أقصى مدة الحمل

وصلني من أحد السائلين عبر الماسنجر، هذا التسجيل المرئي للشيخ الشعراوي رحمه الله، يذكر فيه أقوال أئمة المذاهب في أقصى مدة حمل المرأة، والتي تفاوتت في اجتهاداتهم من سنتين إلى خمس.

وشفَع التسجيلَ مُرسلُه بالسؤال الطويل التالي الذي يقول فيه:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

هذا المقطع أرسله لي أحد الأصدقاء المخلصين، والذي يعيش في كندا منذ سنوات، وهذا المقطع عرضه عليه أحد الزملاء في العمل (تقريبآ من غير المسلمين) ليقول رأيه في هذا المقطع، وصديقي أرسله لأصدقائه المقربين ليأخذ رأيهم في هذا المقطع.

ثم يقول السائل:

وكان هذا ردي عليه:

الله أعلم، ولكن مذكور في القرآن الآية الكريمة (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) لكن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، وفي آية أخرى (ويخلق مالا تعلمون) سبحان الله العظيم.

في رأيي أن هذه المقاطع يروجها أعداء الإسلام أو الجهلة من المسلمين وضعفاء الإيمان ليشككوا المسلمين في دينهم وفي نفس الوقت يبعدوا غير المسلمين من العقلاء في التفكير في دخول الإسلام، ونحن الحمد لله مؤمنين بالله ومؤمنين بكل ماأنزل في كتابه الكريم وكل ماجاء في السنة المطهرة ولاتشغلنا هذه المقاطع ولاتعنينا في شيء.

ثم يقول مرسله:

فما رأي فضليتكم في هذا المقطع؟، وما هو الرد المناسب الذي يقوله صديقي لمن أرسل له هذا المقطع؟، وجزاكم الله خيرآ.

فكتبتُ في جوابه:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

صحيح أن ترويج هذا المقطع ونحوِه، وعلى هذا النحو من الإخراج الذي يقدَّم به، يراد به الطعن في الشريعة وتشكيك المسلمين في دينهم.

ولكن ليس في هذا مطعن بحمد الله تعالى.

لأن هذه المعلومات ليست خبرا عن الوحي في التنزيل الحكيم، وليست رواية عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف.

وإنما هي اجتهاداتُ وظنونُ العلماء في حدود المعطَيات والإمكانات المتاحة في زمانهم، وما كانت تلك الاجتهادات منكورة في ثقافة أهل ذلك الزمان.

والشيخ الشعراوي رحمه الله، نسب الأقوال إلى أصحابها، ولم يقررها من تلقاء نفسه.

فهو فيها آثِرٌ لا ذاكِر.

والدليل على أنها اجتهادات منهم رحمهم الله، اختلافُهم المذكور في أقصى مدة الحمل.

فكلٌّ منهم قال بما وقفه عليه استقراؤُه لأحوال النساء وأخبارهن التي يتداولها الناس عن أطول مدة مكثها جَنينٌ في بطن أمه.

ولو كان في الأمر نص عن أحد الوحيين لما اختلفوا فيه.

وإنما هي غرائب يتناقلها الناس عن أهل الحواضر والبوادي في بلاد الإسلام.

فلانة مكث جنينها في بطنها سنتين، فلما وُلد كانت له أسنان تبدو إذا افترَّ، فأطلقوا عليه الضحاك.

وفلانة مكث جنينها في بطنها أربع سنوات وهُمْ ينتظرون ولادته، فلما وُلد سمَّوه هرِما. يُكَنّون بذلك عن طول مكثه في بطن أمه.

أقول: ولو صحَّ شيء من ذلك على وفق قواعد الصناعة الحديثية في توثيق الأخبار، لما كان مستكثرا على قدرة الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

ولكنها قيل عن قال.

وليس في ثقافتهم الطبية آنذاك، ما يحيل مثل تلك الأخبار طبيا.

ولم يكن لديهم آنذاك أدوات طبية ولا تحاليل تكشف عن وجود الحمل منذ أيامه الأولى، ولا أجهزة تصوير تَعرض الجنين في مختلِف مراحله، على شاشة تراه عليها أمه كما يراه الطبيب أو الطبيبة المتابعة للحمل.

كل الذي كان عندهم من المعطَيات أن المرأة انقطع حيضها ولم تبلغ سنّ اليأس، فهي إذًا حامل بمقتضى العادة والعرف.

وربما كان انقطاع الحيض لعارض مرَضي، وليس لعارض الحمل.

وقد تلاحظ المرأة مع ذلك كبرا في بطنها، فتعزوه إلى الحمل الموهوم، وما هو منه في شيء.

وقد تجد أعراض مغص في البطن لسبب ما، فتحيله إلى الحمل الذي توهمته، ولا حملَ أصلاً.

بل قد تجد حركة في بطنها تجزم بأنها حركة الحمل، وإنما هي حركة في أمعائها، لها عند الأطباء تعليل.

وفي مصطلح الطب اليوم ما يسمى: الحَملَ الكاذب. الذي تُحس فيه المرأة بأعراض الحمل، فإذا لجأت إلى التحليل والتصوير، تَبيّن لها أن تلك الأعراص خادعة، ولا حمل عندها أصلا.

ولئن كان هذا الكشف الطبي متاحا اليوم، يعطي نتائج يقينية عن وجود الحمل أو عدمه، فإنه لم يكن متاحا أيام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، رحمهم الله تعالى.

فبدهي عندئذ أن تظن المرأة نفسها حاملا، وما هي بحامل.

ثم إذا حملت حقيقة، بعد سنة أو أكثر من انقطاع حيضها العارض، وولدت بعد تسعة أشهر من بدء الحمل الحقيقي كالمعتاد، فإنها ستحسِب المدة من أول انقطاع الحيض، وليس من أول العلوق الفعلي.

هذا ظنها، وليس عندها من المعرفة ما يستحيل معه أن يعيش جنين في بطن أمه أكثر من عشرة أشهر كحدٍّ أقصى، كما يقرر الطب اليوم.

فهي في هذا الخطأ في الحساب معذورة، والأئمة العلماء معذورون في هذا الخطأ أيضا، لأن مرجعهم في هذه المسألة أحاديث النساء عن أنفسهن.

ومنتهى علمهم فيها استقراء أحوال النساء، وقد فعلوا.

فلما جاء العلم الطبي الحديث، بأدواته المتطورة باطِّراد... على خلاف قول أبي حنيفة أو الشافعي أو مالك.. في أقصى مدة الحمل، فقد أبطل رأيهم ونقض اجتهادهم، ولم ينقض شيئا من الإسلام بحمد الله تعالى.

وليس هناك أدنى غضاضة في أن يأخذ فقهاء الشريعة اليوم بمعطيات وأحكام علم الطب اليقينية، في تحديد أقصى مدة الحمل، حتى ولو جاءت على خلاف ما قرره جميع أئمة المذاهب المتبوعين رضي الله عنهم، فإنهم عندنا مجتهدون، لا معصومون.

والاجتهاد يستلزم احتمال الخطأ. وإلا فلماذا سمي اجتهادا؟.

وللشافعي رحمه الله تعالى، كلمة نفيسة في هذا المعنى، نقلها عنه الخطيب الشربيني، الفقيه الشافعي، ت ٩٧٧هـ، في تفسير سورة التغابن، من تفسيره: (السراج المنير) حيث قال فيه: وقال الشافعي: صَنَّفتُ هذه الكتب، وما ألَوْتُ فيها جهدا، وإني لأعلمُ أن فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول: (وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَیۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا۟ فِیهِ ٱخۡتِلَـٰفࣰا كَثِیرࣰا)[سورة النساء 82]

قوله: ما ألَوْتُ: أي ما قَصَّرتُ في طلب الصواب.

إن إثبات الخطأ اليوم، في قولٍ اجتهادي طبي للشافعي أو لأحد إخوانه من كبار الأئمة، أمر وارد محتمل غير مستحيل، لأن اجتهادهم ليس وحيا معصوما.

لكن المستحيل اليوم وكل يوم، هو إثبات الخطأ في صريح كتاب الله، أو صحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وهذا الذي يجتهد المرجفون فيه، وبحمد الله لن ينالوه، لأنه من عند الله.

(وَإِنَّهُۥ لَكِتَـٰبٌ عَزِیزࣱ ۝ لَّا یَأۡتِیهِ ٱلۡبَـٰطِلُ مِنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِیلࣱ مِّنۡ حَكِیمٍ حَمِیدࣲ)

[سورة فصلت 41 - 42]

صدق الله العظيم.

وهو سبحانه أعلى وأعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين