أمير البيان شكيب أرسلان

 

الشاهد العدل على تحولات الزمن الصعب

أصعب المراحل التي تمر بها الأمم هي مراحل التحولات التاريخية الكبرى التي تعتبر مفصلية في حياة الشعوب حيث تنتقل بها من طور إلى طور. في هذه المراحل تكثر الآراء والتحليلات، بل وتكثر قراءة الأحداث وفق وجهات النظر المتصارعة، فتجد للحادثة الواحدة تأويلات متناقضة من الصعب التوفيق بينها. من هنا تبرز الحاجة إلى قراءة ما بين السطور، وتفلية الأخبار ظاهرا وباطنا وتعريتها من الأهواء وصولا إلى أقرب قول للحقيقة. هذه العملية تحتاج إلى عقلية علمية مستقرئة متجردة واعية، ولا يمكن أن توجد مثل هذه العقلية مع الأحكام المسبقة والتعامل مع الحقائق على طريقة الكلمات المتقاطعة التي يسعى فيها المتعامل مع الأحداث إلى اختيار ما يناسبه ليملأ فراغا يختاره.

من الشخصيات النادرة التي تتحلى بهذه العقلية فيما قرأته حول التحولات الكبرى للعالم العربي من أواخر القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين شخصيتان أساسيتان: إحداهما المؤرخ الكبير الأستاذ أسد رستم (ت 1965)، وكتابه (مصطلح التاريخ) يشهد على عقله العلمي المتجرد، والشخصية الثانية أمير البيان شكيب أرسلان (ت 1946)، والذي سيكون لنا معه هنا وقفة حول شهاداته التاريخية.

نهضة العرب العلمية

في العام 1937، وفي محاضرة له في المجمع العلمي في دمشق بعنوان (نهضة العرب العلمية في القرن الأخير)، قدم أمير البيان شكيب أرسلان رحمه الله تعالى مطالعة تاريخية استقرأ فيها معالم النهضة في كل مناحي الحياة: الصحفية، والأدبية، والعلمية، والدينية التي تمثلت يومها بالأزهر الشريف وجامعة الزيتونة، وجامعة القرويين، والجامع الأموي في دمشق، إضافة إلى الحركات الدينية الإصلاحية، وذكر منها الحركة الوهابية، ودافع عنها مفندا ما اتهمت به ومبيِّنًا أنها لا تخرج عن دائرة الإصلاح من وجهة نظره.

والحقيقة أن هذه المحاضرة التي نشرت ضمن كتاب جمع مقالاته ومحاضراته تحت عنوان (مقالات للمستقبل)، ونشرته الدار القومية في أيلول ٢٠١٠ ، تعتبر وثيقة مهمة شاهدة على مرحلة النهوض الحضاري في الشرق بُعَيد سقوط الدولة العثمانية ونشوء الفكر القومي، وتنامي الشعور الوطني، بل كل ما حواه هذا الكتاب يعتبر وثائق مهمة حول التحولات التي شهدها الشرق العربي والإسلامي بعامة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حتى الحرب الكونية الثانية.

الشاهد المرغوب عن شهادته

وبرأيي أن أمير البيان شكيب أرسلان لم يحظ حتى الآن بالدراسات التي تنصفه كما ينبغي، والتي تظهر موسوعيته العلمية والأدبية والتاريخية، إلى جانب حنكته السياسية وجهاده في سبيل قضايا أمته. فهو كان مثالا للمصلح العليم الواعي المدرك لمشكلات أمته وللمؤامرات التي تحاك ضدها، وكان لا يترك فرصة يمكنه من خلالها أن يقدم لأمته عملا أو نصيحة إلا ابتهلها باذلا من جاهه العلمي والسياسي، ومستغلا موقعه المهم عند الباب العالي لخدمة قضايا أمته بصدق وتجرد. حتى لو كانت تلك الخدمات تعرضه لسخط حكام الولايات فيما كان يراه خروجًا من قبل ولاة المناطق، وبخاصة والي دمشق يومها جمال باشا، عن النظام العام. وغالبًا ما كان يؤدي تدخله إلى كسر قرار الحاكم جمال باشا بأمر من الباب العالي، الأمر الذي أوغر صدر جمال باشا عليه، لكنه ما كان يبالي وإنما كان همه خدمة بلده ودينه وأمته، بل حتى خدمة الدولة التركية بحمايتها من أخطاء ولاتها..

المجاعة في بلاد الشام والعراق

والحقيقة أن الكتاب (مقالات للمستقبل) حوى حقائق تاريخية، وشهادات معاصرة، تبطل كثيرا من المزاعم التي أطلقت حول تلك الفترة، وعلى الخصوص حول دور الدولة التركية يومها فيما بات يعرف بالمجاعة أثناء الحرب العالمية الأولى، وعن الدور التركي فيها، وعلى الخصوص دور جمال باشا (السفاح) في محاصرة المدن اللبنانية ومصادرة الغلال، كما كنا نقرأه ونحفظه من خلال ما درسناه في مناهج التاريخ، وشاهدناه في المسلسلات والأفلام المصنوعة عن تلك الفترة، والتي صورت لنا أن المجاعة سببها الترك، فنجد في هذا الكتاب فصلا كاملا تحت عنوان (المجاعة في سورية أثناء الحرب ومن هم المسؤولون الحقيقيون عنها) [من ص 277 إلى ص 297]، تكلم بإسهاب عن المجاعة التي ضربت البلاد الشامية والعراق مبينا بما لا يقبل الشك أن سببها هم الحلفاء الذين ضربوا حصارًا بحريًّا وبريًّا على بلاد الشام والعراق، وكيف أنهم عمدوا إلى اتهام الترك بذلك، ذاكرا شهادات لبطاركة الطوائف المسيحية يومها والتي يبرِّئون فيها الدولة التركية ويظهرون الأسباب الحقيقية التي أدت إلى المجاعة، بل ويدفعون التهم عنها ويظهرون الدور الإجابي الذي لعبته.

شهادة البطريرك حوَيِّك بطريرك الموارنة

ومن ذلك ما قاله البطريرك حويك في رسالة بعث بها إلى جمال باشا سنة 1916، كما أرسل نسخة منها إلى الفاتيكان «ليطلع عليها حضرة البابا، يطري فيها على الدولة العثمانية إطراءً عظيما في مراحمها ومكارمها»، وممَّا جاء فيها: «وأما الأسطورة التي معناها أن الموت جوعا قد فشا في الشعب اللبناني بسبب الحصر المقصود الذي تجريه الحكومة فهذا افتراء فظيع، ولقد بيَّنا أسباب ذلك - أي المجاعة-. كذلك لم تُحشَد جنود في الجبل لأجل التضييق على أحد من الأهالي، بل بالعكس قد كان هذا الجند المرابط لأجل الدفاع عن البلاد ذا فائدة عظيمة في توطيد الأمن العام الذي لم يوجد قط في لبنان قبل الحرب كما وُجد الآن، وكانت سيرة هذا الجند التي هي مثال الأدب فوق مدح كل مادح ممَّا اقتضى عرفان الجميل». (ص 287).

والجدير ذكره أن الرسالة كانت باللغة الإفرنسية، قام الأمير أرسلان بترجمتها، وهي رسالة طويلة ذكر غبطة البطريرك فيها كلاما في تفضيل تركيا على جميع الدول.. مدافعا عن جمال باشا حيال ما اتُّهم به من إعدامات مبررًا ذلك بأنه ثبتت خيانة الذين أُعدِموا وتوضحت بوثائق رسمية.

شهادة البطريرك غريغوريوس حداد

وكذلك كانت شهادة البطريرك غريغوريوس الرابع، بطريك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذوكس الذي أرسله إلى جمال باشا في الفترة ذاتها وحول الموضوع ذاته، ضمَّنه الرد على المزاعم الفرنسية التي كان يعمد عملاؤها على بثها متسترين بحرصهم على الأقليات المسيحية في بلاد الشام، والتي صرح بها بعض اللبنانيين يومها في البرلمان الفرنسي محرضين الدولة الفرنسية على التدخل المباشر في لبنان، ومما جاء في الكتاب: «في هذا اليوم لا يجهل أحد ما قيل في البرلمان الفرنساوي وما ردَّدته الصحف الفرنسية بشأن المسيحيين عموما في سورية وفلسطين» إلى أن يقول: «فباسمنا نحن بطريرك الكنيسة الأرثوذوكسية في سورية وفي كل المشرق، التي هي أقدم كنيسة في الشرق نحتج بكل قوتنا على ما قيل بغير حق عن حكومتنا العثمانية العادلة».

ويقول: «أيَ فرنسا هل تقدرين أن تقولي لنا عما إذا كانت حرية الأديان محترمة تحت ظل شرائعك كما هي محترمة عندنا؟ وهل الكنيسة والإكليروس متمتعان في أرضك بالحماية التي تحوطنا بها ، نحن الإكليروس والشعب المسيحي، حكومتنا السنية؟

نحن إذا مفتخرون بأن نعلن على الملأ أنه في ظل مكارم حكومتنا العثمانية السلطانية وعنايتها الأبوية، لا مسيحيو سورية وفلسطين فقط، بل الإكليروس المنسوب إلى فرنسا الحرة نفسها يتمتعون في ظل هذه العناية بما هم محرومون منه في بلادهم». إلى كلام كثير فيه نفي التهمة عن الدولة العليَّة بعامة، وعن جمال باشا بخاصَّة بأنهم يقفون وراء المآسي التي تصيب سكان البلاد السورية من غير المسلمين.

كما توجد شهادة ثالثة لنيافة المطران ديمتريوس القاضي قائم المقام البطريركي للروم الكاثوليك نوَّه بها أمير البيان، وهي أيضا باللغة الإفرنسية، اعتبر أنه لا حاجة إلى تعريبها لأنها طويلة وأشبه بالرسالتين السابقتين.

هذه الشهادات لا تروق للذين يحرصون دائما على تزوير الحقائق والتواريخ. وهذا قد يفسر جانبًا من صرف النظر عن كتابات وآراء شكيب أرسلان السياسية.. ولا يستطيع أحد أن يشكك فيها لأنها كتبت سنة 1922 في برلين بعيد وفاة جمال باشا بقليل، فلو كانت تلك الشهادات قيلت اتقاءً لشر، أو محاباةً لحاكم، لما كان من مسوغ لنشرها بعد وفاة الحاكم.

الفقه الإسلامي وعلماء الدين

وبالعودة إلى ما كنا بدأنا به الكلام حول المحاضرة التي ألقاها أمير البيان في المجمع العلمي في دمشق، فإنه ذكر فيها شذرة تتعلق بالفقه الإسلامي وعلماء الدين، يظهر فيها بعضًا من الأسباب الكامنة وراء انحسار أحكام الشريعة في فترة هذا النهوض العلمي في ذلك الوقت، وهو كلام جدير بالتمعن فيه مليًّا. يقول رحمه الله تعالى:

«وأما من جهة الفقه الإسلامي فلا نقدر أن نقول: إنه تقدم إلى الأمام، بل رجع في الحقيقة إلى الوراء، وذلك باستغناء الناس عنه بعلم الحقوق منذ تَرجمت الدولةُ العثمانية هذا العلم عن قوانين أوروبا إلى التركية والعربية. ومن عادة الناس أن يكون أكثر انشغالهم بما ينفعهم في دنياهم، وليس كل العلم طراز مجالس.

نحن أولًا قد أدركنا في أواخر القرن الماضي طبقة عالية من علماء العلوم الشرعية في دمشق؛ مثل: محمود أفندي الحمزاوي، والشيخ سليم العطار، والشيخ بكري العطار، والشيخ سعيد الأسطواني، والشيخ الطنطاوي، والشيخ علاء الدين عابدين، والشيخ محمد البيطار، وأخيه الشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ طاهر الجزائري، والشيخ عبد الغني الميداني، والشيخ محمد الخاني، والشيخ جمال الدين القاسمي، وغيرهم.

وكان الناس يستفتونهم في النوازل ويُعَوِّلون على آرائهم في الدين والدنيا، فلمَّا انتشرت العلوم العصرية، ومنها القوانين الأوروبية المترجَمة التي عملت الدولة بها، صار إذا مات واحد من هؤلاء الفقهاء لا يَخْلُفُه غيره، وما زال الأمر كذلك إلى أن كادت هذه الطبقة تنقرض بالمرة.

وكذلك كان في بيروت: الشيخ محيي الدين اليافي، والشيخ يوسف الأسير، والشيخ إبراهيم الأحدب.

وفي طرابلس: الشيخ حسين الجسر، والشيخ محمود نشَّابة.

فمات كل هؤلاء ولم يخلفهم أحد، وصار النبوغ للمحامين الذين تخرجوا في المدارس الأوروبية أو في مكاتب الدولة العثمانية، والمحامون بمصر أكثر منهم بالشام لما في مصر من استبحار العمران.

إلا أنه نظرًا لوجود الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي في مصر بقي حملة العلوم الشرعية فيها أكثر منهم في سوريا، وكان الواجب على هذه الأمَّة في كل قطر أن لا تهمل هذا العلم الذي هو من مفاخر الثقافة العربية ومن محاسن تاريخها والذي لا يستغني عنه المسلمون في المعاملات الدنيوية فضلًا عن المسائل الاعتقادية».

إنها قراءة غالية من عالم معاصر يملك أن يصدر الأحكام التاريخيَّة على نهضة العلم أو تقهقره، فالشهادة لا تُقبل إلا من عدلٍ، والذي يقرأ في فكر هذا المُفْرد العلم يدرك أنه كان في غاية العدالة في أحكامه، فهو لا يُصدرها عن هوى، ولا يُعمي انتماؤه بصيرتَه، ولا يَطغى حبُّه للدولة العثمانية على الأخطاء التي كانت تصدر من البعض فكان يتصدَّى لها بكل جرأة.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين