أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

 

النبي صلى الله عليه وسلم قدوتنا وأسوتنا، والاقتداء به في الواجبات واجب، وفي المسنونات سنة. ومما يسن الاقتداء به الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر منه؛ لأنه ذلك أهدى وأجدى، وأكثر بركة، وأوسع خيرا، وأدفع للشر. ومن حُرِم الاقتداء به في ذلك فقد حرم خيرا كثيرا. ولهذا كان جاء عن عدد من الصحابة بيان الأدعية التي كان يكثر منها النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم كان يتحرى السؤال عن ذلك.

 

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الدعاء بجوامع الكلم في أمورٍ منها الخمسة الآتية:

 

1– الاستغفار.

2– الدعاء للأمة.

3– الدعاء بحسنتَي الدنيا والآخرة.

4– الدعاء بالثبات.

5– الاستعاذة من الشرور الأربع.

فهذه هي الدعوات التي كان يكثر منها النبي صلى الله عليه وسلم كما صرَّح بذلك الصحابة الرواة لها، ولا يشمل ذلك ما يمكن أن نعرف كثرته بالاستقراء للأحاديث، وفيما يلي بيان تلك المواضع الخمسة:

 

1. جوامع الدعاء

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك. رواه أبو داود بسند جيد كما قال النووي في رياض الصالحين. وقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم. ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بعثت بجوامع الكلم”، وعن عمرو بن العاص، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودِّع، فقال: “أنا محمد النبي الأمي”. قال ذلك ثلاث مرات. “ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه”. وتفسير ذلك فيما خرَّجه أبو يعلى الموصلي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “إني أوتيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي اختصارا” (انظر جامع العلوم والحكم).

 

والأدعية النبوية مما تجلت فيه هذه المنحة الإلهية لسيد البرية. وهي أدعية كثيرة حفلت بها كتب السنة.

 

وقد دل النبي صلى عليه وسلم الصحابة على جامع تلك الأدعية الجامعة كلها، فعن أبي أمامة، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئا، قلنا: يا رسول الله، دعوت بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئا، فقال: “ألا أدلكم على ما يجمع ذلك كلَّه، تقول: اللهم إنا نسألك من خيرِ ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شرِّ ما استعاذَ منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله” رواه الترمذي وقال حديث حسن.

 

 

2. الاستغفار

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الاستغفار، وهو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. والاستغفار طلب المغفرة.

 

وقد ثبت أنه كان يستغفر في اليوم 100 مرة، فعن الأَغَرِّ المُزَنيِّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:« إِنَّهُ لَيُغَانُ على قَلْبي، وَإِني لأَسْتغْفِرُ اللَّه في الْيوْمِ مِئَةَ مرَّةٍ» رواه مسلم.

 

بل جاء أنه كان يستغفر 100 مرة في المجلس الواحد، فعن ابْنِ عُمر رضي الله عنهما قال: كُنَّا نَعُدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلِس الواحدِ مائَةَ مرَّةٍ: «ربِّ اغْفِرْ لي، وتُبْ عليَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوابُ الرَّحِيمُ » رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث صحيح .

 

وأكثر الأحوال التي كان صلى الله عليه وسلم يكثر فيها الاستغفار هي قبل موته، ففي آخر سورة كاملة نزلت عليه صلى الله عليه وسلم، وهي سورة النصر، أٌمر بالاستغفار، ولهذا كان يكثر منه أكثر من ذي قبل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْل موْتِهِ: « سُبْحانَ اللَّهِ وبحمْدِهِ، أَسْتَغْفِرُ اللَّه وأَتُوبُ إِلَيْهِ» متفقٌ عليه. وفي ذلك حكمة وهي الإكثار من الخير في أواخِر العُمر، وقد بوَّب النووي في رياض الصالحين بابا عنونه بباب الحثِّ على الازدياد من الخير في أواخِر العُمر، وذَكر فيه روايات للحديث السابق، وختمه بحديث: « يُبْعثُ كُلُّ عبْدٍ على ما مَاتَ علَيْهِ » رواه مسلم.

 

وقد يسأل سائل: كان أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم الاستغفار مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟

 

قال النووي: وأما استغفاره — صلى الله عليه وسلم — وقوله — صلى الله عليه وسلم -: اللهم اغفر لي ذنبي كله، مع أنه مغفور له، فهو من باب العبودية والإذعان والافتقار إلى الله تعالى. والله أعلم.

 

وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم فوائد الإكثار من الاستغفار، ومنها مغفرة الذنوب، ومنها ما جاء فيما رواه ابن عباس: « منْ لَزِم الاسْتِغْفَار، جعل اللَّه لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مخْرجاً، ومنْ كُلِّ هَمٍّ فَرجاً، وَرَزَقَهُ مِنْ حيْثُ لا يَحْتَسِبُ » رواه أبو داود، وقد بيَّن نوح عليه السلام لقومه ذلك أيضا كما في جاء في سورة نوح، وهناك فوائد أخرى للاستغفار لا يسعها المقام.

 

ومن جهة النظر المقاصدي، فإن كثرة الاستغفار من عموم المسلمين تعني كثرة التوبة والمراجعة للنفس والإقلاع عن المفاسد والمعاصي الصغيرة والكبيرة، وهذه تنقية متواصلة، وقطع مستمر مع الفساد.

 

وبهذا يتبين أن أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق كان الاستغفار، وأكثر المواضع التي أكثر فيها الاستغفار:

 

- المجالس.

 

- ودبر الأعمال الصالحة.

- ولمـَّا يُغان على القلب، وهو شيء من الكتمة والغم وما أشبه ذلك كما قال العلماء.

- وفي أواخر العمر.

 

 

3. الدعاء للأمة

عن عائشة أنها قالت: لَمَّا رَأَيْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طِيبَ نَفْسٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ لِي، فَقَالَ: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنَبِهَا وَمَا تَأَخَّرَ، مَا أَسَرَّتْ وَمَا أَعْلَنَتْ”، فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ حَتَّى سَقَطَ رَأْسُهَا فِي حِجْرِهَا مِنَ الضَّحِكِ، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَيَسُرُّكِ دُعَائِي”؟ فَقَالَتْ: وَمَا لِي لَا يَسُرُّنِي دُعَاؤُكَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “وَاللَّهِ إِنَّهَا لَدُعَائِي لِأُمَّتِي فِي كل صلاة” أخرجه ابن حبان، والحاكم بلفظ قريب، وصححه الألباني.

 

وقد بوَّب النووي لصحيح مسلم باب دعاء النبي لأمته وبكائه شفقة عليها، وفيه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: “أن النبي صلى الله عليه وسلم: تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي الْآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ –وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، –وَهُوَ أَعْلَمُ-، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ”.

 

ولا شك أن كثرة دعائه لأمته إحدى معالم حرصه ورأفته ورحمته بأمته التي وصفه بها القرآن: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 28 ). ولعل دعاءه لأمته من الكثرة ما يمكن أن تكون بعد كثرة استغفاره والله تعالى أعلم. ولقد خبّأ أعظم دعواته، وهي الدعوة المستجابة لكل نبي لأمته، للشفاعة العظمى لأمته يوم القيامة كما جاء بذلك الحديث الصحيح.

 

ومن أعظم ما كان يدعو به النبي لأمته كلها المغفرة، وقد أمره القرآن بها، فعن عبد الله بن سرجس قَالَ: ” َأتيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا، وَلَحْمًا، أَوَ قَالَ: ثَرِيدًا، قَالَ، فَقُلْتُ لَهُ : أَسْتَغْفَرَ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : “وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ” سورة محمد آية 19، قَالَ: ثُمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عِنْدَ نَاغِضِ (= أعلى) كَتِفِهِ الْيُسْرَى جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلَانٌ كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ”.

 

وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:“مَنْ قَالَ كُلَّ يَوْمٍ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أَلْحِقْ بِهِ مِنْ كُلِّ مُؤْمِنٍ حَسَنَةً “رواه الطبراني.

 

ولا شك أن دعاء النبي لأمته كثير كثير؛ لأنه جاء لهدايتها وإخراجها من الظلمات إلى النور.

 

 

 

4. الدعاء بحسنتي الدنيا والآخرة

ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وزاد مسلم في روايته: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه.

 

ولا يجوز أن يدعو المسلم على نفسه بحرمان حسنة الدنيا من أجل حسنة الآخرة، فعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ ” قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سبحان الله ! لا تطيقه، أو لا تستطيعه، فهلا قلت:(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) “. قال: فدعا الله، فشفاه. رواه أحمد.

 

وحسنة الدنيا وحسنة الآخرة اسم جامع لكل خير وحسن معنوي ومادي، وإن كان بعضه أكبر وأولى من بعض ولا شك.

 

قال الطبري في تفسيره: “وقد تجمع “الحسنة” من الله عز وجل العافية في الجسم والمعاش والرزق والعلم والعبادة وغير ذلك. وأما في الآخرة، فلا شك أنها الجنة؛ لأن من لم ينلها يومئذ فقد حرم جميع الحسنات، وفارق جميع معاني العافية”.

 

وقال ابن كثير:” فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر.

 

فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلَّها مندرجة في الحسنة في الدنيا .

 

وأما الحسنة في الآخرة، فأعلى ذلك دخول الجنة، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام “.

 

ومما أورد ابن كثير في تفسيره أن أنسا بن مالك، قيل له: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم. فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام، قال: يا أبا حمزة، إن إخوانك يريدون القيام فادع لهم فقال: تريدون أن أشقِّق لكم الأمور، إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقاكم عذاب النار، فقد آتاكم الخير كله.

 

 

 

5. الدعاء بالثبات

عنْ شَهْرِ بْنِ حوشَبٍ قال: قلت لأم سلمةَ رضي الله عنها، يا أُمَّ المؤمنين ما كَانَ أَكْثَرُ دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كانَ أَكْثَرُ دُعائِهِ: « يا مُقلبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قلْبي علَى دِينِكَ »، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لأَكْثَرِ دُعَاءِكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قَالَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ: “إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ “، فَتَلَا مُعَاذٌ: “رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا” سورة آل عمران آية 8 رواه الترمذي وحسنه وقال: وفي الباب، عن عائشة، والنواس بن سمعان، وأنس، وجابر، وعبد الله بن عمرو، ونُعيم بن هَمَّار.

 

وعند ابن ماجه بلفظ قريب فيه :” يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ”.

 

وفي صحيح مسلم جاء الدعاء بلفظ “يا مصرف القلوب”؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:” إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ” .

 

وهناك ألفاظ أخرى للدعاء النبوي بالثبات، منها: الاستعاذة من الحَور بعد الكَون أو الكَور.

 

فعن الله بن سَرْجِس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إِذَا سَافَرَ يَتَعَوَّذُ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ، وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَال” رواه مسلم، والترمذي وقال: ويروى الحور بعد الكور أيضا، ومعنى قوله: الحور بعد الكون أو الكور وكلاهما له وجه يقال: إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، إنما يعني من الرجوع من شيء إلى شيء من الشر.

 

وقال النووي في شرح مسلم: قال غيره من العلماء معناه بالراء والنون جميعا الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص، قالوا ورواية الراء مأخوذة من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها، ورواية النون مأخوذة من الكون مصدر كان يكون كونا إذا وجد واستقر، قال المازرى في رواية الراء قيل أيضا أن معناه أعوذ بك من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا فيها، يقال كار عمامته إذا لفها وحارها إذا نقضها، وقيل نعوذ بك من أن تفسد أمورنا بعد صلاحها كفساد العمامة بعد استقامتها على الرأس. وعلى رواية النون قال أبو عبيد: سئل عاصم عن معناه فقال: ألم تسمع قولهم : حار بعد ما كان، أي: أنه كان على حالة جميلة فرجع عنها، والله أعلم .

 

6. الاستعاذة من الشرور الأربع

عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَدْعو في الصلاةِ: اللَّهُمَّ إني أعوذُ بك مِن عَذابِ القَبر، وأعوذُ بك مِن فِتنَةِ المَسيحِ الدَّجَّالِ، وأعوذُ بك مِن فِتنَةِ المَحْيا وفِتنَةِ المَماتِ، اللَّهُمَّ إني أعوذُ بك مِنَ المَأثَمِ والمَغْرَمِ. فقال له قائِلٌ: ما أكثَرَ ما تَستَعيذُ مِنَ المـَـغرَمِ ؟ فقال: إنَّ الرجلَ إذا غَرِمَ، حدَّثَ فكَذَبَ، ووعَدَ فأخْلَفَ”. متفق عليه.

 

فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في صلاته، أي كان يكثر، من الاستعاذة من تلك الشرور الأربع:

 

- عذاب القبر.

- وفتنة المسيح الدجال.

- وفتنة المحيا والممات.

- والمأثم والمـَغْرَم.

 

غير أن لا بد من التنبيه إلى أن الدَّين والمغرم نوعان: دين معان عليه غير مستعاذ منه؛ وهو ما كان للمستدين نية وقدرة عليه في الغالب، ودين مستعاذ منه غير معان عليه؛ وهو ما لا نية، أو لا قدرة على سداده، أو ما كان بمعصية أو لمعصية. وأصل هذا التفريق بين الدَّينين الجمع بين حديث الاستعاذة من المغرم، وحديث عبد الله بن جعفر مرفوعا: ‏(‏إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه، ما لم يكن فيما كره الله عز وجل‏)‏‏ [صحيح ابن ماجه وعند الطبراني بلفظ قريب فيه “المدين”].‏

 

قال ابن المنير: لا تناقض بين الاستعاذة من الديْن وجواز الاستدانة؛ لأن الذي استُعيذ منه غوائلُ الدين، فمن ادَّان وسلِم منها، فقد أعاذه الله وفعل جائزا. (فتح الباري وانظر توجيه الطبري الذي نقله ابن بطال في شرحه على البخاري).

 

هذا، وإن من الفوائد التي تُجتنى من الأدعية التي كان يكثر منها صلى الله عليه وسلم:

 

- أن الاستغفار كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، يليه في ذلك الدعاء للأمة والله أعلم، والأول يدل على كمال العبودية، والثاني يدل على كمال الرحمة.

 

- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشد افتقارا إلى الله تعالى، مع أنه نبي، ولهذا كان يكثر من الدعاء بالتثبيت بصيغ مختلفة، فكيف الحال بمن ليسوا أنبياء؟

 

- أن الإسلام يجمع بين الحسنيين، حسنى الدنيا وحسنى الآخرة، ولهذا مع أنه صلى الله عليه وسلم كان أزهد الناس وأورع الناس، فقد كان يكثر من الدعاء بحسنتي الدنيا والآخرة.

 

- أن الحسنات بعضها أعظم من بعض، والسيئات كذلك، ولهذا جاءت الأدعية التي كان يكثر منها النبي صلى الله عليه وسلم، بطلب أعظم الحسنات، والاستعاذة من أعظم السيئات.

 

- أن من فقه الدعاء: فقه ما كان يكثر منه النبي صلى الله عليه وسلم، وفقه جوامع دعائه صلى الله عليه وسلم.

 

- أن الأدعية النبوية هي في أصلها من باب تأول القرآن، فعن عائشة قَالَتْ: “كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ” متفق عليه، وكذلك كان يفعل في صلاة الليل، فعن حذيفة أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَفِي سُجُودِهِ : سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، وَمَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ عِنْدَهَا فَسَأَلَ، وَلَا بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ عِنْدَهَا فَتَعَوَّذَ” رواه مسلم وأبو داود واللفظ له. ولهذا فالقرآن أصل الأدعية النبوية، إضافة إلى ما أوحى الله تعالى به عليه صلى الله عليه وسلم

 

- أن الدعاء بالمأثور، قرآنيا ونبويا، هو خير مَرَدًّا وأعظم قيلاً، ولكنه مسنون غير واجب لا في الصلاة ولا خارجها، وإن كان الحنفية كرهوا غير المأثور في الصلاة خشية إدخال ما ليس من كلام الله في الصلاة، ودليل عدم الوجوب نص صريح في الموضوع، ففي حديث التشهد في الصلاة:“ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ”، رواه البخاري ومسلم واللفظ له، وفي مسند أحمد وغيره “ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ أَحَدُكُمْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَلْيَدْعُ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ “.

 

بقي لي أن أشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نكثر الصلاة عليه، فعن أوس بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ”، قَالَ: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ، قَالَ: يَقُولُونَ: بَلِيتَ، قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ ” رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي وغيرهم.

 

هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولوالدينا وقرابتنا ومشايخنا وجميع المسلمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين