أموال النبي صلى الله عليه وسلم

تعليقي على عرض كتاب "أموال النبي صلى الله عليه وسلم كسبا وإنفاقا وتوريثا"

لم أطّلع على البحث، ولكني من خلال هذا العرض المذكور أقول:

أرى أن الباحث لم يوفَّق في العنوان الفرعي للكتاب.

ولو قصره على العنوان الرئيس "أموال النبي صلى الله عليه وسلم كسبا وإنفاقا وتوريثا" لكان أصوب.

العنوان الفرعي "كان صلى الله عليه وسلم ثريا منفقا لا فقيرا زاهدا" عليه مأخذان:

الاول: أن ثراءه صلى الله عليه وسلم كان في حال دون حال، باعتراف الباحث نفسه الذي قسم الحالة الاقتصادية للنبي صلى الله عليه وسلم إلى ثلاث مراحل: الاصطفاء والإيواء والإغناء.

فإطلاقه حكم الإغناء على كل مراحل حياته صلى الله عليه وسلم، كإطلاق غيره حكم الإقلال، كلاهما غير دقيق.

الثاني: أنه لا تضاد بين الثراء والزهد، ولا بين الفقر والإنفاق. فلم يوفَّق الباحث في تقريره أنه صلى الله عليه وسلم كان ثريا ولم يكن زاهدا، وكان منفقا ولم يكن فقيرا.

فقد يكون المؤمن ثريا مكثرا، ولكن دنياه العريضة لا تساوي عنده جناح بعوضة، ولم تنل من قلبه موضعا كبيرا ولا ضئيلا، فهي في يده لا في قلبه.

وتلك هي حقيقة الزهد.

ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح، في ترجمة الإمام البخاري صاحب الصحيح، ما يدل على تزهده مع يساره رحمه الله.

ونقل عن وَرَّاقه قال: كنا بفِرَبْر، وكان أبو عبد الله يبني رباطا مما يلي بخارى، فاجتمع بشر كثير يعينونه على ذلك، وكان ينقل اللبِن، فكنت أقول له: يا أبا عبد الله إنك تُكفَى ذلك. فيقول: هذا الذي ينفعني. قال: وكان ذبح لهم بقرة، فلما أدركت القدور دعا الناسَ إلى الطعام، فكان معه مائة نفس أو أكثر، ولم يكن عَلِم أنه يجتمع ما اجتمع، وكنا أخرجنا معه من فِرَبْر خبزا بثلاثة دراهم، وكان الخبز إذ ذاك خمسةُ أمنان بدرهم، فألقيناه بين أيديهم، فأكل جميع من حضر وفضلت أرغفة صالحة. وقال: وكان قليل الأكل جدا، كثيرَ الإحسان إلى الطلبة، مفرطَ الكرم. وحكى أبو الحسن يوسف بن أبي ذر البخاري أن محمد بن إسماعيل مرض فعرضوا ماءه على الأطباء، فقالوا: إن هذا الماء يشبه ماء بعض أساقفة النصارى؛ فإنهم لا يأتدمون. فصدَّقَهم محمد بن إسماعيل وقال: لم آتدم منذ أربعين سنة. فسألوا عن علاجه فقالوا: علاجه الإدام. فامتنع حتى ألح عليه المشايخ وأهل العلم، فأجابهم إلى أن يأكل مع الخبز سكرة. انظر هدي الساري مقدمة فتح الباري - دار المعرفة ص481

فأين التنافي بين الثراء والزهد؟!

وكذلك لا تنافي بين الفقر والإنفاق، فقد يكون المؤمن مقلا فقيرا، ولكنه مع هذا منفقٌ من هذا القليل، مؤثرٌ غيرَه على نفسه به.

أليس قد قال الحق سبحانه:(.... وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ...)

[سورة الحشر 9)

وأليس قد صحَّ في الحديث: سبق درهم مائة ألف. قالوا: يا رسول الله كيف يسبق درهم مائة ألف؟ قال: رجل كان له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، وآخر له مال كثير، فأخذ من عرضها مائة ألف. أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.

ولذلك فإن قول الباحث في العنوان الفرعي: كان صلى الله عليه وسلم ثريا منفقا لا فقيرا زاهدا

كلام غير دقيق، لأنه يوحي بالتضاد فيما لا تضادّ فيه، كما أنه يشي بعدم وضوح معنى الزهد في ذهن الباحث.

والله أعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين