما كان عن سفيان مُحَدِّثا. أما سفيانُ الفقيه فإنَّه اتخذ الخطَّة المثلى للفقيه وهي أن يكون محدثاً قبل أن يكون فَقِيهاً، والواقع أنَّ هذا الفَصْل الذي نلاحظه الآن بين الفقيه والمحدث فَصْلٌ مُصْطَنع وهو فصلٌ فيه انحراف، فالحديث الشريف هو من الضرورة بحيث يُعتبر أساساً لا بدَّ منه للفقيه.
وكما أنَّه لا بدَّ للبيت من أساس فإنَّه لا بد للفقيه من الحديث، لقد كان سفيانُ الثوري محدِّثاً قبل أن يكون فقيهاً ومن أجل ذلك فإنَّه كان فقيهاً مُوفَّقاً: ذلك أنه يشيع في فقهه دائما عبير النبوة ممثلاً في الأحاديث التي تُكَوِّن أركانَ فقهه.
وعن سفيان الفقيه يقول زائدة: كان سفيان أفقه الناس. ويحدث الغريابي فيقول: سمعتُ سفيان الثوري يقول: ما سألتُ أبا حَنيفة عن شيء قط، وربما لقيني فَسَألني.
ومن آراءِ الثوري عن صِلة الفقه بالآثار قوله:
«تعلَّموا هذه الآثار، فمن قَال برأيه فقلْ: رأيي مثل رأيك». ومن طريف آراء الثوري في الفقيه ما رواه ابن المبارك، سمعت سفيان الثوري يقول: ليس بفقيه من لم يعدَّ البلاءَ نعمةً، والرخاءَ مُصيبةً.
ويقول عبد الرحمن بن مهدي عن الفقهاء: أئمةُ الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحمَّاد بن زيد بالبصرة.
ولقد عَلَّمَ سفيانُ الناسَ سَعَة الصدر في الإفتاء، فقد كان يقول: إذا رأىتَ الرجلَ يعملُ العملَ الذي قد اختُلِفَ فيه وأنت ترى غيرَه فلا تنهه. وسفيان في ذلك حكيم كلَّ الحكمة فإنَّ الذي يحجِّرُ واسعاً لا يتمشَّى مع سماحة الإسلام.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر (السنة 41، رمضان1389هـ)، الجزء السابع.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول