عناصر المادة
1- حيَّ على الفلاح2- أطفئوا نار الشّيطان بالتكبير
مقدمة:
يقف المسلم بين يدي ربّه مرارًا وتكرارًا، لكنّه ما إن يكبّر تكبيرة الإحرام حتّى تنهال عليه الأفكار مِن كلّ حدبٍ وصوبٍ، فإن كان تاجرًا حضرت تجارته -إلى حيث يصلّي- بأوراقها ومستنداتها وأرباحها وخسائرها، وإن كان صنائعيًّا حضرت صناعته بأدواتها، وإن كان مزارعًا حضرته الزراعة، وهلمّ جرًّا، فلماذا ننشغل عن صلاتنا وقد علمنا أنّنا نناجي ربًّا عظيمًا قديرًا! خلقنا وخلق كلّ شيءٍ مِن حولنا، يَقُولُ أَبَو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ذُكِرَتِ السَّرِقَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (أَيُّ السَّرِقَةِ تَعُدُّونَ أَقْبَحُ؟)، فَقَالُوا: الرَّجُلُ يَسْرِقُ مِنْ أَخِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَقْبَحَ السَّرِقَةِ الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ)، قَالُوا: كَيْفَ يَسْرِقُ أَحَدُنَا صَلَاتَهُ؟ قَالَ: (لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا وَلَا خُشُوعَهَا). [ 1 ]
فما بال كثيرٍ من المسلمين لا يتورّعون عن السّرقة مِن خشوع صلاتهم.
1- حيَّ على الفلاح
ربط الله بين الفلاح والخشوع فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2].
ومِن هنا نفهم دعوة الأذان للفلاح بعد الدّعوة للصّلاة، إنها دعوةٌ صريحةٌ أن تخشع في صلاتك، وإذا ما خشعتَ فيها أراحتك، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا). [ 2 ]
والصّلاة الخاشعة تنهى عن الفحشاء والمنكر {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
فإذا رأيت مسلمًا يصلي لكنه لا ينتهي عن الفحشاء والمنكر فاعلم أنّ الخلل في صلاته.
والخشوع طريق الأنبياء {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
وطريق نبيّنا وسيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَكَعَ، قَالَ: (اللهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي). [ 3 ]
والخشوع طريق الصّالحين: "كان ابن الزّبير رضي الله عنه إذا قام في الصّلاة كأنّه عودٌ -مِن الخشوع- وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذع حائطٍ، وقال ميمون بن مهران: ما رأيت مسلم بن يسارٍ ملتفتًا في صلاةٍ قطّ، ولقد انهدمت ناحيةٌ مِن المسجد ففزع أهل السّوق لهدّتها، وإنّه لفي المسجد يصلّي فما التفت". [ 4 ]
نحن الّذين إذا دُعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جامًا أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبّروا في مسمع الرّوح الأمين فكبّرا
يقول ابن قدامة المقدسيّ في الخشوع: "واعلم أنّ للصّلاة أركانًا وواجباتٍ وسننًا، وروحها النّيّة والإخلاص والخشوع وحضور القلب، فإنّ الصّلاة تشتمل على أذكارٍ ومناجاةٍ وأفعالٍ، ومع عدم حضور القلب لا يحصل المقصود بالأذكار والمناجاة، لأنّ النّطق إذا لم يُعِرب عمّا في الضّمير كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصل المقصود مِن الأفعال، لأنّه إذا كان المقصود مِن القيام الخدمة، ومِن الرّكوع والسّجود الذّل والتّعظيم، ولم يكن القلب حاضرًا، لم يحصل المقصود، فإنّ الفعل متى خرج عن مقصوده بقي صورةً لا اعتبار بها". [ 5 ]
2- أطفئوا نار الشّيطان بالتكبير
لا تخفى أهمّيّة الخشوع لمسلمٍ، لكن كيف أخشع في صلاتي، دونكم شكاية أحد الصّحابة وحلّها: أَتَى عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاص النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا) قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي. [ 6 ]
وقد ذكر هذا العلاج ربّنا سبحانه؛ فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].
وقال أيضًا: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النّحل: 98].
ومِن التّصدي للشّيطان أن تبدأ بذلك لحظة دخولك المسجد فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ). [ 7 ]
يُشعل الشّيطان عند الصلاة في صدورنا نيران الدّنيا، لكنّ تكبيرة الإحرام وتكبيرات الانتقال تطفئ ناره، يقول ابن القيّم: "عنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا رَأَيْتُمُ الْحَرِيقَ فَكَبِّرُوا فَإِنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفِئُهُ)… وَكِبْرِيَاءَ الرَّبِّ عز وجل تَقْمَعُ الشَّيْطَانَ وَفِعْلَهُ، وَلِهَذَا كَانَ تَكْبِيرُ اللَّهِ جل جلاله لَهُ أَثَرٌ فِي إِطْفَاءِ الْحَرِيقِ، فَإِنَّ كِبْرِيَاءَ اللَّهِ سبحانه لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ، فَإِذَا كَبَّرَ الْمُسْلِمُ رَبَّهُ، أَثَّرَ تَكْبِيرُهُ فِي خُمُودِ النَّارِ وَخُمُودِ الشَّيْطَانِ الَّتِي هِيَ مَادَّتُهُ، فَيُطْفِئُ الْحَرِيقَ، وَقَدْ جَرَّبْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا هَذَا، فَوَجَدْنَاهُ كَذَلِكَ". [ 8 ]
وهذا يرجعنا لعلاقة الأذان بالخشوع مرّةً أخرى، فهو يدعونا إلى الفلاح والخشوع، وهو يطرد الشّيطان الذي يسلبنا الخشوع، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا سَمِعَ الشَّيْطَانُ الْمُنَادِيَ يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، وَلَّى وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ الصَّوْتَ، فَإِذَا فَرَغَ، رَجَعَ فَوَسْوَسَ، فَإِذَا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ، فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ). [ 9 ]
فتأمّل كيف جعل الإسلام بين يدي الصلاة أذانًا وإقامةً، لا يكونان لمجرّد الإعلام بدخول الوقت، بل لأغراضٍ أخرى، منها: أن تعظّم الله في قلبك فتقف بين يديه خاشعًا، ومنها: أن يطرد الوسواس الخنّاس.
خاتِمةٌ:
إنّ ممّا يعيننا على الخشوع: أن ندرك أن ربّنا يسمعنا إذ نصلّي ونحمد، لهذا عند الرفع من الركوع تقول: "سمع الله لمن حمده"، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ، إِلَّا رَدَّ اللهُ عز وجل إِلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ). [ 10 ]
وممّا يعيننا على الخشوع: أن نطلبه مِن ربّنا، فالخشوع رزقٌ، وربّنا الرّزّاق، فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه، قَالَ: لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ، الْقَبْرِ اللهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا). [ 11 ]
1 - شعب الإيمان: 2847
2 - سنن أبي داود: 4985
3 - صحيح مسلم: 771
4 - مختصر منهاج القاصدين: 1/20
5 - مختصر منهاج القاصدين: 1/20
6 - صحيح مسلم: 68
7 - سنن أبي داود: 466
8 - زاد المعاد في هدي خير العباد: 4/ 194
9 - مسند أحمد: 9170
10 - مسند أحمد: 10815
11 - صحيح مسلم: 73
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول