أمير المؤمنين في الحديث -2-

 

 

«لقد من الله على أهل الإسلام بسفيان الثوري» المعافى بن عمران

 

لقد أهَّلته المقادير لأن يكون مُحدِّثاً من كبار المُحدِّثين، وفقيهاً من كبار الفقهاء فاجتمع فيه ما اجتمع في الإمام مالك‏ رضي الله عنه: الحديث والفقه، وصاحب‏ الحديث لابدَّ له من ذاكرة قوية قوةً خارقة، ذاكرة كأنها آلة تَسجيل، وإلا لم يكن مُؤهَّلا لهذا الميدان، ولقد منحَ الله‏ سبحانه وتعالى سفيان ذاكرةً حافظة يصفها سفيان بقوله: ما استودعتُ قلبي شيئا قط‏ فَخَانني، ويقول ابن مهدي عنه: ما رأيتُ صاحبَ حديث أحفظَ من سفيان. ويصف‏ الأشجعي ذاكرةَ سفيان فيقول: دخلتُ مع الثوري على هشام بن عروة، فجعل‏ يسأل وهشام يحدثه، فلما فرغ؛ قال: أعيدها علىك؛ فأعادها علىه، وقام، ثم دخل أصحاب الحديث فطلبوا الإملاء. فقال هشام: احفظوا كما حَفِظَ صاحبُكم، قالوا: لا نَقْدِر. 

أمَّا يحيي بن سعيد القطان فإنَّه يقول: «ما رأيتُ أحفظَ من الثوري»؛ لقد كانت ذاكرة سفيان مُهيَّأة بالفطرة لكي‏ تجعل من سفيان إماماً من أئمة الحديث. ومع الذاكرة لابد للمحدِّث من ذكاء يتوقَّد. 

ولقد كان الثوري كما يقول ابن الجوزي:‏ «يتوقَّد ذكاء»حتى لقد أصبح نابهاً وهو في بواكير شَبابه، ويصفُ أبو المثنَّي شيئاً من نَبَاهته، ورِفْعَة شأنه في بواكير حياته‏ فيقول: «سمعتهم، بِمَرْو، يقولون: قد جاء الثوري، قد جاء الثوري، فخرجتُ أنظر إليه، فإذا هو غلامٌ قد بقل وجهُه» وبقل وجهه: يعني خرجت لحيته. وفي ذلك‏ يقول ابن الجوزي: صار إماماً مَنظورا إليه وهو شاب. ويحكي عن الوليد بن مسلم‏ قال: رأيتُ الثوري بمكة يُستفتى ولما يخط وجهه بعد وأبصر أبو إسحاق البيعي، سفيان مقبلاً فَتَلا قولَه تعالى: [وَآَتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا] {مريم:12}. يُشير بذلك إلى أنَّ الله‏ سبحانه وتعالى قد مَنحَ سفيان من الحكمة وهو ما يَزال في بواكير شَبابه. 

 

عن العلم:

ولكن سفيان لم يغترَّ بشُهْرَته، وإنما زادته هذه الشهرة محاسبةً لنفسه في علمه، وفي تقواه. وكان لابد أن يزداد كلَّ يومٍ علماً، ومن أن يكون من التقوى: بحيث تصبح‏ له سلوكاً وحالاً، وانغمسَ سفيان في العلم.  يقول مسكين بن بكير الحراني: سمعت‏ سفيان الثوري يقول: «لا نزالُ نتعلَّم ما وجدنا من يُعلِّمنا». ويقول سفيان: «الرجل إلى العلم‏ أحوج منه إلى الخبز واللحم». وليس عمل بعد الفرائض-فيما يروي‏ الثوري-أفضل من طلب العلم. 

ويرسم الثوري الخطوات التي تتبع‏ بالنسبة للعلم: يروي مُزاحم بن زفر هذه‏ الخطوات عن الثوري: «إنما هو طَلَبُه، ثم حِفْظه، ثم العمل به، ثم نَشْرُه» ولما سمع ذلك أبو بكر بن عباس‏ أخذ يقول لمزاحم: أعده عليَّ كيف قال؟. ويحدث المهدي أبو عبد الله فيقول: سمعت سفيان الثوري يقول: كان يُقال: أول العلم الصمت، والثاني الاستماع إليه‏ وحفظه، والثالث العمل به، والرابع‏ نشره وتعلىمه.

أما هدفُ العلم: فإنَّ سفيان كان يَستفيض فيه كلما وجد إلى ذلك‏ سبيلاً، ويروي فيه ما يحفظ من أحاديث. فعن سفيان عن محمد بن عمارة المدني‏ عن عبد الرحمن بن عبد الله عن رجلٍ ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعلَّم العلمَ ليماريَ به العلماء، أو يجاري به السفهاء، أو يتأكَّل به الناس، فالنار أولى به». 

ويحدث عبد الله بن داود فيقول: قال سفيان‏ الثوري: «إنما يُطلبُ العلم ليتقي الله به فمن ثم‏ فضل، فلولا ذلك لكان كسائر الأشياء». 

وعن أحمد بن يونس يقول سمعت‏ سفيان الثوري يقول: «ليس طلب العلم‏ فلان عن فلان، إنما طلبُ العلم الخشية لله عزَّ وجل». ويختصر سفيان أحياناً الهدف من العلم فيقول: «إنما فضل العلم‏ على غيره ليتقي الله به». ولقد سُئل سفيان‏ الثوري: طلب العلم أحب إليك يا أبا عبد الله‏ أو العمل؟ فقال: «إنما يراد العلم للعمل، لا تدعْ طلبَ العلمِ للعمل، ولا تدع العمل لطلب‏ العلم»، ويتجه سفيان إلى العلماء فيقول لهم: «الأعمال السيئة داء، والعلماء دواء، فإذا فسد العلماء؛ فمن يشفي الداء؟». 

ويقول لهم: «زَيِّنوا العلمَ بأنفسكم، ولا تَزيَّنوا بالعلم». وكان الثوري إذا لقي شيخاً سأله: «هل‏ سمعتَ من العلم شيئا؟ فإن قال: لا. قال: لا جزاك الله عن الإسلام خيراً». ويتجه إلى الشباب من العرب فيقول: «اطلبوا العلم ويحكم، فإني أخافُ أن‏ يخرجَ منكم، فيصير في غيركم، اطلبوه‏ ويحكم، فإنَّه عِزٌّ وشَرَف في الدنيا والآخرة».

وأخذت الأيام تسير بسفيان، وأخذت‏ شهرته مع الأيام تزداد، وإذا به يبلغ حداً من النُّضْج ومن العلم يعزُّ على من رَامَه‏ ويطول، فيذاع اسمه في ربوع الإسلام، ويقدره الناس أينما حلَّ، يقدرونه لتقواه، ويقدرونه لعلمه، ويقدرونه لخلقه الصلب‏ في الله؛ ويقدرونه لزهده ويقدرونه‏ لفضائل أخرى كثيرة. 

بل لقد أخذ الناسُ يَعُدُّون مَنَاقبه؛ ومن ذلك مثلاً ما رواه شعيب بن حرب؛ قال: ذكروا سفيان الثوري عند عاصم‏ بن محمد؛ فذكروا مَنَاقبه حتى عدوا خمس عشرة مَنْقبة؛ فقال: فرغتم؟ إني‏ لأعرف فيه فضيلة أفضل من هذه كلها: سلامة صدره لأصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ وهذه‏ الصفة التي ذكرها عاصم بن محمد لها قيمتها الكبرى في كل زمن؛ وخصوصاً عند ما يحاول الضالُّون المنحرفون أن يحطُّوا من‏ شأن بعضهم، وأن ينزلوا بقيمهم، وهم الذين‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: «أصحابي‏ كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم». ويعدُّ ابنُ المبارك بعضَ ما تحلَّى به سفيان فيقول: تُعجبني مُجالسة سفيان الثوري؛ كنتَ إذا شئتَ رأيتَه في الورع؛ وإذا شئتَ رأيتَه مُصلياً؛ وإذا شئتَ رأيتَه غائصاً في الفقه؛ ويشبه هذا ما ذَكَره أحمد بن يونس؛ قال: ما رأيت أحداً أعلم من سفيان؛ ولا أورع من سفيان؛ ولا أفقه من سفيان؛ ولا أزهد من سفيان. 

وعن أيوب بن سويد قال: سمعتُ المثنى‏ ابن الصباح؛ وذكر سفيان الثوري فقال: عالم الأمة وعابدها وهو وصفٌ دقيق‏ لسفيان؛ في غاية الإيجاز، وعن علم سفيان‏ يقول أيوب بن سويد: ما سألنا سفيان‏ الثوري عن شي‏ء إلا وجدنا عنده أثراً مَاضياً؛ أو أثراً من عالمٍ قبله. 

ولقد وثق الناس بالثوري في الحديث‏ وغيره، يقول أبو أسامة: سفيان الثوري حجَّة. أما سفيانُ بنُ عيينة، وقد كان في زمن‏ سفيان الثوري، وكان عالماً ومحدثاً وفقيهاً فإنَّه يتحدث عن أئمَّة الناس النابهين إلى عصره، فيحصرهم في ثلاثة: أحدهم سفيان، إنَّه يقول: أئمة الناس ثلاثة بعد أصحاب‏ رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ابن عباس رضي الله عنهما في زمانه، والشعبي في زمانه، وسفيان الثوري في زمانه. وينتهي بشر بن الحارث في رأيه عن سفيان‏ بقوله: كان سفيان الثوري عندي إمام الناس. 

وقال الشيخ أبو نعيم رحمة الله تعالى عليه: «الإمام أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري‏ رحمة الله تعالى عليه، في غزارة علمه، ورواياته كالبحر الذي لا ينزف، والسيل‏ الذي لا يصرف، عدلنا عن ذكر شيوخه‏ إلى الاقتصار على طرف من رقائق حديثه». 

أما شيوخُه في العلم الذين عَدَلَ أبو نعيم‏ عن ذكرهم، فقد عدَّ منهم المؤرخون‏ كثيراً، منهم: عمرو بن مرَّة، وسلمة بن كهيل، وحبيب بن أبي ثابت، وعمرو بن دينار، وعبد الله بن دينار، وسعيد بن مسروق‏ والد سفيان، والأسود بن قيس، «وخلقٌ لا يُحصون» كما يقول ابن الجوزي. 

ويقولُ بعضُ المؤرِّخين: يقال إنَّه أخذ العلم عن ستمائة شيخ، وينتقد الذهبي ابن‏ الجوزي، ويرميه بالمبالغة؛ لأنَّه ذكر في‏ مَنَاقب الثوري، أَنَّه روى عن أكثر من‏ عشرين ألفاً، ويقول: وهذا مدفوع، بل‏ لعله روى عن نحو من ألف. 

أما عن تلاميذ الثوري فإنَّ ابن الجوزي‏ وغيره يعدون الكثير منهم بأسمائهم‏ وأحياناً بصفاتهم، وقد كان الناسُ يتسابقون إلى مجلسه في العلم، ويقفون‏ بباب داره مُنتظرين خُروجَه، وليس من‏ المُبَالغة إذن أن يقول ابن الجوزي عن‏ تلاميذ الثوري: «وقد حَدَّث عنه خلقٌ لا يُحصَون». ثمَّ يقول: وآخر ثقة روى عنه هو علي بن الجعد. 

 

تقديره:

قدَّر العلماءُ سفيانَ الثوري في حياته، وبعد مماته تَقْديراً جميلاً كريماً يستأهله‏ الرجلُ الذي وَهَبَ نَفْسه للعلم، فأبو نعيم‏ يفتتح الحديث عنه بقوله: ومنهم الإمام‏ المرضي، والورع الدري، أبو عبد الله سفيان‏ بن سعيد الثوري، رضي الله تعالى عنه. ولقد رأينا فيما مَضى كثيراً من تقدير العلماء له، وسنرى أيضا فيما بعد شيئاً من‏ ذلك.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة الأزهر (السنة 41، شعبان 1389هـ)، الجزء السادس.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين