أمير المؤمنين في الحديث 3

 

 

المُحدِّث الفقيه: 

قال شعبةُ وابن مَعِين وجماعة: سفيان‏ أمير المؤمنين في الحديث. ويقول يحيي‏ ابن يمان: ما رأىتُ مثلَ سفيان، ولا رأى‏ سفيان مثله. كان سفيان في الحديث أمير المؤمنين، ومما يُفسِّر هذه الإمارة أنَّ يحيي بن يمان قال: كتبتُ عن سفيان‏ عشرين ألفاً، وأخبرني الأشجعي أنَّه‏ كتب عن سفيان ثلاثين ألفا وسمعت‏ سفيانَ يقول: ما أُحَدِّث من كل عشرة بواحد، أي: أنَّ سفيان كان يحدِّث بأقل‏ من عُشْرِ ما يحفظ. 

ويتحدَّث ابنُ المبارك فيما يَروي‏ عبد الرازق عن استفاضة سفيان في العلم‏ وعن سعة دائرته في فنونه ولاسيما الحديث‏ فيقول: أقعد إلى سفيان فيحدث فأقول‏ ما بقي من علمه شي‏ء إلا وقد سمعتُه‏، ثم أقعد مجلساً آخر فأقول: ما سمعتُ من علمه شيئاً. 

ومن أجل هذه الاستفاضة التي شاهدها ابن المبارك كان يقول: لا أعلم على وجه‏ الأرض أعلم من سفيان، ويقول ابن المبارك‏ أيضاً: كتبت عن ألف ومائة شيخ وما فيهم‏ أفضل من سفيان. 

ولا يكاد ابن المبارك يملُّ الحديث عن‏ سفيان، إنَّه يقول أيضا: ما رأىتُ مثل‏ سفيان كأنَّه خُلِقَ لهذا الشأن، وقال‏ أيضاً: «كنت إذا أعياني الشيء أتيت‏ سفيان أسأله فكأنما أغترف من بحر». وكان سفيان يفتن كل من يتصل به عن‏ مشاهدة أو عن دراسة لتاريخه وسيرته، كان يَبْهره بعلمه وكان يَبْهره بحفظه للحديث‏ وكان يبهره بصلاحه وتقواه، وكان يَبْهره بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وكان‏ يبهره بعفَّة نفسه عن كل ما فيه شُبهة، يتحدَّث عنه وكيع فيقول: كان بحراً، ويتحدث عنه الإمام حمَّاد فيقول: لم يتقدمه‏ في قلبي أحد، ويعجب الإمام أحمد بن حنبل‏ من سفيان أنه كان إذا قيل له: إنه رؤي‏ في المنام قال: أنا أعرف بنفسي من أصحاب‏ المنامات. 

ويقول أبو أسامة فيما يروي ابن الجوزي: من أخبرك أنَّه رأى بعينيه مثل سفيان‏ فلا تصدقه. 

وإذا كانت المقادير قد هيَّأت سفيان‏ للعلم على وجه العموم فإنها هيَّأته على‏ الخصوص ليكون مُحدِّثاً، وذلك بسبب‏ هذه الذاكرة التي كانت من القوَّة بحيث‏ لا يندُّ عنها شيء، يحدث يحيي بن يمان‏ فيقول: سمعت سفيان الثوري يقول: ما استودعتُ أذني شيئاً قط إلا حفظته‏ حتى إني أمرُّ بكذا -كلمة قالها- فأسد أذني‏ مخافةَ أن أحفظ ما يقول. 

ووثق الناس بسفيان الثوري في الحديث‏ لصفات تحلَّى بها، لقد وثقوا به في‏ الحديث لأنَّه لم يكن يُريد به إلا وجه الله‏ والدار الآخرة. 

لقد حدث محمد بن يوسف الغريابي قال: سمعتُ الثوري يقول: ما من عمل أفضل‏ من طلب الحديث إذا صَحَّت النيَّة فيه. قال أحمد: قلت للغريابي: وأي شي‏ء النيَّة؟ قال: تُريد به وجهَ الله والدار الآخرة، ولقد كان سفيان معنياً عناية فائقةً بمسألة النيَّة الخالصة. إنَّه يقول: لو أني أعلم أنَّ أحداً يطلب الحديث بنيَّة لأتيته في منزله‏ حتى أحدثه. وكان بسفيان هُيَامٌ بالحديث، لقد كان محباً، لقد كان عاشقاً. 

يصفُ شيئاً من ذلك عبد الرحمن بن مهدي، فيقول: كنا نكون عند سفيان الثوري‏ فكأنَّه قد أُوقِفَ للحساب فلا نجترئ‏ أن نُكَلِّمه فنعرض بذكر الحديث‏ فيذهب ذلك الخشوع فإنما هو: حدثنا، وحدثنا. 

ويقول سفيان: يَنبغي للرجل أن يُكرِه وَلده على طلبِ الحديث فإنَّه مسؤول عنه، وينصح الناس قائلاً: أكثروا من الأحاديث‏ فإنَّها سِلاحٌ، ويتَّجه إلى الشباب الذي كان‏ دائماً يَنتظره بالقرب من بَيته فيقولُ لهم: يَا مَعْشَر الشباب تعجَّلوا بركة هذا العلم‏ فإنَّكم لا تدرون، لعلكم لا تبلغون‏ ما تُؤمِّلون منه ليفد بعضكم بعضاً. ويتبيَّن الإنسان مدى حُبِّ سفيان للحديث‏ مما حَدَّث به يحيي بن يمان قال: سمعتُ سفيان يقول: لو لم يَأتني أصحابُ الحديث‏ لأَتَيتُهم في بيوتهم. 

وكما كان سفيانُ مَعْنياً بإذاعة أحاديث‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنَّه كان مَعْنياً بطلاب الحديث أنفسِهم، فقد كان‏ ينصحُ طلاب الحديث دائما بأن يبدأوا بتعلُّم الأدب وأن يتعبَّدوا حتى إذا استقامَ‏ بهم الطريق في الأدب والعبادة أملى عليهم‏ الحديث. 

يحدِّث أبو عاصم كما يَروي صاحب الحِلْية أنَّه سمع سفيان الثوري يقول: «كان الرجلُ‏ إذا أراد أن يكتبَ الحديث تأدَّب وتعبَّد قبل‏ ذلك، ويتحدَّث الثوري عن صاحب الحديث‏ من ناحية المعيشة فيقول: يعجبني أن يكون‏ صاحبُ الحديث مَكْفيَّاً، فإنَّ الآفاتِ إليهم‏ أسرع وألسنة الناس عليهم أسرع. 

ويتحدَّث عن أصحاب الحديث من حيث‏ الأمانة في النقل: روى عبد الله بن عبد الرحمن‏ قال: قال سفيان الثوري: مَن كذبَ سقطَ حَديثُه. قال وسمعتُه يقول: قال وكيع: هذه بِضَاعة لا يَرتفع فيها إلا صادق. 

ولما تحلَّى به سفيان من صفات تتناسب مع‏ حامل الحديث قدَّره الناس في صورة كريمة حقاً، ويعبر عن ذلك ما قاله عبد الله بن داود الخريبي: ما رأىت محدثاً أفضل من سفيان‏ الثوري. ويقول أبو بكر بن عباس: إني‏ لأرى الرجل يحدِّث عن سفيان فينبل في عيني. ومن أطرف ما يروى في ذلك أنَّ يحيي بن‏ سعيد قال: ما كتبتُ عن سفيان عن الأعمش‏ أحب إلي ما سمعت من الأعمش. 

ولقد وَازَنَ كثيرٌ من الناس بينَ سفيان‏ وغيره، ونقتصر هنا من هذه الموازنات على‏ ما حدَّث به إسحاق بن راهويه قال: سمعت‏ عبد الرحمن بن مهدي ذكر سفيان وشعبة ومالكاً وابنَ المبارك فقال: أعلمهم بالعلم‏ سفيان. وقال إسحاق: وقال يحيي بن سعيد كان سفيان أبصر بالرجال من شعبة. 

ومن‏ طريفِ الآراء في الثقة بسفيان محدِّثاً ما يقوله‏ يحيي بن سعيد: ليس أحد أحبَّ إليَّ من شعبة، ولا يَعْدِلُه أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان، وفي يومٍ من الأيام ذكر شعبةُ حديثاً عن‏ إسحاق فقال رجل: إنَّ سفيان خالفك فيه،‏ فقال شعبة: دعوه سفيان أحفظ مني. 

وشعبةُ يقول في صَراحة الرجل الصادق: إذا خَالفني سفيانُ في الحديث فالحديث‏ حَديثُه. يقول أبو نعيم: للإمام أبي عبد الله‏ سفيان بن سعيد عن مَسَانيد الحديث ما لا يُضبط كثرةً سبق إلى جمع بعض حديثه‏ الماضون من أسلافنا وعلمائهم. 

هذا ما كان عن سفيان مُحَدِّثا. أما سفيانُ الفقيه فإنَّه اتخذ الخطَّة المثلى للفقيه وهي‏ أن يكون محدثاً قبل أن يكون فَقِيهاً، والواقع أنَّ هذا الفَصْل الذي نلاحظه الآن‏ بين الفقيه والمحدث فَصْلٌ مُصْطَنع وهو فصلٌ فيه انحراف، فالحديث الشريف هو من الضرورة بحيث يُعتبر أساساً لا بدَّ منه‏ للفقيه. 

وكما أنَّه لا بدَّ للبيت من أساس‏ فإنَّه لا بد للفقيه من الحديث، لقد كان‏ سفيانُ الثوري محدِّثاً قبل أن يكون فقيهاً ومن أجل ذلك فإنَّه كان فقيهاً مُوفَّقاً: ذلك‏ أنه يشيع في فقهه دائما عبير النبوة ممثلاً في الأحاديث التي تُكَوِّن أركانَ فقهه. 

وعن‏ سفيان الفقيه يقول زائدة: كان سفيان أفقه‏ الناس. ويحدث الغريابي فيقول: سمعتُ سفيان الثوري يقول: ما سألتُ أبا حَنيفة عن شي‏ء قط، وربما لقيني فَسَألني. 

ومن‏ آراءِ الثوري عن صِلة الفقه بالآثار قوله: 

«تعلَّموا هذه الآثار، فمن قَال برأيه فقلْ:‏ رأيي مثل رأيك». ومن طريف آراء الثوري في الفقيه ما رواه ابن المبارك، سمعت سفيان الثوري يقول: ليس بفقيه‏ من لم يعدَّ البلاءَ نعمةً، والرخاءَ مُصيبةً. 

ويقول عبد الرحمن بن مهدي عن الفقهاء: أئمةُ الناس في زمانهم أربعة: سفيان‏ الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحمَّاد بن زيد بالبصرة. 

ولقد عَلَّمَ سفيانُ الناسَ سَعَة الصدر في الإفتاء، فقد كان يقول: إذا رأىتَ الرجلَ يعملُ‏ العملَ الذي قد اختُلِفَ فيه وأنت ترى غيرَه‏ فلا تنهه. وسفيان في ذلك حكيم كلَّ الحكمة فإنَّ الذي يحجِّرُ واسعاً لا يتمشَّى مع‏ سماحة الإسلام. 

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة الأزهر (السنة 41، رمضان1389هـ)، الجزء السابع.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين