أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري  -5-

 

 

التوحيد والإيمان عند الثوري

لقد حاول سفيانُ الثوري طيلة حياته‏ أن تستقيمَ الأمَّة الإسلامية على الطريق‏ الحق، طريق القرآن والسنة، الصراط المستقيم وكما كان يقوم من أجل ذلك‏ بتفسير القرآن ورواية الحديث وشرحه‏ فإنه كان يتحدَّث في التوحيد. ولقد كان سفيان كأمثاله من الإمام‏ مالك وغيره من أئمة الهدى سلفياً. والسلف رضوان الله عليهم لا يتعرضون‏ للمتشابه، والله سبحانه وتعالى يقول: 

[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ] {آل عمران:7} 

وإذا فسَّرنا المتشابه بهذا التفسير أو ذاك‏ فإنَّه مما لا شك فيه أن ما يعلو على مستوى‏ الفكر الإنساني وهو ذات الله من المتشابه، ولقد نهينا عن البحث فيها ونهينا عن البحث‏ أيضا في القدر؛ فالقدر من المتشابه أيضا، فالبحث إذن في الذات وفي القدر لا يجري وراءه إلا من في قلوبهم زيغ. 

وإذا ألغينا البحث في الذات وفي ا لقَدَر زالت الفِرَق التي نشأت بسبب البحث فيهما، وهي فرق المعتزلة وغيرها من الفِرَق التي‏ تكوَّنت حول البحث في الذات والبحث‏ في القدر. ومن جانب آخر إذا انتهينا من أن نجعل‏ للأشخاص شأناً في العقيدة-وهم ليس لهم‏ شأن فيها-انتهت الفِرَق التي تكوَّنت‏ حولهم؛ لأنَّ الأشخاص من حيث كونهم‏ أشخاص لا شأن لهم بالعقيدة، إنهم لا يكونون جزءا منها اللهم إلا الأنبياء باعتبارهم أنبياء ورسلاً. 

فإذا انتزعنا من البحث والجدل المتشابه‏ وانتزعنا الأشخاص، استقام الأمر-في جانب‏ من جوانبه-بين المسلمين، وهذا هو المذهب السلفي. ومذهب السلف الذي‏ كتب فيه الإمام الرازي كتابه: «أساس‏ التقديس»، وكتب فيه الإمام الغزالي كتابه«إلجام العوام»، والذي كتبَ فيه‏ فأجاد وأفاد الإمام السيوطي كتابه النفيس‏ «صون المنطق والكلام عن فني المنطق‏ والكلام» هو مذهب كل محب حقاً للتوفيق بين المذاهب. 

وفكرة التقريب بين المذاهب لا تقوم‏ للغاية المرجوة إلا إذا ألغينا الجدل في‏ المتشابه والجدل في الأشخاص، أي: أخرجنا من الدين ما ليس منه، ولقد فَرَّق البحثُ فيهما الأمَّةَ الإسلامية دون أن يكون‏ لذلك نتيجة سوي العداوة والبغضاء. وأسباب الفرقة في الأمة الإسلاميَّة من حيث العقيدة ترجع في كثير فيها إلى هذين السببين: المتشابه والأشخاص، فإذا أراد الشخص التقريب فعليه بإزالة الأسباب. 

ولقد حاول الإمامُ الأشعري التقريب بين‏ المذهب ولن يتأتى أن نجد مذهباً يفوق‏ المذهب الأشعري في ما وفق إليه من تقريب‏ هو في غاية الدقة وفي غاية النفاسة. 

لقد كان الإمامُ الأشعري غايةً في الذكاء بارعاً في مَنطقه، عالماً علماً، ولقد درس‏ مختلف المذاهب في دقَّة دقيقة ظهرت ظهوراً واضحاً جلياً في كتابه «مقالات الإسلاميين» ومع ما تحلى به من علم ومن إخلاص في نزعة التقريب، ومن لباقة وحكمة في عرض المذهب‏، فإنَّ مذهبه لم يوحِّد بين الأمة الإسلامية. 

وإنا ننصح مخلصين كل حريص على‏ وحدة الأمَّة الإسلاميَّة أن يتَّجه في صراحة إلى أسباب التفرُّق فيعمل على إزالتها. وإنَّ المذهب السلفي وحدَه هو المذهب‏ الذي صلح عليه أمر الأمة في أوائلها وعليه‏ يصلح إن شاء الله أمر الأمة الآن. ولقد كان الإمام الثوري سلفياً بمعنى‏ الكلمة، وسنشرح هنا بعض الزوايا -بعضها فقط-من آرائه: 

لقد سُئلَ: بم عرفتَ ربك؟ فقال: بفَسْخِ العَزْم ونَقْض الهمَّة. يريد الإمام الثوري أن يقول: إنَّ‏ الإنسان لا يقوم وحدَه دون مُهيمن ومُسيطر، بل ومتحكِّم، ولو قام وحدَه‏ لسار في طريقه دون فسخ للعزم، أو نقض‏ للهمَّة، ولكنه يشاهد طيلة حياته أنه‏ يعزم فيتفسخ عزمه، ويهمُّ أحيانا فتنتقض‏ همته لا لسبب منه وإنما لسبب من مُدبِّر قهَّار، لا يعلو على سلطانه سلطان ولا يسمو على تدبيره تدبير هو الله سبحانه وتعالى. 

أما عن الإيمان فإنَّ سفيان كان يرى كما يرى السلف أنَّه قول وتصديق وعمل، قال أبو بكر الحنفي: سمعت سفيان الثوري‏ يقول: «الصلاة والزكاة من الإيمان، والإيمان‏ يزيد والناس عندنا مؤمنون مسلمون، ولكن الإيمان مُتفاضل وجبريل أفضل‏ إيماناً منك». 

وعن أبي همام السكوني قال: حدثني أبي قال: سمعتُ سفيان يقول: «لا يستقيمُ قولٌ إلا بعمل، ولا يستقيم قول‏ وعمل إلا بنيَّة! ولا يستقيم قول وعمل‏ ونية إلا بموافقة السنَّة». ويصل الأمر بسفيان في هذا الصدد أن يسأله إبراهيمُ بن المغيرة قائلا: أأصلي خلف من يقول: الإيمان قول‏ بلا عمل؟ فيجيبه سفيان: لا، ولا كرامة. 

وكان سفيان كالسلف يؤمن بالقدر خيره وشره. لقد قال يوماً: أتدرون ما تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله؟ يقول: «لا يعطي أحدٌ إلا ما أعطيت، ولا يقي أحد إلا ما وقيت». لقد كان هذا قوله، وكان هذا حاله، يقول عطاء الخفاف: ما لقيت سفيان‏ الثوري إلا باكياً، فقلت: ما شأنك؟ قال: «أخاف أن أكونَ في أمِّ الكتاب‏ شقيا». ويروي محمد بن كثير عن سفيان: «ما أحبَّ الله عبداً فأبغضَه، وما أبغضه‏ فأحبَّه». وقال سفيان: «إذ أرادَ الله بعبدٍ خيرا أفرغ عليه السداد، وكنفه بالعصمة». 

أما موقف سفيان من المكذبين بالقدر فإنَّ أحمد بن عبد الله بن يونس قال: سمعت رجلاً يقول لسفيان: رجلٌ يكذب‏ بالقدر أصلي وراءه؟. قال: لا تقدموه. قال: هو إمام القرية ليس لهم إمام غيره. قال: لا تقدموه، لا تقدموه وجعل يصيح». 

وطريف ما يروى في ذلك عن سفيان‏ ما رواه محمود الدمشقي قال: جاء رجل إلى سفيان الثوري فشكا إليه مُصيبة أصابته. فقال له سفيان: ما كان بها أحد أهون علىك مني؟ قال‏ وكيف ذلك؟ قال: ما وجدت أحداً تشكو إليه غيري؟. قال: إنَّما أردتُ أن تدعو لي. فقال‏ له سفيان: أمُدبِّر أنت أم مُدَبَّر؟. قال: بل مُدبَّر. قال: فارضَ بما يُدَبَّر لك. 

ولقد شاعَ في عهد سفيان مذهبُ المُرْجِئَة وهو مذهب مُثَبِّط، ومن أجل ذلك حمل‏ عليه سفيان حملات عنيفة، فقد حدثنا الغرباني قال: سمعت سفيان يقول: ليس‏ أحدٌ أبعدَ من كتاب الله من المرجئة. 

وعن المؤمِّل بن إسماعيل يقول: قال‏ سفيان الثوري: خالفتنا المرجئة في ثلاث: نحن نقول الإيمان قول وعمل، وهم يقولون‏ الإيمان قولٌ بلا عمل. ونحن نقول يَزيد ويَنقص وهم يقولون لا يزيد ولا ينقص. ونحن نقول مؤمنون بالإقرار وهم يقولون‏ نحن مُؤمنون عند الله. 

وحدثنا غياث بن واقد قال: سمعتُ سفيان يقول: أرج كل شي‏ء مما لا تعلم إلى الله ولا تكن مُرجئاً، واعلم أنَّ ما أصابك‏ من الله ولا تكن قَدَرياً. قال: وسمعت‏ سفيان يقول: «لقد تركت المرجئة هذا الدين أرق من ثوب سابري» أي: ثوب شفَّاف. 

ولا يفوتنا هنا أن نُقدِّم نصاً مُعبِّراً رواه‏ الذهبي في التذكرة بإسناده عن شعيب‏ بن حرب، قال شعيب: قلت لسفيان‏ الثوري: حدثني بحديث في السنَّة ينفعني‏ الله به فإذا وقفت بين يديه وسألني عنه‏ قلت: يا رب: حدثني بهذا سفيان فأنجو أنا وتؤخذ. فقال: 

اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. القرآن كلامُ الله غيرُ مخلوق. منه بدأ وإليه يعود. من‏ قال غير هذا فهو كافر. والإيمان قولٌ وعملٌ ونيَّة يَزيد وينقص، وتقدمة الشَّيخين‏، إلى أن قال: يا شعيب، لا ينفعك ما كتبت حتى تَرى المسحَ على الخُفَّين، وحتى ترى أنَّ إخفاء «بسم الله الرحمن الرحيم» أفضل‏ من الجهر به، وحتى تؤمن بالقدر، وحتى ترى الصلاة خلفَ كلِّ بَرٍّ وفاجر، والجهاد مَاضٍ إلى يوم القيامة. والصبر تحت‏ لواء السلطان. 

فقلت: يا أبا عبد الله، الصلاة كلها؟ قال: لا، ولكن صلاة الجمعة العيدين، صلِّ خلف من أدركت، وأما سائر غير ذلك فأنت مُخَيَّرٌ، لا تصلِّ إلا خلفَ من‏ تثق به. وتعلم أنَّه من أهل السنة. 

إذا وقفتَ بين يدي الله فسألك عن هذا فقل: يا رب، حدثني بهذا سفيان الثوري‏ ثم خلِّ بيني وبين الله عز وجل. 

وخير مُعبِّر عن منهجه ذاك ما حدثنا به‏ يوسف بن أسباط قال: قال سفيان يا يوسف‏ إذا بلغك عن رجلٌ بالمشرق صاحبَ سنَّة فابعث إليه بالسلام، وإذا بلغك عن آخر بالمغرب صاحب سنة فابعث إليه بالسلام، فقد قلَّ أهلُ السنَّة والجماعة. 

وما رواه يحيي بن عُمر فقال: سمعت‏ سفيان الثوري يقول: من أصغى بسمعه‏ إلى صاحب بدعة وهو يعلم أنَّه صاحب‏ بدعة خرج من عصمة الله ووكل إلى نفسه. 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : مجلة الأزهر، (السنة 41، ذو الحجة 1389هـ )، الجزء العاشر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين