أمنيات الناس

 

هذه كلمات كتبت وألقيت مرتجلة قبل سنوات عندما كنت أخطب في جامع الرضا بجدة، وفيها تذكير بموضوعات يمكن أن يستفيد منها الخطيب والداعية، وقد تكرم الأخ الحبيب طارق بصفها ، وشجع على نشرها في الموقع . وأرجو أن تكون فيها فائدة.

كثير من الناس يتمنون تكديس الأموال وجمع الثروات وبناء العقارات والقصور. وأكثر أرباب الأموال وأصحاب الثروات يعيشون في شقاء وتعاسة في حياتهم الدنيا قبل الآخرة، لأنهم يتعبون في جمع الأموال وحفظها واستثمارها، ويعيشون في قلق وخوف من فوات هذا المال وزواله.

وقص القرآن الكريم علينا قصة قارون، فقال الله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79]. والنتيجة لكفره بأنعم الله كما يقول سبحانه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].

وأمية بن خلف وأمثاله سيقول يوم القيامة: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقَّة:28].

فبئس المال الذي لا يغني عن صاحبه شيئاً.

بعض الناس يتمنى أن ينال الشهرة عن طريق الرياضة والفن.

والشهرة لا قيمة لها ولا حقيقة لها إن لم ترتبط بتقوى الله سبحانه، وأهل الرياضة معظمهم يعيش في شقاء، من معسكر إلى معسكر، ومن سفر إلى سفر، لا يكاد يستقر مع أهله إلا قليلاً، وأغلبهم يفرط بمستقبله الدراسي وعدم مواصلته. أضف إلى ذلك اضطرابهم عند كل مباراة وكآبتهم عند كل هزيمة... ثم ماذا بعد ذلك إن الناس سرعان ما ينسونهم بعد الاعتزال فيزدادون ألماً وحزناً.

وبعض الناس يتمنى أن ينال أعلى الشهادات لكي يصبح دكتوراً.

وبعض الناس يتمنى أن يكون من أصحاب المناصب العالية المرموقة.

والمسؤولية همٌّ في الدنيا وحسرة وندامة يوم القيامة. وصاحب المنصب لا يفارقه الهم خوفاً من زواله، وقد يكون المنصب سبباً في هلاك صاحبه..

إن من يريد النجاة ولم يأخذ بأسبابها يصدق عليه قول الشاعر:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها=إنَّ السفينة لا تجري على اليبس

إن أعظم هدف يسعى الإنسان إليه: الحياة الطيبة. والسبيل إليها: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]. {مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69].

وفي حديث صهيب الرومي رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «عجباً لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شَكَر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر، فكان خيراً له».

النظر إلى من هو دونك في أمور الدنيا وإلى مَنْ هو فوقك في أمور الآخرة كما ورد في التوجيه النبوي الكريم: «انظروا إلى مَنْ هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله».

هذا في أمور الدنيا، لأنك إذا تذكرت من هو دونك، علمت فضل الله عليك. أما في أمور الآخرة فانظر إلى مَنْ هو أعلى منك، لتدرك تقصيرك وتفريطك.

قصر الأمل وعدم التعلق بالدنيا والاستعداد ليوم الرحيل.

يقول أحد العلماء: الحياة قصيرة فلا تقصرها بالهمِّ والأكدار.

جلس نفر من الصالحين يتذاكرون، ويتساءلون حول قصر الأمل. فقيل لأحدهم: ما بلغ منك قصر الأمل؟ فقال: بلغ مني إذا رفعت اللقمة إلى فمي، لا أدري أأتمكن من أكلها أم لا؟

ووجه السؤال نفسه إلى آخر فأجاب بقريب من ذلك.

ولما سئل ثالثهم عن مبلغ قصر الأمل في نفسه قال: بلغ مني قصر الأمل إذا خرج مني النَّفَس، لا أدري أيرجع أم لا؟

يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع شمله، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له).

من أمنيات السلف:

فها هو ذا عمر رضي الله عنه يقول: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم.

وها هو ابن مسعود رضي الله عنه يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يواري ذي البجادتين التراب ويقول: اللهم ارض عن ذي البجادتين فإني عنه راض، فيقول ابن مسعود قول اللاهف المتمني: يا ليتني كنت صاحب هذا القبر.

وها هو ذا ورقة ابن نوفل ـ رحمه الله تعالى ـ يقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم علم ببعثه: يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حياً إذ يُخرجك قومك.

وها هو ذا ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخدمه، فقال له صلى الله عليه وآبه وسلم: (سلني فقال أسألك مرافقتك بالجنة. فقال: أو غير ذلك! قال: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود). هذه أمنيته مرافقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأين؟ في الجنة، ونعم الرفيق ونعم الدار.

(الكيِّس منه دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني)، أحمد والترمذي وابن ماجه، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه .

الكيِّس: العاقل. من دان نفسه: أي: حاسبها وأذلها واستعبدها وقهرها وجعلها منقادة لأوامر ربها.

والعاجز: المقصر في الأمور من أتبع نفسه هواها: فلم يكفها عن الشهوات ولم يمنعها من مقارفة المحرمات. وتمنى على الله الأماني: فهو مع تقصيره في طاعة ربه واتباع شهوات نفسه، لا يستعد ولا يعتذر ولا يتوب، بل يتمنى على الله العفو والجنة مع الإصرار وترك التوبة والاستغفار.

قال الحسن: إن قوماً ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا، وما لهم حسنة، يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل. [وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ] {فصِّلت:23}.

والتمني مذموم وأما الرجاء فمحمود، لأن التمني يفضي بصاحبه إلى الكسل بخلاف الرجاء فإنه تعليق القلب بمحبوب يحصل حالاً.

قال الغزالي: الرجاء يكون على أصل والتمني لا يكون على أصل. فالعبد إذا اجتهد في الطاعات يقول: أرجو أن يتقبل الله مني هذا اليسير، ويتمَّ هذا التقصير، ويعفو. فهذا رجاء، وأما إذا ترك الطاعة، وارتكب المعاصي ولم يبال بوعد الله ولا وعيده، ثم أخذ يقول أرجو الجنة، والنجاة من النار فهذه أمنية لا طائل تحتها.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 8/8/2020

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين