أكثر مودَّات الرجال سراب

ابن حزم الظاهري
لا يعيش الإنسان دون أن تكون له علاقة وصل مع الناس، يتبادل و إياهم فيما بينهم أمور حياتهم، فتلك غريزة فيه، و تلك حكمة مقصودة من خلق الإنسان، حيثُ التعارفُ يُحدث التثاقُف، و التثاقُف يأتي بالخلاف، فتُعمر الحياة بذلك، و لا تكون تلك المقاصد متحققة إلا من خلال التواصل مع الناس.
 
يحدُثُ في التواصل، أو العلاقة، مع الناس ما يجعلها تنقطع، أو على أقل الأحوال، يتباعد الطرفان، وهذا أيضاً من الأمور الطبيعي حدوثها، إذْ لا شيءَ دائم، و لا شيءَ باقٍ على حاله، إلا أنَّ هناك شيئاً جديراً بأن يُراعى والحالة هذه، وهو حفظ قيمة العلاقة و منزلتها، فلا تعني حالة الانفصال بين الطرفين أن تكون عداوة، و إن كانت عداوةً ثَمَّ فالأصيلُ الكريمُ من يحفظ مكانة تلك العلاقة، فيُحسن مراعاتها، و لا يكون الانفصال أو البُعد سبباً للوقيعة في الطرف الآخر.
 
هذا التصرف مع العلاقات بين الناس، أقصد: عدم حفظ المكانة للعلاقة بعد انفصالها، لا يكون من نفسٍ شريفة، و لا من نفسٍ صادقة في إنشاء التواصل، إذ النفوسُ الشريفة لا تُقيم تواصلاً مع أحد إلا إذا كان متناغماً و سائراً مع أصول الشرف لديها، لأنها ستمنحه شيئاً من ذاتها و نفسها، و أما من لا يُكرم العلاقة التي بينه و بين صاحبه بعد انفصالها، فهو إنسانٌ لم يرقَ إلى منزلةِ إكرام ذاته، و لأجل هذا كانت قوانين الأدبِ مبثوثة في أقوال أهل الكمال، حيثُ الجائيُّ من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” خيرهما من يبدأ بالسلام ” وهذا البادئُ بالسلامِ حافظٌ قيمة ما بينه و بين صاحبه في حال ابتعادهما.
 
يُقيَد هذا في أن يكون الطرف الآخر متقبِّلاً، أما إذا كان لا يقبلُ فلا أكرم من صَون النفس، فربما أحدث الإنسان تواصُلاً فقصدَه الآخر بسوء معاملة، ومثل هذا نفسٌ منفوسةٌ بسوء الأدب، السلامة منها مطلبٌ كماليٌ.
 
ومهما يكن، فالأهم أن يكون القلبُ سليماً، و قائما في حفظ و رعاية المنزلة للصاحب البعيد، فمنقبةٌ كهذه لا تتأتَّى لكل أحد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين