ألوان من أدب السلوك

للأستاذ مصطفي محمد الطير

قال الله تعالى :  [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا] {الأحزاب:21}
البيان
الناس جميعا سواسية في إنسانيتهم‌ ومنشئهم، فكلهم لآدم ،وآدم من‌ تراب، وإنما يتفاوتون في الفضائل‌ والمكارم، فنرى بعضهم يرتقي بها  إلى ‌ أعلى القمم، ونرى آخرين ينحدرون‌ بتركها  إلى  أعمق البؤر.
وجمال المرء لا يكون بحسن‌ صورته، فكم من جميل المحيا شوهته‌ معايبه، ونفّرت الناس منه مفاسده،  وكم من إنسان لا تجذبك  إليه صورته، وإنما تشدك  إلى سجاياه‌ وخلائقه، فالكمال الخلقي هو الجمال‌ الرفيع، والجمال الصوري بدون‌ فضائل هو القبح الوضيع.
وأعظم ما عني به الإسلام بعد الإيمان بالله ورسوله، هو جمال‌ السجايا ومحاسن الشيم، وما بعث‌ محمد صلى الله عليه وسلم إلا ليتمّم‌ مكارم الأخلاق التي جاء بها النبيون‌ من قبله.
واعلم أن المسلم الحق لا يعتبر مسلماً بنمو صلاته وصيامه فحسب، ولكنه يكون مسلماً حين يتحلى بمكارم‌الأخلاق، ويزدان بآداب السلوك،  فالدّين ما وقرَ في القلوب، وترجمته‌ الأقوال والأفعال، الدين المعاملة،  وليس الرياء والفحش والايذاء.
لهذا رأيت أن أقدم لك أيها الأخ‌ المسلم زهورا ذاكية فواحة العبير من‌ فواضل الأخلاق، قطفتها لك من رياض السنة الفينانة، راجياً أن‌ يتضوع شذاها في أعطاف نفسك، وأن تنفعل بها في معاملتك وسلوكك،  ليكون لك بهذه الأخلاق الكريمة ائتساء واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله تعالى  إذ يقول: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا] {الأحزاب:21}
عليك أيها الأخ المسلم أن تكون‌ طلق المحياَّ، بادي البشر، رفيقاً بالعباد، ليناً سهلاً في قولك ومعاملتك،  فتلك الخلال منجاة من النار، قال‌ صلى الله عليه وسلم: «أتدرون على من حرمت النار؟قالوا: الله ورسوله‌ أعلم، قال: على اللين السهل‌ القريب»أخرجه الترمذي وحسنه.
وقال بعض الصحابة: «يا رسول‌ الله. دلني على عمل يدخلني الجنة،  فقال صلى الله عليه وسلم: «إن من‌ موجبات الجنة: بذل السلام وحسن‌ الكلام»أخرجه البيهقي وغيره بإسناد جيد، وقال صلى الله عليه وسلم:  «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم‌ يجد فبكلمة طيبة» متفق عليه. وقال‌ عبد الله بن عمر: إن البر شي‌ء هين،  وجه طليق وكلام لين.
ومن السجايا الكريمة التي ينبغي‌ التخلق بها: الصدق في القول،  والوفاء بالوعد، وأداء الأمانة، فإنها من أجلِّ صفات المؤمن، أما أضدادها فهي من صفات المنافق، قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث في المنافق، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف،  وإذا ائتمن خان» متفق عليه.
ولن يكمل إيمانك حتى تنصف‌ الناس من نفسك وتأتيهم بما تحب أن‌ تؤتى، وتبذل من المال؟ الذي‌ استخلفك الله عليه، ويكون السلام‌ والأمان منهجك قولاً وعملاً، قال‌ صلى الله عليه وسلم: «لا يستكمل‌ العبد الإيمان حتى يكون فيه ثلاث‌ خصال، الإنفاق من الإقتار - أي : قلة المال وضيق الحال- والإنصاف من نفسه، وبذل السلام» ،وقال: «من سره أن يزحزح عن‌ النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو بشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسوله، وليأت  إلى  الناس ما يحب أن‌يؤتى»أخرجه مسلم.
رد الجميل
ومن الآداب الإسلامية أن ترد الجميل لمن أسداه  إليك، روي أن‌ خيلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، غزت قبيلة بني سعد التي‌ ارتضع فيها الرسول، وكان أهلها مشركين وقتئذ، وغنم الغزاة منها غنائم، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضعته حليمة السعدية، فبسط لها رداءه ثم قال لها:  (مرحبا بأمي) ،ثم أجلسها على ردائه‌وقال لها: «اشفعي تشفعي، وسلي‌ نعطي» فقالت قومي: فقال: (أما حقي‌ وحق بني هاشم فهو لك) فقال الناس‌ من كل ناحية وقالوا: وحقنا يا رسول:  يريدون أنهم تنازلوا لها عن حقهم في‌ مغانم قومها، أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم وصلها الرسول صلى الله عليه وسلم وأخدمها - أي أعطاها وجعل‌ لها خدماً - ،ووهب لها سهمانه‌ بحنين - أي: أعطاها أسهمه من غنائم حنين- فبيع  ذلك من عثمان بن عفان‌ بمائة ألف درهم، رواه أبو داود والحاكم وصححه.
ومن الآداب الإسلامية :إكرام كريم‌ القوم إذا قدم عليك، روي أنه صلى الله عليه وسلم دخل بعض بيوته،  فدخل عليه أصحابه حتى غص‌ المجلس وامتلأ، فجاء جرير بن عبد الله البجلي، فلم يجد مكانا، فقعد على الباب، فلف رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه فألقاه  إليه وقال له:  «اجلس على هذا» فأخذه جرير رضي الله عنه ووضعه على وجهه، وجعل يقبله‌ ويبكي، ثم لفه ورمى به  إلى  النبي‌ صلى الله عليه وسلم وقال: ما كنت‌ لأجلس على ثوبك، أكرمك الله كما أكرمتني، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يميناً وشمالاً ثم قال: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» أخرجه‌ الحاكم وقال :صحيح الإسناد.
الإصلاح بين الناس:
ومن الآداب الإسلامية : الإصلاح بين المختلفين، ليسود السلام بينهما،  حتى لا يتطور خلافهما  إلى  ما لا تحمد عقباه، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من‌ درجة الصلاة والصيام والصدقة، قالوا بلى، قال إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة»أخرجه‌ أبو داود والترمذي وصححه.
فأنت ترى من هذا الحديث‌ الشريف أن إصلاح ذات البين، أفضل‌ عند الله من الصلاة والصيام والصدقة،  لما يترتّب عليه من الطمأنينة والسلام‌ في الأمة، وأن فساد ذات البين يحلق‌ الدين ويستأصله؛لما يترتّب عليه‌ من العداوة والفتن والآثار الضارة بالمجتمع الإسلامي، فاحرص على الإصلاح بين الناس-أيها الأخ‌ المسلم-مـا دمت قادراً عليه، لتحصل‌ على أجره العظيم، وقد أباح لك‌ الدين أن تكذب في سبيل هذا الإصلاح، فهو كذب لا ضرر فيه،  بل له منافع عظيمة، ومن القواعد الأصولية :الضرورات تبيح‌ المحظورات - فلا علبك من وزر في‌ أن تقول لأحدهما أوكليهما-مثلاً- : لقد سمعت من فلان ثناءً عليك،  وحرصاً على مودتك مع أنك لم تسمع‌ منه ذلك.
وفي إباحة الكذب للإصلاح يقول‌ النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس‌ بكذاب من أصلح بين اثنين، فقال‌ خيراً أو نمَّا خيراً»متفق علىه -أي‌: ليس آثما على كذبه هذا فإنه سيترتّب‌ عليه الصلح بين المتخاصمين، واستئصال‌ جذور الشر من بينهما، واستقرار الأمن في البيئة الإسلامية، وذلك له‌ عند الله وزن كبير.
الستر على المسلم:
ومن الأخلاق الإسلامية: أن تستر عورة أخيك المسلم، وأن لا تشنع‌ عليه، قال صلى الله عليه وسلم: «من‌ ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة»أخرجه الإمام مسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يندبك‌ أيها المسلم لستر عورة أخيك، ويعدك‌ -وهو الصادق المصدق- بستر الله‌لعورتك في الدنيا والآخرة وما من‌ مسلم إلا له عورة يرجو أن يسترها الله له في الدنيا والآخرة، حتى يظل‌ كريماً على الله وعلى الناس.
ولقد كان السلف الصالح على هذا النمط الرفيع من الأخلاق، قال أبو بكر رضي الله عنه: لو وجدت شارباً لأحببت أن يستره الله، ولو وجدت‌ سارقا لأحببت أن يستره الله.
وروي أن عمر رضي الله عنه كان‌ يعس بالمدينة ذات ليلة - أي يمر بها ليتعرف شئون الرعية - فرأى رجلاً وامرأة على فاحشة، فلما أصبح قال‌ للناس: أرأيتم لو أن رجلا وامرأة على فاحشة، فلما أصبح قال‌ ما كنتم فاعلىن؟قالوا إنما أنت إمام،  فقال علي رضي الله عنه: ليس ذلك‌ لك، إذاً يقام علىك الحد - يريد بالحد حد القذف ، حيث قذفهما بالزنا بلا بيِّنة -
إن الله‌ لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهود، ثم تركهم ما شاء الله أن‌ يتركهم، ثم سألهم، فقال القوم مثل‌مقالتهم، فقال علي رضي الله عنه مثل‌ مقالته الأولى، وهذا يشير  إلى  أن عمر رضي الله عنه، كان متردداً في أن الوالي ‌هل له الحق في أن يقضي في الحدود بعلمه، فلذا راجعهم خيفة أن لا يكون‌ له ذلك، فيكون قاذفاً بإخباره، ثم‌ اطمأن  إلى  رأي علي-رضي الله عنه- فأمضاه وأخذ به، لاستناده  إلى  حجة لا يمكن تخطيها، وهي النص القرآني‌
[فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ] {النساء:15}
وهذا النص واضح في طلب الشرع‌ ستر الفواحش، فإن اجتماع أربعة شهود ليشهدوا الواقعة من غير لبس‌ أمر لا يمكن توافره، فلا يبغي إلا الستر وهو المطلوب، لأن الكشف‌ بالحديث عن واقعة الزنى من غير شهود، يعتبر قذفا يستوجب الحدّ المقرر له، وهو ثمانون جلدة، مع رد شهادة القاذف والحكم بفسقه، قال‌ تعالى : [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {النور:4}
وعن‌ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه‌ قال: خرجت مع عمر بن الخطاب‌ رضي الله عنه ليلة في المدينة، فبينما نحن نمشي اذ ظهر لنا سراج،  فانطلقنا نؤمُّه، فلما دنونا منه إذا باب‌ مغلق على قوم لهم أصوات ولغط،  فأخذ عمر بيدي وقال: أتدري بيت‌ من هذا؟ قلت لا، فقال: هذا بيت‌ ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن‌ شرب -أي يشربون الخمر- فماذا ترى؟ قلت أرى أنا قد أتينا أمراً نهانا الله عنه، قال الله تعالى :  «ولا  تجسسوا»
فرجع عمر رضي الله‌ عنهم وتركهم لوضوح الدليل.
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه : «إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم‌ أو كدت تفسدهم»رواه أبو داود بسند صحيح، وقال صلى الله علىه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه‌ ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه‌ من يتبع عورة أخيه، يتبع الله عورته‌ ،ومن يتبع الله عورة أخيه، يتبع الله عورته‌ومن يتبع الله عورته يفضحه ولوكان‌ في جوف بيته»رواه أبو داود بإسناد جيد، وروى الترمذي نحوه وحسنه.
وروي أن ابن مسعود جاءه رجل‌ بآخر نشوان-أي سكران- فقال‌ ابن مسعود: استنكهوه -أي شموا فمه- فاستنكهوه فوجدوه نشوان،  فحبسه حتى ذهب سكره، ثم دعا بسوط، ثم قال للجلاد اجلد وارفع‌ يدك، وأعط كل عضو حقه. فجلده‌ وعليه قباء أو مرط، فلما فرغ قال‌ للذي جاء به: ما أنت منه؟قال :عمه،  قال عبد الله: ما أدبت فأحسنت الأدب‌ ولا سترت الحرمة،إنه ينبغي للإمام‌ إذا انتهي  إليه حد أن يقيمه، وإن الله‌ عفو يحب العفو، ثم قرأ: «[ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا] {النور:22} »
ثم قال: إني لأذكر أول‌ رجل قطعه النبي صلى الله عليه وسلم،  أتي بسارق فقطعه، فكأنما أسف‌ وجهه، فقالوا :يا رسول الله، كأنك‌ كرهت قطعه، فقال: وما يمنعني؟ لا تكونوا عوناً للشياطين على أخيكم،  فقالوا: ألا عفوت عنه، فقال: إنه ينبغي للسلطان إذا انتهى إليه حد أن‌ يقيمه، إن الله يحب العفو، وقرأ [ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {النور:22} رواه‌ الحاكم وصححه.
وروي أن عمر رضي الله عنه كان يعس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في‌ بيت يتغني، فتسور عليه، فوجد عنده‌ امرأة وعنده خمر، فقال: يا عبد الله‌ أرأيت أن الله يسترك وأنت على‌ معصيته، فقال: وأنت يا أمير المؤمنين‌ فلا تعجل، فإن كنت قد عصيت الله‌ في واحدة، فقد عصيت الله ثلاثاً،  قال الله تعالى : [وَلَا تَجَسَّسُوا] {الحجرات:12} » وقد تجسست، وقال: [وَلَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا] {البقرة:189}  وقد تسوَّرت‌ علي، وقال تعالى :  [ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا] {النور:27}  وقد دخلت بيتي بغير إذن ولا سلام، فقال عمر رضي الله‌عنه: هل عندك من خير إن عفوت‌ عنك؟قال :نعم ،والله يا أمير المؤمنين‌ إن عفوت عني لا أعود  إلى  مثلها أبدا،  فعفا عنه وتركه.  
سترك على نفسك أولى:
أيها المسلم المقصِّر في حقِّ ربك‌ وحق نفسك وحق الناس، المقيم على‌ معصية الله، لقد طلب مولاك أن‌ يستر المسلمون على معصيتك، لعلك‌ تثوب  إلى  رشدك، وترجع عن معصيتك‌ ألست أولى بالمحافظة على عرضك‌وكرامتك من جميع الناس، وهل‌ تظن أن ستر الناس علىك سوف‌ يستمر  إلى  أمد بعيد، فهل أمنت أن‌ يفضحك الله على رءوس الأشهاد،  [وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ] {الأعراف:183} فمن‌ يستر لك فضيحتك يومئذ وهي مما لا يمكن ستره، وماذا تصنع يوم‌ يحاسبك الله على جرائمك في ساحة القيامة، والناس جميعاً إليك ينظرون،  وإلى  سوء مصيرك ينتظرون، ثم يأمر بك الله  إلى  النار، لعقابك على‌ ما ارتكبت من الأوزار، فتدارك نفسك‌ عاجلاً بالمتاب، فإن الله تعالى  يقبل‌ التوبة ممن تاب، وفقنا الله واياك‌ لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر : مجلة الأزهر السنة 46، شوال1394 الجزء الثامن.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين