أمّهاتٌ للمؤمنين فاقت حكمتُهنّ حكمةَ الرجال

إنّ هناك صوراً مشرّفة، ماضياً، وحاضراً، ومستقبلاً، لنساءٍ تعدّ مَضرب المثل في الحكمة والتعقل والاتزان، كتلك الأمّ الصحابيّة التي سبق أن مرّ ذِكرها، والتي فُجعت بولدها المريض وهو بين يديها، ولم تُرِد أن تزعج زوجها حين عاد من عمله في المساء، فأخفت عنه خبر وفاة ولده حتى الصباح، بل بادلته الحبّ تلك الليلة، وحملت منه، ثمّ أفضت إليه بالخبر المؤلم في الوقت المناسب، وبأقصى ما استطاعت من حكمةٍ ولباقةٍ وذكاء.

لقد عرفنا كيف كان النبيّ صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يظلّ قريباً، ببشريّته وواقعيّته، من المسلمين، وأن يظهر أمامهم دائماً كبشرٍ يمشي ويتحرّك مثلهم على الأرض. وإذا كان الوحي يتنزّل عليه من السماء في القضايا الكبرى والأساسيّة في الدعوة؛ فإنّ الوحي كان يترك له وللمسلمين هامشاً للتشاور والاجتهاد، وإعمال فكرهم، والإدلاء بآرائهم في القضايا الراهنة، ليكون هذا الهامش بمثابة مدرسةٍ للمسلمين في الأخذ بالتفكير والشورى، وفي بذل الجهد الأقصى، العقليّ والجسديّ، لحلّ أمورهم بأنفسهم على الشكل الأمثل، واستخدام كلّ ما يتيسّر لهم من الأدوات البشريّة على الأرض، وعدم التواكل وترك أمورهم إلى السماء، والاعتماد على التمنّي والنوايا الطيّبة والدعاء.

وحدث مرّةً أن لم يكن هناك ممّن كانوا حول النبيّ صلى الله عليه وسلم من الرجال من استطاع أن يقدّم له المشورة اللازمة في واحدٍ من أشدّ المآزق التي واجهها في دعوته، إلى أن جاءت هذه المشورة من زوجته الحكيمة أمّ سَلَمة.

ففي العام السادس للهجرة (627 م)، حدث أن طلب الرسول صلى الله عليه وسلم ممّن معه من المسلمين أن يُحِلّوا إحرامهم، وقد توجّهوا إلى مكّة ليحجّوا على الرغم من حالة الحرب القائمة، والمستمرة، بينهم وبين أهلها من المشركين.

وأشار معظم الصحابة بضرورة اقتحام مكّة رغماً عن أهلها، سِلماً أو حرباً. ولكن، وبوحيٍ من الله، انتهت الأمور بضرورة حقن دماء المسلمين، ودماء أهل مكّة من المشركين أيضاً، لأنّ الله كان يعلم أنهم سيهتدون في النهاية ويكونون جنوداً للإسلام. وكان مهمّاً، في الوقت نفسه، الحفاظ على هذه المدينة المقدّسة، وسلامة بيت الله الحرام ممّا قد يناله من أذىً لو نشبت المعركة في مكّة بين المسلمين وأهلها من المشركين.

وهكذا؛ وقّع معهم النبيّ صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية. وهو يقضي بأن يرجع المسلمون هذا العام إلى المدينة من غير حجّ، على أن يعودوا ويحجّوا في العام المقبل. وأثار هذا موجةً من الغضب بين المسلمين ممّن جاؤوا من المدينة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من بينهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهم لا يدركون الأثر التاريخيّ الذي ستُحدثه هذه الاتفاقية من نجاحاتٍ كبيرةٍ قادمة، ومن فتوحٍ عظيمةٍ للإسلام.

فقد ضمِنَت هذه الاتفاقيّة حريّة عرب الجزيرة في أن يدخلوا الإسلام متى شاؤوا، من غير أن يهابوا غضب أهل مكّة، وقد كانت تهيمن على التجارة في الجزيرة العربيّة، وكذلك على البيت الحرام الذي اعتاد العرب في الجاهلية أن يحجّوا إليه، على طريقتهم طبعاً. وكانت النتيجة أن أسلم إثر هذا الصلح الآلافُ من مختلف القبائل، وعُدّت هذه الاتّفاقيّة بمثابة "الفتح" للمسلمين، ونزلت فيها سورة النصر: "إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ والفتحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا.. ونزلت كذلك سورة الفتح: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا..".

ولكن، حين طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن يحلّوا إحرامهم ويقُصّوا شعورهم للعودة إلى المدينة من غير أداء الحجّ، كما تقتضي اتّفاقية الصلح، رفضوا أن يفعلوا ذلك، ووجدوا أنّ رجوعهم إلى المدينة من غير حجٍّ سيكون مهانةً كبيرةً لهم، وتخاذلاً للمسلمين في عيون المشركين.

ودخل النبيّ صلى الله عليه وسلم خيمته مهموماً لا يدري ما يفعل. وهناك في الخيمة يأتي الحلّ على لسان أمّ المؤمنين الحكيمة (أمّ سلَمَة) بإشارتها الذكيّة التي اقترحتها على النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولنتابع معاً تفاصيل هذه الحادثة الهامّة والفاصلة في الإسلام:

-     عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بنِ الحَكَم، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَال: "جَاءَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو – مندوبُ المُشركين في صُلْحِ الحُدَيبِيَة – فَقالَ – للنبيِّ صلى الله عليه وسلم –: هَاتِ اكْتُبْ بيْنَنَا وبيْنَكُمْ كِتَاباً. فَدَعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكَاتِبَ، فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم – للكاتب –: (بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قالَ سُهَيْلٌ: أمَّا (الرَّحْمَنُ) فَوَاللَّهِ ما أدْرِي ما هو، ولَكِنِ اكْتُبْ (باسْمِكَ اللَّهُمَّ) كما كُنْتَ تَكْتُبُ – أي كما كنتَ وكان العربُ يفعلونَ في الجاهليّة –. فَقالَ المُسْلِمُونَ: واللَّهِ لا نَكْتُبُهَا إلّا (بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: اكْتُبْ (باسْمِكَ اللَّهُمَّ). ثُمَّ قال: (هذا ما قَاضَى عليه مُحَمَّدٌ رَسولُ اللَّه)، فَقالَ سُهَيْلٌ: واللَّهِ لو كُنَّا نَعْلَمُ أنَّكَ رَسولُ اللَّهِ ما صَدَدْنَاكَ عَنِ البَيْتِ، ولَا قَاتَلْنَاكَ، ولَكِنِ اكْتُبْ (مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللَّه). فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: واللَّهِ إنِّي لَرَسولُ اللَّهِ، وإنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ (مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ). قالَ الزُّهْرِيُّ: وذلكَ – أي قبولُه صلى الله عليه وسلم بتعديلاتِ سهيل – لِقَوْلِهِ: لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ - أي تُجَنِّبُ بيتَ اللهِ أذى الحربِ والقتال - إلّا أعْطَيْتُهُمْ إيَّاهَا. فَقالَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: علَى أنْ تُخَلُّوا بيْنَنَا وبيْنَ البَيْتِ، فَنَطُوفَ به. فَقالَ سُهَيْلٌ: واللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ العَرَبُ أنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً – أي فَرَضْتَ علينا شروطَك فَرْضاً –، ولَكِنْ ذلكَ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ. فَكَتَبَ. فَقالَ سُهَيْلٌ: وعلَى أنَّه لا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وإنْ كانَ علَى دِينِكَ إلّا رَدَدْتَهُ إلَيْنَا. قالَ المُسْلِمُون: سُبْحَانَ اللَّهِ، كيفَ يُرَدُّ إلى المُشْرِكِينَ وقدْ جَاءَ مُسْلِماً؟ فَبيْنَما هُمْ كَذلكَ إذْ دَخَلَ أبو جَنْدَلِ بنُ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ – أي يمشي مُثقَلاً – في قُيُودِهِ، وقدْ خَرَجَ مِن أسْفَلِ مَكَّةَ حتَّى رَمَى بنَفْسِهِ بيْنَ أظْهُرِ المُسْلِمِينَ – أي جاء ولدُ سهيلٍ، مندوبِ المشركين، مُسلِماً وطالباً حمايةَ المسلمين مِن أبيه ومِن المشركين –. فَقالَ سُهَيْلٌ: هذا يا مُحَمَّدُ أوَّلُ ما أُقَاضِيكَ عليه: أنْ تَرُدَّهُ إلَيَّ. فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ – أي لم نُبْرِمِ المعاهدةَ بعدُ، فلم يَدخُلْ ولدُك تحتَ هذا الاتّفاق –. قال: فَوَاللَّهِ إذاً لَمْ أُصَالِحْكَ علَى شيءٍ أبَداً. قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: فأجِزْهُ لِي – أي أجِزْ لي أنْ نستثنيَ ولدَكَ مِن هذا الاتّفاق – قال: ما أنَا بمُجِيزِهِ لَكَ. قال: بَلَى فَافْعَلْ. قال: ما أنَا بفَاعِلٍ. قالَ مِكْرَزٌ – وهو مِن وفدِ المُشركين، معارضاً رأيَ سهيلٍ –: بَلْ قدْ أجَزْنَاهُ لَكَ. قالَ أبو جَنْدَلٍ – ابنُ سُهيل –: أيْ مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إلى المُشْرِكِينَ وقدْ جِئْتُ مُسْلِماً! ألا تَرَوْنَ ما قدْ لَقِيتُ؟ وكانَ قدْ عُذِّبَ عَذَاباً شَدِيداً في اللَّهِ – أي على أيدي المشركين قبلَ أن يَهرُبَ إلى المسلمين – .. قال: فَقالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: فأتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلتُ: ألَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقّاً؟ قال: بَلَى. قُلتُ: ألَسْنَا علَى الحَقِّ، وعَدُوُّنَا علَى البَاطِل؟ قال: بَلَى. قُلتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا إذاً – أي لماذا نُظهِرُ المَذلّةَ لهم –؟ قال: إنِّي رَسولُ اللَّه، ولَسْتُ أعْصِيهِ – إشارةً إلى أنَّ قرارَه جاء بوحيٍ مِنَ الله –، وهو نَاصِرِي. قُلتُ: أوَليسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أنَّا سَنَأْتي البَيْتَ فَنَطُوفُ بهِ؟ قالَ: بَلَى، فأخْبَرْتُكَ – أي هل أخبَرتُك – أنَّا نَأْتِيهِ العَامَ؟ قال: قُلتُ: لا. قال: فإنَّكَ آتِيهِ ومُطَّوِّفٌ به – أي بعدَ ذلك –. قال: فأتَيْتُ أبَا بَكْرٍ فَقُلتُ: يا أبَا بَكْرٍ، أليسَ هذا نَبِيَّ اللَّهِ حَقّاً؟ قال: بَلَى. قُلتُ: ألَسْنَا علَى الحَقِّ وعَدُوُّنَا علَى البَاطِلِ؟ قال: بَلَى. قُلتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا إذاً؟ قال: أيُّها الرَّجُل، إنَّه لَرَسولُ اللَّه، وليسَ يَعْصِي رَبَّه، وهو نَاصِرُه، فَاسْتَمْسِكْ بغَرْزِهِ – أي تمسَّك بالانقيادِ له –، فَوَاللَّهِ إنَّه علَى الحَقّ. قُلتُ: أليسَ كانَ يُحَدِّثُنَا أنَّا سَنَأْتي البَيْتَ ونَطُوفُ بهِ؟ قال: بَلَى، أفَأَخْبَرَكَ أنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟ قُلتُ: لا. قال: فإنَّكَ آتِيهِ ومُطَّوِّفٌ به. قالَ الزُّهْرِيُّ: قالَ عُمَر: فَعَمِلْتُ لِذلكَ أعْمَالاً – أي مِن العباداتِ والصدقاتِ حتّى يُغتَفَرَ لي موقِفي هذا –. قال: فَلَمَّا فَرَغَ مِن قَضِيَّةِ الكِتَابِ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا – ليَحِلّوا مِن إحرامِهم للعُمرةِ بعد أنْ مُنِعوا مِن دخولِ مكّةَ لإكمالِ نُسُكِهم –. قال: فَوَاللَّهِ ما قَامَ منهمْ رَجُلٌ، حتَّى قالَ ذلكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ منهمْ أحَدٌ دَخَلَ علَى أُمِّ سَلَمَةَ – زوجتِه –، فَذَكَرَ لَهَا ما لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقالَتْ أُمُّ سَلَمَة: يا نَبِيَّ اللَّهِ، أتُحِبُّ ذلكَ – أي أتُريدُ أنْ يَتحقّقَ ذلك –؟ اخْرُجْ، ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أحَداً منهمْ كَلِمَةً حتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ، فَلَمْ يُكَلِّمْ أحَداً منهمْ حتَّى فَعَلَ ذلك: نَحَرَ بُدْنَهُ، ودَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذلكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا، وجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضاً". [رواه البخاري]

ولقد تعدّدت المصنّفات والمؤلّفات في ذكر المناقب العلميّة للسيّدة عائشة أمّ المؤمنين، والتي تفوّقت بها على عديدٍ من كبار الصحابة من الرجال. ووضع بدر الدين الزركشي (1344-1392م) كتاباً عن استدراكات عائشة على الصحابة أسماه (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) ضمّنه تسعةً وخمسين استدراكاً على ثلاثةٍ وعشرين من أعلام الصحابة، بينهم عمر بن الخطّاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عبّاس. وكان بين هذه الاستدراكات ما تفرّدت أو خالفت فيه الصحابة "برأيٍ منها، أو كان عندها سُنّةٌ بيّنةٌ، أو زيادةُ علمٍ متقَنةٌ، أو أنكرتْ فيه على علماء زمانها، أو رَجَع فيه إليها أجِلَّةٌ مِن أعيان أوانها، أو حرّرته من فتوى، أو اجتهدت فيه من رأيٍ رأته أقوى" كما يقول المؤلّف في مقدّمة كتابه.[1]

يقول سعيد الأفغاني محقّق الكتاب في مقدّمته:

"سلختُ سنين في دراسة السيّدة عائشة، كنت فيها حيال معجزةٍ لا يجد القلمُ إلى وصفِها سبيلاً، وأخَصُّ ما يُبهرك فيها عِلمٌ زاخرٌ كالبحر بُعدَ غَور، وتَلاطمُ أمواجٍ، وسعةُ آفاقٍ، واختلافُ ألوانٍ. فما شئتَ إذ ذاك مِن تَمَكُّنٍ في فقهٍ، أو حديثٍ، أو تفسيرٍ، أو عِلمٍ بشريعةٍ، أو آدابٍ، أو شِعرٍ، أو أخبارٍ، أو أنسابٍ، أو مفاخر، أو طبٍّ، أو تاريخ... إلّا أنتَ واجدٌ منه ما يَرُوعُك عند هذه السيّدة، ولن تَقضي عجباً، من اضطلاعها بكلّ أولئك وهي لا تتجاوز الثامنة عشرة".[2]

وكثيراً ما أحالت السائليِن إلى غيرها عندما تعرف أنّ خبرتهم في الموضوع الذي سئلت فيه خيرٌ من خبرتها، كما فعلت عندما سئلت عن عدد أيّام المسح على الخُفّ (النَعلين) في الوضوء للمقيم والمسافر، فأحالت السائل إلى عليّ بن أبي طالب لأنّه كان أكثر منها سفراً مع النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم:

-       عن شُرَيحِ بنِ هانئٍ قال: "أَتَيْتُ عائِشَةَ أسْأَلُها عَنِ المَسْحِ علَى الخُفَّيْنِ، فقالَتْ: عَلَيْكَ بابْنِ أبِي طالِبٍ فَسَلْهُ، فإنَّه كانَ يُسافِرُ مع رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلْناهُ فقالَ: جَعَلَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاثَةَ أيَّامٍ ولَيالِيَهُنَّ لِلْمُسافِرِ – أي يُمكنُه فيها المسحُ على الخُفّين في الوضوء، ما لم يَخلَعْهما –، ويَوْماً ولَيْلَةً لِلْمُقِيم". [رواه مسلم]

ورغم أنّ الشاعر حسّان بن ثابتٍ قد خاض مع من خاضوا في حديث الإفك ضدّ عائشة، ووجَدت عليه آنذاك، مثله مثل كلّ من خاضوا في ذلك الحديث، فإنّها لم تسمح لغضبها منه بأن يؤثّر في أحكامها عليه حين سمعت ابنَ اختها عروة بن الزبير يَسبُّه أمامها، فاعترضت عليه، وذكّرته بأنّه كان ينافح بشعره عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في وجه المشركين:

-       عن هِشامِ بنِ عُرْوَةَ بنِ الزُّبير، عن أبِيهِ قال: "ذَهَبْتُ أسُبُّ حَسَّانَ - ابن ثابت - عِنْدَ عائِشَةَ فقالَتْ: لا تَسُبَّهُ؛ فإنَّه كانَ يُنافِحُ عن رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم". [متّفق عليه]

أمّا السيّدة حفصة، أمّ المؤمنين، فلها موقفٌ تاريخيٌّ تفوّقت به على مواقف الرجال؛ حين طُعِن أبوها عمر بن الخطّاب (40 ق.هـ - 23 هـ) وأراد ألّا يوصي لأحدٍ مِن بَعدِه بالخلافة، وأن يترك الأمر للمسلمين فيختاروا خليفتهم بأنفسهم، مقتدياً في ذلك بما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم حين لم يوصِ لأحدٍ بالخلافة، ومخالفاً لما فعله أبو بكرٍ الصدّيق (50 ق.هـ - 13 هـ) حين أوصى بالخلافة له: "إنِّي استَخلَفتُ مِن بَعدي عُمرَ بنَ الخطَّاب"، فكانت حفصةُ بنفاذ بصيرتها أوّلَ مَن تنبّه لخطورة هذا الأمر.

لقد كانت الإشارات النبويّة العديدة، والصريحة، أكثر من كافيةٍ أمام المسلمين للإجماع على اختيار أبي بكرٍ خليفةً بعده. ونسوق هنا بعض هذه الإشارات لأهمّيتها الشديدة في وضوح رؤيتنا لروح الإيثار والموضوعيّة والعلاقات الأخويّة الصادقة التي كانت تَحكُم مواقف الصحابة الكرام، أحدهم تجاه الآخر، بعد مفارقة النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم والتحاقه بالرفيق الأعلى، ولتكون دليلاً على أنّ حفصة أمّ المؤمنين قد تفوّقت على الصحابة من الرجال في إدراك تلك الفروق الخطيرة بين ظروف الدولة الإسلاميّة عند مقتل عمر، وبين ما كانت عليه عند وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حين ترك للمسلمين تلك الإشارات الواضحة، والقاطعة، لتأمين إجماعٍ كاملٍ لدى كبار الصحابة على اختيار أبي بكر الصدّيق خليفةً له، كما في هذه القبسات النبويّة:

-       عن عائشةَ أمِّ المؤمنين "أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَاتَ وأَبُو بَكْرٍ بالسُّنْحِ (قَالَ إسْمَاعِيلُ يَعْنِي بالعَالِيَةِ – مِن أطرافِ المدينة –)، فَقَامَ عُمَرُ يقول: واللَّهِ ما مَاتَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.. فَجَاءَ أبو بَكْرٍ – الصِّدِّيق (50 ق.هــ -13 هــ) – .. فَحَمِدَ اللَّهَ وأَثْنَى عليه، وقَال: ألا مَن كانَ يَعْبُدُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم فإنَّ مُحَمَّداً قدْ مَاتَ، ومَن كانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ. وقَال: {إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]. وقَال: {وَما مُحَمَّدٌ إلّا رَسولٌ قدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ علَى أعْقَابِكُمْ ومَن يَنْقَلِبْ علَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شيئًا وسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. قَال: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ.. فَقَالَ أبو بَكْرٍ: .. فَبَايِعُوا عُمَرَ، أوْ أبَا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ. فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ أنْتَ، فأنْتَ سَيِّدُنَا، وخَيْرُنَا، وأَحَبُّنَا إلى رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فأخَذَ عُمَرُ بيَدِهِ فَبَايَعَهُ، وبَايَعَهُ النَّاسُ". [رواه البخاري]

-       عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَال: "أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ، فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيءٍ – أي في حاجةٍ تريدُها منه – فأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ – أي فيما بعد –. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّه، أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ؟ (كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ – أي كأنّها تخشى موتَه صلى الله عليه وسلم قبل قضاءِ حاجتِها –)، قَال: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْر". [متّفق عليه]

-       عن أبي سعيدِ الخُدريِّ، أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لو كُنْتُ مُتَّخِذاً خَلِيلاً مِن أُمَّتي – أي مَن أصطفيه مِن بينِ سائرِ الناس – لاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ.. لا يَبْقَيَنَّ في المَسْجِدِ خَوْخَةٌ – وهو بابٌ صغيرٌ اعتاد بعضُ الصحابةِ أنْ يفتحوه مِن بيوتِهم على المسجدِ النبويّ، فأمَرَ النبيُّ بإغلاقِها جميعاً – إلّا خَوْخَةُ أبِي بَكْرٍ". [رواه البخاري]

-       عن عائشةَ أمِّ المؤمنين قالت: "لَمَّا ثَقُلَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم – أي أثقَلَهُ مرضُ موتِه عنِ الصلاةِ في الناس –؛ جَاءَ بلَالٌ (-20 هـ) يُؤْذِنُهُ بالصَّلَاةِ – أي يُبْلِغُه بإقامتها –، فَقال: مُرُوا أبَا بَكْرٍ أنْ يُصَلِّيَ بالنَّاس. فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّه، إنَّ أبَا بَكْرٍ – أباها – رَجُلٌ أسِيفٌ – أي سريعُ البكاء –، وإنَّه مَتَى ما يَقُمْ مَقَامَكَ لا يُسْمِعِ النَّاسَ – أي مِن كَثرةِ بُكائه –، فلوْ أمَرْتَ عُمَرَ! فَقال: مُرُوا أبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بالنَّاس. فَقُلتُ لِحَفْصَةَ – ابنةِ عمرَ وزوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم –: قُولِي له: إنَّ أبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ، وإنَّه مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لا يُسْمِعِ النَّاسَ، فلوْ أمَرْتَ عُمَرَ! قالَ: إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أبَا بَكْرٍ أنْ يُصَلِّيَ بالنَّاس. فَلَمَّا دَخَلَ – أي أبو بكرٍ – في الصَّلَاة؛ وجَدَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في نَفْسِهِ خِفَّةً – أي قُدرةً على القيام –، فَقَامَ يُهَادَى بيْنَ رَجُلَيْنِ – أي يُمسكان بيديه ليمشي – ورِجْلَاهُ يَخُطَّانِ في الأرْضِ – أي لا يكادُ يَرفعُهما عن الأرض أثناءَ مَشيِه –، حتَّى دَخَلَ المَسْجِد، فَلَمَّا سَمِعَ أبو بَكْرٍ حِسَّهُ؛ ذَهَبَ أبو بَكْرٍ يَتَأَخَّرُ، فأوْمَأَ إلَيْهِ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم – أي أشار إليه بالبقاءِ في مكانِه –، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حتَّى جَلَسَ عن يَسَارِ أبِي بَكْر، فَكانَ أبو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِماً، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي قَاعِداً، يَقْتَدِي أبو بَكْرٍ بصَلَاةِ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والنَّاسُ مُقْتَدُونَ بصَلَاةِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه". [رواه البخاري]

-       عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ قال: "كُنَّا في زَمَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا نَعْدِلُ بأَبِي بَكْرٍ أحَداً، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أصْحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لا نُفاضِلُ بيْنَهُمْ". [رواه البخاري]

-       عن حُذَيفَةَ بنِ اليَمانِ قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنّي لا أدري ما قَدْرُ بقائي فيكم، فاقتَدوا باللَّذَينِ مِنْ بَعْدي، أبي بَكرٍ وعُمرَ". [رواه السيوطي]

-       عن عمرَ بنِ الخطّابِ قال: قال أبو بكرٍ الصدّيق – عَقِبَ وفاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم –: "قدْ رَضِيتُ لَكُمْ أحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا أيَّهُما شِئْتُمْ، فأخَذَ بيَدِي وبِيَدِ أبِي عُبَيْدَةَ بنِ الجَرَّاحِ، وهو جَالِسٌ بَيْنَنَا – أي كان أبو بَكرٍ يَجلِسُ بينهما -، فَلَمْ أكْرَهْ ممَّا قَالَ غَيْرَهَا، كانَ واللَّهِ أنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي، لا يُقَرِّبُنِي ذلكَ مِن إثْمٍ – أي شَرْطَ ألّا يكونَ في ذلكَ إثم -، أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ أتَأَمَّرَ علَى قَوْمٍ فيهم أبو بَكْرٍ.. فَقُلتُ: ابْسُطْ يَدَكَ يا أبَا بَكْرٍ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ، وبَايَعَهُ المُهَاجِرُونَ ثُمَّ بَايَعَتْهُ الأنْصَار". [رواه البخاري]

-       عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ قال: "ألَا أُخبِرُكم بخَيرِ هذه الأُمَّةِ بعدَ نبيِّها؟ أبو بكْرٍ، وخَيرُها بعدَ أبي بكْرٍ؛ عمرُ، ثُم يَجعَلُ اللهُ الخَيرَ حيثُ أَحَبَّ". [رواه أحمد، وصحّحه شعيب الأرناؤوط]

والقائمة تطول من مثل هذه الإشارات أو الدلالات، وإدراكِ حفصة لخطورة وفاة عمر من غير التوصية بالخليفة من بعده، وطرحِها للخطوات الضروريّة، والسريعة، التي يجب اتّخاذها قبل فوات الأوان.

وكان لعمل حفصة هذا أثره التاريخيّ الكبير في توجيه مسيرة الدولة الإسلاميّة بعد ذلك. فقد سارع عبد الله وطرح الموضوع على أبيهما قبل أن يُسْلِم الروح، بعد أن تلقّى تلك الطعنة القاتلة على يد أبي لؤلؤة المجوسيّ:

-       عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ قال: "دَخَلْتُ علَى حَفْصَةَ – أختِه -، فَقالَتْ: أَعَلِمْتَ أنَّ أَبَاكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ – أي هل سمعتَ بأنّه لن يوصيَ بالخلافةِ من بَعدِه لأحد -؟ قال: قُلتُ: ما كانَ لِيَفْعَلَ – أي: لا يمكنُ أن يَفعلَ ذلك -!، قالَتْ: إنَّه فَاعِلٌ! قال: فَحَلَفْتُ أَنِّي أُكَلِّمُهُ في ذلكَ. فَسَكَتُّ حتَّى غَدَوْتُ – أي انتظرتُ حتّى الصباح - وَلَمْ أُكَلِّمْهُ. قال: فَكُنْتُ كَأنَّما أَحْمِلُ بيَمِينِي جَبَلاً - لصعوبة ما سيكلّمه فيه وهو على شفير الموت -، حتَّى رَجَعْتُ – أي عدتُ فقرّرتُ مفاتحتَه بالموضوع -، فَدَخَلْتُ عليه، فَسَأَلَنِي عن حَالِ النَّاسِ وَأَنَا أُخْبِرُهُ. قال: ثُمَّ قُلتُ له: إنِّي سَمِعْتُ النَّاسَ يقولونَ مَقالَةً، فَآلَيْتُ أَنْ أَقُولَهَا لَكَ، زَعَمُوا أنَّكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ، وإنَّه لو كانَ لكَ رَاعِي إبِلٍ، أَوْ رَاعِي غَنَمٍ، ثُمَّ جَاءَكَ وَتَرَكَهَا، رَأَيْتَ أَنْ قدْ ضَيَّعَ – أي لو فعل راعي إبِلِكَ هذا، فتركها من غير راعٍ؛ لَحَكمتَ عليه بتضييعِ أموالِك -، فَرِعَايَةُ النَّاسِ أَشَدُّ! قال: فَوَافَقَهُ قَوْلِي، فَوَضَعَ رَأْسَهُ سَاعَةً، ثُمَّ رَفَعَهُ إلَيَّ فَقال: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْفَظُ دِينَهُ، وإنِّي لَئِنْ لا أَسْتَخْلِفْ، فإنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَخْلِفْ، وإنْ أَسْتَخْلِفْ فإنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدِ اسْتَخْلَفَ. قال: فَوَاللَّهِ، ما هو إلّا أَنْ ذَكَرَ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ فَعَلِمْتُ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَعْدِلَ برَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَداً، وَأنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِف". [رواه مسلم]

ولكن كان لرسالة حفصة في النهاية أثرها في تغيير رأي عمر، وفي اهتدائه إلى طريقةٍ شُوريّةٍ مبتكرةٍ تراعي الظروف السياسيّة المستجدّة للدولة الإسلاميّة الوليدة، ومن شأنها، أيضاً، أن توفِّق بين منهج النبيِّ صلى الله عليه وسلم في اختيار الخليفة، وبين منهجه الذي اختاره لنفسه:

-       عن عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَال: "رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ – أي قبل اغتيالِه أواخرَ ذي الحِجّة عام 23 للهجرة –.. فَقَالَ عُمَرُ لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ لأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ لا يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَداً‏.‏ قَال: فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ إلّا رَابِعَةٌ – أي أربعُ ليالٍ – حَتَّى أُصِيبَ‏.‏.. فَقَالُوا أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِفْ‏! قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ أَوِ الرَّهْطِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ عَنْهُمْ رَاضٍ‏.‏ فَسَمَّى عَلِيّاً – ابنَ أبي طالب (23 ق.هـ-40 هـ) –، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ – ابنَ العَوّام (28 ق.هـ-36 هـ) –، وَطَلْحَةَ – ابنَ عُبَيدِ الله –، وَسَعْداً – ابنَ أبي وقّاص –، وَعَبْدَ الرَّحْمَن – ابنَ عَوف –، وَقَال: يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ – ولدُه – وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ – أي يَشهدُ تشاورَهم من غيرِ أن يكونَ له حقُّ التصويت أو التدخّل برأيِه – (كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ – أي طَلبَ له هذا كنوعٍ مِن الإرضاءِ له عن عَدَمِ أحقّيّتِه بالمشاركةِ في التصويت –). فَإِنْ أَصَابَتِ الإِمْرَةُ سَعْداً فَهْوَ ذَاكَ، وَإِلّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ – أي إن لم تكن الإمارةُ بعدي من نصيبِ سعدِ بن أبي وقّاص، فليكنْ إلى جانبِ مَن تكونُ له الإمارةُ ليُعِينَه عليها مُدّةَ إمارتِه –، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلا خِيَانَةٍ – وكان عُمرُ قد عَزَلَهُ مِن منصِبِه أميراً على الكوفة –.. فَلَمَّا قُبِضَ – أي حين تُوفّي عمر – خَرَجْنَا بِهِ – بعد الصلاة عليه –، فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي – إلى بيتِ عائشة – فَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَال: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ‏!‏ قَالَتْ – عائشةُ –: أَدْخِلُوهُ‏.‏ فَأُدْخِلَ، فَوُضِعَ هُنَالِكَ مَعَ صَاحِبَيْهِ. فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ؛ اجْتَمَعَ هَؤُلاَءِ الرَّهْطُ – الستّة –، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ – ابنُ عَوف –: اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلاَثَةٍ مِنْكُمْ‏.‏ فَقَالَ الزُّبَيْر: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ‏.‏ فَقَالَ طَلْحَةُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ‏.‏ وَقَالَ سَعْد: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ‏.‏ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَن – لعثمانَ وعليّ –: أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الأَمْرِ فَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ – أي مَن ينسحبْ منكما مِن هذا الترشيحِ للخلافة يتولَّ بنفسِه أمرَ اختيار الأفضلِ بين المرشَّحَين الآخَرَين –، وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالإِسْلاَمُ لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ – يُوصي مَن يتولّى أمرَ الاختيارِ منهما أنْ يُحَكِّمَ اللهَ والإسلامَ في اختيارِه –.‏ فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفَتَجْعَلُونَهُ – أي أمرَ الاختيار – إِلَيّ، وَاللَّهَ عَلَيَّ أَنْ لا آلُوَ عَنْ أَفْضَلِكُمْ – أي أشهِدُ اللهَ عليّ أنْ أبذِلَ قُصارى جَهدي لاختيارِ الأفضل –؟ قَالا: نَعَمْ. فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا – وهو عليّ، أي اختلى به – فَقَال: لَكَ قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَدَمُ – أي ولكَ سابقةُ ورصيدٌ – فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، فَاللَّهَ عَلَيْكَ – أي أُشهِدُ اللهَ عليك – لَئِنْ أَمَّرْتُكَ – أي اخترتُكَ أميراً للمؤمنين – لَتَعْدِلَنَّ، وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ‏.‏ ثُمَّ خَلا بِالآخَرِ – وهو عثمان – فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ – أي أخذ موافقتَهما وعَهْدَهما على الالتزامِ بقرارِه بعد أن يختار – قَال: ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمَانُ‏.‏ فَبَايَعَهُ، فَبَايَعَ لَهُ عَلِيٌّ، وَوَلَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوه". [رواه البخاري]

لقد اختلف كبار الصحابة في اجتهاداتهم، ولكن اتّفقت قلوبهم. فعلى حين لم يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدٍ بخلافته؛ اختار أبو بكرٍ أن يوصي مِن بعده لعمر، واختار عمر أن يجعلها نوعاً من أنواع الشورى، فظلّت قلوبهم جميعاً على وحدتها وتماسكها، وظلّت روح الشورى سائدةً في كلّ الحلول.
والمعروف أنّ أحداً من كبار الصحابة، حين توفّي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولدهشة الكثيرين، لم يَقبَل أن يؤمّ المسلمين في صلاة الجنازة النبويّة، فصلّى الناس عليه فُرادى، كما يخبرنا مالك بن أنس:

-       عن مالكِ بنِ أنَسٍ: "أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُوفِّيَ يومَ الإثنين – وكان ذلك عام 11 للهجرة و 632 للميلاد –، ودُفِنَ يومَ الثُّلاثاء، وصَلَّى الناسُ عليهِ أَفْذَاذاً – أي جماعاتٍ متفرّقَةً – لا يَؤُمُّهُمْ أحدٌ، فقال ناسٌ: يُدْفَنُ عِندَ المِنبر، وقال آخرونَ: يُدْفَنُ بالبَقِيع، فجاء أبو بكرٍ فقال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ما دُفِنَ نبيُّ قَطُّ إلّا في مكانِهِ الذي تُوفِّيَ فيه. فحُفِرَ لهُ فيه. فلمَّا كان عندَ غَسْلِهِ أرادوا نَزْعَ قميصِهِ فسمِعوا صوتاً يقول: لا تَنزِعوا القَميص، فلم يُنْزَعِ القميصُ، وغُسِلَ وهو عليهِ صلى الله عليه وسلم". [رواه ابن عبد البَرّ في التمهيد، وقال: صحيحٌ من وجوهٍ مختلفة][3]

وقد يتساءل المرء عن السرّ في إحجام الصحابة عن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم جماعةً. والواقع، كما نستطيع أن نتبيّنه في أخلاقهم وفي وحدة قلوبهم، أنّ أحداً منهم لم يفعل ذلك؛ تحرّجاً مِن شبهةِ أنّه يريد بإمامته للناس أن يرشّح نفسه خليفةً للمسلمين.

 



[1] الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة. بدر الدين الزركشي. تحقيق سعيد الأفغاني. المكتب الإسلامي. بيروت: 1970. ص 31-32.

[2] نفسه. ص 3.

[3] وفي روايةٍ لأبي داود عن عائشة، قالت: "لمَّا أرادوا غَسْلَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اختَلَفوا فيه فقالوا: واللهِ ما نَدْري كيف نَصنَعُ؟ أنُجَرِّدُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كما نُجَرِّدُ مَوْتانا، أمْ نَغْسِلُه وعليه ثيابُه؟ قالَتْ: فلمَّا اختَلَفوا أرسَلَ اللهُ عليهم السِّنةَ – أي جعلَهم ينامون –، حتّى، واللهِ، ما مِن القَومِ مِن رَجُلٍ إلا ذَقنُه في صَدرِه نائِماً. قالَتْ: ثمّ كلَّمَهم – أي صدَرَ صوتٌ – مِن ناحيةِ البَيتِ، لا يَدْرُون مَن هو، فقال: اغْسِلوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابُه. قالَتْ: فثاروا – أي استيقظوا وقاموا – إليه، فغسَلوا رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو في قَميصِه".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين