عنوان مزعج، لكن المزعج أكثر أن تجده عنوان فصل في كتاب يؤرخ رحلة إلى حج بيت الله الحرام. إنه كتاب (الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف) لأمير البيان ونادرة الزمان، الأستاذ شكيب أرسلان، رحمه الله تعالى، والمعروف بالرحلة الحجازية.. والذي أشرف على طباعته السيد محمد رشيد رضا، منشئ مجلة المنار، رحمهما الله تعالى. وكانت طبعته الأولى سنة ١٣٥٠هجري.
كما يظهر من عنوان الكتاب، فإن أمير البيان عمد إلى تدوين خواطره الإيمانية المتولدة عن هذه الرحلة المقدسة، كما ضمن الكتاب مشاهداته، وكثيرا من المعلومات التاريخية عن تلك البقاع، غير أن الذي يلفت النظر هو تحرقه على ما آلت إليه أحوال تلك الديار، حيث تحولت إلى أراض قاحلة بعد أن كانت زمن الصحابة وتابعيهم حدائق غناء، كما يتكلم بحرقة عن ندرة المياه في مكة بعدما كانت في زمن الصحابة والتابعين تزخر بينابيع المياه العذبة التي تجر إلى مكة من أماكن متعددة خدمة لحجيج بيت الله الحرام، ويتكلم بشيء من الإسهاب عما قام به الصحابي الجليل عبد الله بن عامر بن كُرَيز، رضي الله عنه، من إنشاء أحواض المياه، وغرس البساتين، وبناء القصور في عرفات خاصة، إلا أن الأبناء لم يحافظوا على إرث الآباء، فتسببوا بتعطيل تلك الآبار التي حفرها أسلافنا، ولم يحاولوا حتى إصلاح ما أنشؤه، «فنحن تُرانا بعكس القاعدة: نعجز في عنفوان المدنية عن مباراة ما حققه أجدادنا».
ثم ينقل من كتاب المسالك والممالك لابن حوقل، وهو من علماء القرن الرابع هجري، نصوصا تصف تلك البساتين الغناء، وعيون الماء، ثم يتكلم بحرقة عن تغير كل ذلك، فالبساتين بارت، والمياه غارت، وتحولت تلك الديار إلى بلاقع حارة، وذلك بسبب استيلاء المتولين على أموال أوقافها.
ما الذي لم يتغير؟
إلا أن أمرا واحدا، يقول الأمير، إنه لم يتحرف - مع الأسف - ولا تغير، وهو «أكل أموال الأوقاف، حتى التي على حياض الماء» ثم يبين أنها «شنشنة قلَّ أن يخلو منها بلد من بلدان الإسلام، وبسببها تعطلت هذه البلدان».
طبعا كلامه هذا كان في السنة التي حج فيها إلى بيت الله الحرام، وهي ١٣٤٨ هجري،. وكان تدوينه لها بعد عام في ٥ ذي الحجة سنة ١٣٤٩، الموافق له نيسان 1931م، وطبع الكتاب سنة ١٣٥٠.
فهو يبين بوضوح تام أن آباءنا «لم يقصروا في حبس العقارات الدارة على كل ما يخطر في البال من طرق الإنسانية ووسائل المدنية، ولكن الخلف - إلا من رحم ربك - خانوا أمانات السلف، وخاسوا بعهدهم، وتركونا خجالى أمام الأجانب في مساكننا ومدائننا»، إلى أن قال: «فالوقف لا يمضي عليه قرن أو نصف قرن حتى تتعاوره الأيدي بالأكل والبلع، وكثيرا ما يندرس ولا يبقى إلا ذكره في الكتب أو على ألسنة الناس»
أوقاف طرابلس
إنها حقيقة مرة يذكرها الأستاذ شكيب أرسلان بحسرة بالغة.
ومما يزيد الأمر حسرة ما جاء في حاشية الكتاب من تعليق للأستاذ الكبير الشيخ محمد رشيد رضا، محقق الكتاب، رحمه الله تعالى، وهو ابن شمال لبنان، من مدينة (القلمون)، فيذكر في حاشية ص ٣٢، تعليقا على عبارة الأمير عن الوقف أنه (تتعاوره الأيدي بالأكل والبلع)، عبارة حفظها عن شقيق جده السيد أحمد أبي الكمال رحمه الله، وكانت له عناية بالتاريخ، وهذه العبارة تتعلق بأوقاف طرابلس، ونصها: «في كل مائة سنة يتحول وقف طرابلس مِلكا، وملكها وقف»، كناية عن التقلبات والتغيرات التي تصيب الوقف.
إنه واقع مؤلم جدا، فما زلنا حتى اليوم نرى كيف أن أوقاف طرابلس خصوصا تتلاشى بسبب جهل القيمين عليها بسبل استثمارها وتطويرها من ناحية، ومن ناحية أخرى من طمع المتمولين بأملاك الأوقاف. والنتيجة الحتمية هي ما عنون له أمير البيان لهذا الموضوع بقوله (سوء تصرف المسلمين في أوقاف سلفهم وأكلها بالباطل).
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول