أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري -4-

 

سفيان الزاهد العابد: 

من دعاء أبي الحسن الشاذلي رضي الله‏ عنه: اللهم اجعل الدنيا في أيدينا، ولا تجعلها في قلوبنا. ومن دعائه أيضا: اللهم وسِّعْ‏ عليَّ رزقي في دنياي، ولا تحجبني بها عن أخراي. وهذا النسق من الاتصال بالدنيا هو النسق الصادق، وعلى هذا الهدي، وهو الهدي القرآني سارَ سفيانُ الثوري‏ في زهده. 

يروي بشرُ بن الحارث أنَّ سفيان‏ الثوري سئل: أيكون الرجل زاهداً ويكون له المال؟ قال: نعم. إن كان إذا ابتلي صَبَر وإذا أُعطي شكر. 

وأمر الزهد في الدنيا يَلتبس على كثير من الناس؛ يظنُّ بعضهم أنَّه التجرُّد من كل‏ شيء، والأمر ليس كذلك عند الصوفية، ولم يكن كذلك عند الصحابة فقد كان‏ أبو بكر رضي الله عنه صاحبَ تجارة وثَرَاء، وكان عثمان رضي الله عنه صاحبَ مال وثَرَاء، وكان ثراءُ عبد الرحمن بن عوف ثراءً عريضاً، وكانوا زهاداً، أي: أنَّ المال لم يكن يَستعبدهم‏ لقد ملكوا المال ولم يملكهم المال، وكانوا مُتحققين بقول الله تعالى: [لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {الحديد:23}.

وكان من المظاهر الجميلة في زُهدهم أنَّ‏ أبا بكرٍ رضي الله عنه جاءَ في يوم من الأيام‏ بماله كله مُتبرِّعاً به في سبيل الله. ولما قالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيتَ لعيالك؟ قال: أبقيت لهم اللهَ ورسولَه. 

ويأتي سيدُنا عثمان بمالٍ كثير فيضعه‏ في حجر الرسول صلى الله عليه وسلم مُتبرِّعاً به في سبيل‏ الله فَيُسَرُّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بكثرته التي‏ تدلُّ على سماحة سيدنا عثمان والتي ستيسر أمرَ تجهيزِ الجيش، ويضع صلوات الله وسلامه علىه يدَه في المال يجول بها فيه هنا وهناك‏، ويقول: (اللهم ارضَ عن عثمان فإني عنه‏ راض) ويجول بيده في المال مرةً أُخرى‏ ويقول: (ما على عثمان ما فعل بعد اليوم).  ويتبرَّع عبد الرحمن بن عَوف بقافلة ضَخْمة من الجمال تحمل بُراً وألوانا كثيرة من‏ الملبوس والمأكول يتبرَّع بالجمال وبما حملت‏ الجمال صدقةً لوجه الله لا يطلب علىها من‏ الناس جزاءً ولا شكوراً، لقد كانوا أثرياء وكانوا زهاداً. 

ومن طريفِ ما يُروى في ذلك ويوضِّحه‏ ما رواه ابن عطاء الله السكندري عن عارف بالله‏ من كبار الأثرياء ولكن الدنيا كانت في يده‏ لا في قلبه. يقول ابن عطاء الله: 

وقد يكون‏ حجاب الولي كثرة الغنى وانبساط الدنيا عليه، وقال بعض المشايخ: كان رجلٌ بالمغرب‏ من الزاهدين في الدنيا ومن أهل الجد والاجتهاد وكان عيشه مما يَصيده من البحر وكان الذي يصيده يتصدَّق ببعضه ويتقوَّت‏ يبعضه فأراد بعض أصحاب هذا الشيخ أن‏ يسافر إلى بلد من بلاد المغرب فقال له هذا الشيخ: إذا دخلتَ إلى بلد كذا. . فاذهب‏ إلى أخي فلان فأقرئه مني السلام واطلب الدعاء منه لي فإنَّه ولي من أولياء الله، فقال:  فسافرت حتى قدمت تلك البلدة وسألت‏ عن ذلك الرجل فدللت على دار لا تصلحُ إلا للملوك، فعجبت من ذلك وطلبته‏ فقيل لي: هو عند السلطان فازداد تعجبي‏ فبعد ساعة وإذا هو آت في أفخر ملبس‏ ومركب، وكأنما هو ملك في موكبه قال: فازداد تعجبي أكثر من الأول. قال: فهممتُ بالرجوع وعدم الاجتماع به ثم‏ قلت: لا يمكنني مخالفة الشيخ فاستأذنت‏ فأذن لي، فلما دخلت هَالني ما رأىت من‏ العبيدِ والخَدَم والشارة الحسنة فقلت له:  أخوك فلان... يسلم علىك؟ قال: جئتَ‏ من عنده؟ قلتُ: نعم. قال: إذا رجعتَ‏ إليه قل: إلى كم اشتغالك بالدنيا وإلى كم‏ إقبالك عليها، وإلى متى لا تنقطع رغبتُك‏ فيها. فقلت: هذا والله أعجب من الأول.  فلما رجعت إلى الشيخ قال: اجتمعت بأخي‏ فلان؟ قلت: نعم وأعدت عليه ما قال.  فبكي طويلا وقال: صدق أخي فلان...، هو غسل الله قلبه من الدنيا وجعلها في‏ يده وعلى ظاهره، وأنا أخذها من يدي‏ وعندي إليها بقايا التطلع!. 

ولقد كان سفيان يحثُّ على الكَسْبِ‏ ويدعو إلى الزهد، ومن حثِّه على الكسب  والعمل ما حدَّثَ به مبارك أبو حماد فقال:  سمعت سفيان يقول لعلي ابن الحسن‏ فيما يوصيه: يا أخي عليك بالكسب الطيِّب، وما تكسب بيدك، وإياك وأوساخ الناس أن‏ تأكله أو تلبسه، فإنَّ الذي يأكلُ أوساخ‏ الناس مثله مثل علىة لرجل وسفلة ليس له‏ فهولا يزال على خوف أن يقع سفله‏ وتتهدم علىته. 

فالذي يأكلُ أوساخ الناس هو يتكلم بهوى، ويتواضع للناس مخافة أن يُمسكوا عنه، ويا أخي إن تناولتَ من الناس شيئاً قطعتَ لسانك وأكرمتَ بعض الناس‏ وأهنتَ بعضهم مع ما يَنزل بكَ يوم القيامة؛ فإنَّ الذي يُعطيك شيئاً من ماله فإنَّما هو وسخه (وسخه أي: تطهير عمله من‏ الذنوب)، وإن أنت تناولتَ من الناس شيئا إن دعوك إلى مُنكر أجبتهم. 

وإنَّ الذي‏ يأكلُ أوساخ الناس كالرجل له شُركاء في‏ شي‏ء ينبغي أن يقاسمهم، يا أخي جوعٌ وقليلٌ‏ من العبادة خيرٌ من أن تشبع من أوساخ‏ الناس وكثير من العبادة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ثُمَّ يَغْدُوَ - أَحْسِبُهُ قَالَ: إِلَى الجَبَلِ - فَيَحْتَطِبَ، فَيَبِيعَ، فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ". [أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري]. 

وبلغنا أنَّ عمرَ بن الخطاب قال: (من عمل منكم حمدناه ومن لم يعمل‏ اتهمناه، وقال: يا معشر القرَّاء، ارفَعُوا رءوسَكم ولا تَزيدوا الخشوع على ما في‏ القلب، استبقوا في الخيرات ولا تكونوا عِيالاً على الناس فقد وضح الطريق). 

ويقول سفيان: (ليس الزهدُ في الدنيا بلبس الخشن‏ ولا أكل الخشن، إنما الزهد في الدنيا قِصَرُ الأمل). ويقول مرةً أخرى فيما رواه‏ وكيع: (الزهدُ في الدنيا قِصَرُ الأمل، ليس‏ بأكل الغليظ ولا لبس العبا). 

ومع هذا فإنَّ سفيان يَرى تَهافتَ الناس على الدنيا وذِلَّتهم في طلبها فيحاول‏ ما استطاع أن يَصْرِفَهم عن المهانةِ والذلَّة،  وأن يُبيِّنَ لهم خِسَّةَ هَؤلاء الذين يَذِلُّون‏ لشهواتهم ويذلون للأثرياء والأمراء والملوك. 

ونحن نذكر هنا بعض ما روي عنه في‏ ذلك ولكن لا يعزب عن ذهننا أنه يرى أنَّ الزهد لا يتنافي مع الثراء. 

وروى عبد الواحد عن سفيان قال: إنما هو اختيار أو اختبار أو عقوبة.  قال فحدثت به محموداً أو ناظرته فيه فقلت له:  الاختيار ينبغي أن ترضى به والاختبار ينبغي أن تصبر عليه والعقوبة ينبغي أن‏ تتوب منها. وعن يحيي بن يمان قال: كان الثوري‏ يتمثَّل بهذا البيت: 

باعوا جديداً جميلاً باقياً أبداً        بدارسٍ خَلِقٍ، يا بئسَ ما اتَّجروا

والدنيا في نظرِ سفيان تمثِّلُها هذه الرؤيا التي رواها إبراهيم بن سعد فقال: سمعتُ سفيان الثوري يقول: أخبرني‏ رجلٌ من الصالحين قال: رأىتُ في مَنَامي‏ عجوزاً شمطاء عليها من كل حلية فقلت: من أنت؟ فقالت: أنا الدنيا فقلتُ: أعوذُ بالله من شَرِّك. فقالت إن أردتَ أن يُعيذَك‏ الله من شري فأبغضْ الدنيا والدرهم. 

ومن مأثوراته: ما حدَّث به أبو مسلم‏ المستملي قال: «إذا زهدَ العبدُ في الدنيا أنبتَ اللهُ الحكمةَ في قلبه وأطلقَ بها لسانه، وبصَّره‏ عيوبَ الدنيا وداءها ودواءها». 

ومع كل ذلك وتمشياً مع المبدأ الإسلامي‏ وهو أنَّ الزهد معناه أن لا يُسيطر حبُّ‏ الدنيا على قلب الشخص، وأن لا تستعبدَ الدنيا الإنسان، وأنَّ الإنسان يصح أن‏ يكون من أصحاب الثراء وهو مع ذلك‏ زاهد؛ لأنَّه يتحقق بقوله تعالى: [لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {الحديد:23}.

نقول: إنَّ الثوري لم يكن مُتزمِّتاً في‏ مأكلٍ ولا ملبس، قال وكيع: رؤي‏ سفيان الثوري يأكل الطباهج، وقال: إني‏ لم أنهكم عن الأكلِ ولكن انظر من‏ أين تأكل، وارتحل وانظر على ما تدخل‏ وتكلَّم وانظر كيف تتكلم، كيف أنهاكم‏ عن الأكل، والله سبحانه وتعالى يقول:  [يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ] {الأعراف:31} .

وأما عبادة سفيان الثوري فيقول فيها مؤمل: ما رأىت عالماً يعمل بعلمه إلا سفيان‏. وقال أبو أسامة: ما رأىتُ أحداً أخوفَ لله تعالى من سفيان، وقرأ سفيان:   [قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ] {الطُّور:26}، فخرجَ‏ فاراً على وَجْهِه حتى لحقوه، واجتمعت بنو ثور على سفيان وهو شاب يُناشدونه مما كان‏ فيه من العبادة، أي أقصر عن هذا». 

ومن العبادة الذكر والدعاء:

روى سفيان الثوري عن إسماعيل بن‏ أبي خالد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي الصَّلَاةِ أَنْ أَقُولَ قَالَ: قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لِلَّهِ، فَمَا لِي أَنْ أَقُولَ؟ قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي. فَلَمَّا أَنْ وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّ هَذَا قَدْ أَصَابَ الْخَيْرَ كُلَّهُ. أَوْ: عَلِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ. 

وحدَّث محمد بن يزيد بن خنيس قال: كان سفيانُ الثوري يقول كثيراً: «اللهمَّ أبرم لهذه الأمَّة أمراً رشيداً يعزُّ فيه وليُّك، ويذلُّ فيه عدوك، ويعمل‏ فيه بطاعتك ورضاك».  

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر : مجلة الأزهر، (السنة 41، ذو القعدة 1389هـ) الجزء التاسع.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين