أعلمه الرماية

 

 

عقوقُ الطلاب كعقوق الأبناء، كلاهما شديدٌ على النفس، مؤلمٌ أشد الألم، وفي مثله يصدق قولُ الشاعر:

أعلمُهُ الرمايةَ كلَّ يومٍ =فلما استدَّ[1] ساعدُه رماني 

وكم علمتُهُ نظمَ القوافي =فلما قالَ قافيةً هجاني 

 

وممّا يؤسفُ عليه أنْ يقع هذا من أناسٍ هم أجدرُ الناس بالوفاء ورعاية الحقوق.

ويقع هذا من بعض الطلاب عند الإعجاب بالنفس، والغرور بما حصل، والرغبة بالعلو على من حوله حتى الذين علموه ونهضوا به، ومن هنا قال الشيخ علي الضباع (ت: 1380هـ) مُوصيًا المُتعلم: "ولا يُعجب بنفسه"[2].

 

وقد يتوقفُ المتعلمُ عند شيءٍ من العوارض البشرية التي لا ينفك عنها إنسان، ويكون هذا سببًا لذلك، وقد سدَّ العقلاء هذا الباب:

يقول الشيخ عبدُالله بن منازل النيسابوري (ت: 329هـ): "مَنْ احتجتَ إلى شيءٍ مِنْ علومهِ فلا تنظرْ إلى عيوبهِ، فإنَّ نظرك يحرمُك بركةَ الانتفاعِ بعلمه"[3].

 

وهذه صورٌ من هذا العقوق، ابتلي بها عددٌ من العلماء، أسوقُها للتحذير والتنفير، وللتعزية والتسلية، وهي متنوعة متعددة في الأسباب والبواعث، متباينة في القسوة والشدة، فأقول:

♦ ♦ ♦

 

1- من العلماء الذين ابتُلوا بذلك الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنه (ت: 68هـ).

كان نافع بن الأزرق يؤذيه، وفي ذلك يقول السيوطي:

"ومن المعلوم في كتب الحديث والتاريخ ما قاساه ابنُ عباس مِنْ نافع بن الأزرق، وما أسمَعَهُ من الأذى، وما تعنَّته به من الأسئلة.

وأسئلةُ نافع بن الأزرق لابن عباس مشهورةٌ مرويةٌ لنا با?سناد المتصل، مدونةٌ في ثلاث كراريس، وقد سقتُ غالبَها في "الإتقان"، وقولَ نافع لرفيقه: قمْ بنا إلى هذا الذي نصَبَ نفسه لتفسير القرآن بغير علم حتى نسأله، وردَّ ابن عباس عليه بأبلغ رد"[4].

 

وقال الزهري:

كان أبو سلمة يُماري ابنَ عباس فحُرِمَ بذلك علمًا كثيرًا.

قال ابنُ عبد البر: "روينا مِنْ وجوهٍ كثيرةٍ عن أبي سلمة أنه قال: لو رفقتُ بابن عباس لاستخرجتُ منه علمًا كثيرًا"[5].

♦ ♦ ♦

 

2- ومنهم محمد بن عبدالله النحوي الكوفي المعروف بابن قادم (ت: 251هـ).

جاء في ترجمته: "وكان ابنُ قادم يُعلِّمُ المُعتزَّ قبل الخلافة، فلما ولي الخلافة بعثَ إليه، فجاء الرسولُ وهو في منزلهِ شيخٌ كبيرٌ، فقيل له: أجبْ أمير المؤمنين، فقال: أليس هو ببغداد -يعني المُستعين-؟ فقالوا: لا، قد ولي المعتز. وكان المعتزُّ قد حقد عليه عقيبَ تأديبهِ له، فخشيَ مِنْ بادرته، وقال لعياله: عليكم السلام. وخرجَ ولم يرجع إليهم!"[6].

♦ ♦ ♦

 

3-ومنهم الإمام أبو جعفر الطبري (ت: 310هـ).

قال تلميذُه أبو بكر بن كامل:

"حضرتُ أبا جعفر حين حضرَتْهُ الوفاةُ فسألتُه أن يجعلَ كلَّ مَنْ عاداه في حِلٍّ، -وكنتُ سألتُه ذلك لأجل أبي الحسن بن الحسين الصواف لأني كنتُ قرأتُ عليه القرآن- فقال: كل مَنْ عاداني وتكلَّم فيَّ حِلٌّ إلا رجلاً رماني ببدعة.

 

وكان الصواف مِنْ أصحاب أبي جعفر، وكانتْ فيه سلامة، ولم يكن فيه ضبطٌ دون الفصل، فلما أملى أبو جعفر "ذيل المُذيل" ذكرَ أبا حنيفة وأطراه، وقال: "كان فقيهًا عالمًا ورعًا"، فتكلَّم الصوافُ في ذلك الوقت فيه لأجلِ مدحهِ لأبي حنيفة، وانقطعَ عنه، وبسطَ لسانَه فيه"[7].

♦ ♦ ♦

 

4-ومنهم الإمام أبو إسحاق الزجّاج (ت: 311هـ).

قال حمزة بن حسن الأصبهاني في كتاب "أصبهان" في ترجمة أبي علي حسن بن عبدالله الأصبهاني المعروف بلغدة:

"كان يَحضرُ مجلس أبي إسحاق ويكتبُ عنه، ثم خالفه وقعدَ عنه، وجعلَ ينقضُ عليه ما يُمليه"[8].

♦ ♦ ♦

 

5-ومنهم الأديب محمد بن أحمد الكاتب المعروف بالمُفجع البصري (ت: 327هـ).

قال ياقوت:

"كان شاعرَ البصرة وأديبها، وكان يجلسُ في الجامع بالبصرة فيُكتبُ عنه، ويُقرأ عليه الشعر واللغة والمُصنَّفات، وامتنعَ من الجلوس مدةً لسببٍ لحقه من بعضِ مَنْ حضرَهُ، فخُوطِبَ في ذلك فقال: لو استطعتُ أنْ أنسيَهم أسماءَهم لفعلتُ"[9].

♦ ♦ ♦

 

6-ومنهم الشيخ المُحدِّث الصالح أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن أحمد الزاهد الاصبهاني الصفار (ت:339هـ).

قال السمعاني:

"مِنْ أهل أصبهان، سكن نيسابور، وكان زاهدًا، حسنَ السيرة، ورعًا كثيرَ الخير...

ذكره الحاكم أبو عبد الله في " تاريخ نيسابور" فقال: أبو عبد الله الصفار الأصبهاني، محدِّث عصره بخراسان، كان مجاب الدعوة، لم يرفع بصره إلى السماء - كما بلغنا - نيفًا وأربعين سنة"[10].

 

وقد آذاه ورّاقُهُ أبو العباس المصري أشدَّ أذى، وأذكرُ فيما يأتي كلماتٍ في ترجمته لتعرف القصة:

قال الحاكم:

"أحمد بن محمد بن عيسى ابن الجراح، الحافظ أبو العباس بن النحاس المصري.

كتَبَ في بلده، وبالحجاز، والشام، والعراقين، وخوزستان، وأصبهان، والجبال...

 

أول سماعه في بلده سنة خمس وثلاث مئة كما حدَّثني عن علان وأقرانه، وأقام على عبدالرحمن بن أبي حاتم مدة، وكانتْ سماعاته منه كثيرة إلا أنَّ سماعاته بالعراق والحجاز والشام ذهبتْ عن آخرها.

وحدَّث عندنا سنين إملاء وقراءة.

 

واستوطنَ نيسابور سنة إحدى وعشرين إلى يوم السبت سلخ ذي القعدة من سنة ست وسبعين وثلاث مئة

وأخبرني أنه ابنُ خمس وثمانين سنة".

قلت: وقد حصلتْ له مع الشيخ أبي عبدالله الصفار قصةٌ غريبةٌ، وهي أنه حبس عنه كتبه بغير حق!

 

قال الحاكم:

"وسمعتُ الصفّار يدعو في مسجده وهو رافعٌ باطنَ كفيه إلى السماء وهو يقول:

يا ربِّ إنك تعلمُ أنَّ أبا العباس المصري ظلمني، وخانني، وحبسَ عني أكثرَ مِنْ خمس مئة جزءٍ مِنْ أصولي.

اللهم فلا تنفعه بتلك، وبسائرِ ما جمعهُ من الحديث، ولا تباركْ له فيه.

وكان أبو عبدالله مجابَ الدعوة.

 

وكان السبب في موجدته على أبي العباس المصري وراقهِ أنه قال له: اذهبْ إلى أبي العباس الأصم وقل له: قد حضرتُ معك ومع أبيك قراءةَ كتاب "الجامع" للثوري مجلس أسيد بن عاصم، وقد ذهب كتابي، فإن كان لي في كتابِك سماعٌ بخطي فأخرجه إليَّ حتى أنسخه. فذهب، فقال أبو العباس [الأصم]: السمع والطاعة. وأخرج الكتابَ في أربعة أجزاء بخط يعقوب، وسماع أبي عبد الله فيه بخطه، فدفعه إلى أبي العباس، فأخذه، ووضعه في بيته، ثم جاء إلى أبي عبد الله فقال: إن الأصم رجلٌ طمّاعٌ قد أخرج سماعك بخطك في كتابه، ولم يدفعه إليَّ.

 

قال: لم؟

قال: يقولُ: إني لا أدفعُ هذا السماع إليه حتى يحمل إلي خمسة دنانير. وكان أبو عبدالله قد تراجع أمرُه، ونقصتْ تجارتهُ، فبلغني أنه باعَ شيئًا مِنْ منزله فدفعَ إلى أبي العباس خمسة دنانير، فأخذها، وحملَ الكتابَ إليه.

ثم إنهما جميعًا دعيا[11] على أبي العباس، فاستُجيبتْ دعوتُهما فيه.

 

ثم بعد ذلك كان أبو عبدالله يجامِلُ أبا العباس، ويجهدُ في استرجاع كتبه منه، فلم يقدر عليه... وكان لا يقعدُ ولا يقومُ إلا ويبكي ويدعو على أبي العباس، فإنَّ عيون كتبهِ كانت عنده، ولم يقرأ قط حديثًا واحدًا مِنْ كتبِ الناس.

 

وإنما قَصصتُ هذه القصة ليَعتبر المستفيدُ به، ولا يتهاون بالشيوخ، فإنَّ محل أبي العباس المصري مِنْ هذه الصنعة كانَ أجلَّ محلٍّ، وذَهَبَ علمُهُ، وساءتْ عاقبتُهُ، بدعاء ذلك الشيخ الصالح عليه..."[12].

♦ ♦ ♦

 

7-ومنهم الإمام اللغوي الأديب أبو منصورمحمد بن أحمد بن الأزهري الهروي (ت: 370هـ) صاحب كتاب "تهذيب اللغة".

قال تاج الدين السبكي في ترجمته:

"قيل: وُجِدَ على أصل كتاب "التهذيب" بخط الأزهري:

وإنَّ عناءً أنْ تعلم جاهلًا =ويحسبُ جهلًا أنهُ منكَ أعلمُ 

متى يبلغ البنيانُ يومًا تمامَهُ =إذا كنتَ تبنيهِ وآخرُ يهدمُ[13] 

فكيف بناءٌ خلفه ألفُ هادمٍ=وألفٌ وألفٌ ثم ألفٌ وأعظمُ"[14]. 

 

وكتابته هذه الأبيات الشاكية على ظهر كتابه تشير إلى قصة وقعت له، والله أعلم.

♦ ♦ ♦

 

8- ومن الصور المُؤسفة ما حصل بين الإمام أبي عمرو الداني (ت: 444هـ) وتلميذهِ عبدالله بن سهل الأنصاري الأندلسي المرسي المقرئ (ت: 480هـ).

قال أبو علي بن سُكَرة عن ابنِ سهل:

هو إمامُ وقته في فنِّه. لقيتُه بالمرية، لازمَ أبا عمرو الداني ثمانية عشر عامًا. وارتحلَ، ولقي جماعة.

إلى أن قال: وجرتْ بينه وبين شيخه أبي عمرو الداني عند قدومه من الرحلة منافسةٌ ومقاطعةٌ.

وقد وُصِفَ ابنُ سهل بالصلاح وأثني عليه خيرًا، وسبحان الله[15].

♦ ♦ ♦

 

9-ومنهم الفيلسوف الأديب الشاعر أبو العلاء المَعرِّي (ت: 449هـ).

قال مؤرِّخُ حلب الإمامُ ابنُ العديم في كتابه "التحري في دفع التجري على أبي العلاء المعري":

"قرأت بخط أبي اليسر المعري في ذكره: وكان -رضي الله عنه[16]- يُرمى مِنْ أهل الحسد له بالتعطيل، ويَعملُ تلامذتُهُ وغيرُهُم على لسانهِ الأشعارَ يضمِّنونها أقاويلَ المُلحدة قصدًا لهلاكهِ، وإيثارًا لإتلافِ نفسهِ، فقال -رضي اللهُ عنه-:

حاولَ إهوانيَ قومٌ فما =واجهتُهم إلا بإهواني 

يحرشوني[17] بسعاياتهم =فغيروا نية إخواني 

لو استطاعوا لوشوا بي إلى ال =مريخِ في الشهب وكيوانِ 

 

وقال:

غريتْ بذمّي أمةٌ =وبحمدِ خالقِها غريتُ 

وعبدتُ ربي ما استطع =تُ ومِنْ بريته بريتُ 

وفرتنيَ الجهالُ حا =شدةً عليَّ وما فريتُ 

سعروا عليَّ فلم أح =سّ وعندهم أني هَرِيتُ 

وجميعُ ما فاهوا به =كذبٌ لعمرك حَنْبَريتُ[18]"[19]. 

♦ ♦ ♦

 

10-ومنهم الإمام أبو إسحاق الشيرازي (ت: 476هـ).

"ذكر أبو الحسن محمد بن هلال بن الصابئ في "تاريخه" أن "المدرسة النظامية" بُدئ بعمارتها في ذي الحجة من سنة سبع وخمسين وأربع مئة، وفُتحتْ يوم السبت عاشر ذي القعدة من سنة تسع وخمسين، وكان نظامُ الملك أمرَ أن يكون المدرِّس بها أبا إسحاق الشيرازي، وقرروا معه الحضورَ في هذا اليوم للتدريس، فاجتمع الناسُ ولم يحضر، وطُلِبَ فلم يُوجد، فنفذ إلى أبي نصر ابن الصبّاغ فأحضر ورُتِّبَ بها مدرساً، وظهر الشيخُ أبو إسحاق في مسجده، ولحقَ أصحابَهُ من ذلك ما بانَ عليهم، وفتروا عن حضورِ درسهِ، وراسلوه إنْ لم يُدرِّس بها مضوا إلى ابن الصبّاغ وتركوه، فأجابَ إلى ذلك، وعُزِلَ ابنُ الصباغ، وجلس أبو إسحاق يوم السبت مستهل ذي الحجة فكان مدة تدريس ابن الصبّاغ عشرين يومًا"[20].

 

وهكذا فرضَ الطلابُ على الشيخ ما أرادوا وإنْ كان كارهًا، والسببُ وجود شيء من الدنيا في المدرسة النظامية، وكان للشيخ موقفٌ مِنْ مواد بناء المدرسة جعله يتورع عن قبول المنصب فيها....

♦ ♦ ♦

 

11-ومنهم الفقيه العالم الزاهد الجليل الرباني يوسف بن أيوب الهمذاني (ت: 535هـ).

قال ابنُ خلكان:

"قدم بغداد في سنة خمس عشرة وخمس مئة وحدَّثَ بها، وعقد بها مجلس الوعظ بـ "المدرسة النظامية"، وصادف بها قبولًا عظيمًا من الناس.

 

قال أبو الفضل صافي بن عبد الله الصوفي الشيخ الصالح: حضرتُ مجلس شيخنا يوسف الهمذاني في النظامية، وكان قد اجتمع العالم، فقام فقيهٌ يُعرف بابن السقاء وآذاه وسأله عن مسألةٍ، فقال له الإمامُ يوسف: اجلسْ فإني أجدُ من كلامك رائحة الكفر، ولعلك تموتُ على غير دين الإسلام.

 

قال أبو الفضل: فاتفقَ أنه بعد هذا القول بمدة قدم رسولٌ نصرانيٌّ من ملك الروم إلى الخليفة، فمضى إليه ابنُ السقاء وسأله أن يستصحبه وقال له: يقعُ لي أنْ أترك دين الإسلام وأدخل في دينكم، فقبله النصرانيُّ، وخرج معه إلى القسطنطينية، والتحق بملك الروم، وتنصَّر وماتَ على النصرانية.

 

قال الحافظ أبو عبدالله محمد بن محمود المعروف بابن النجّار البغدادي في "تاريخ بغداد" في ترجمة يوسف الهمذاني المذكور:

سمعتُ أبا الكرم عبدالسلام بن أحمد المقرئ يقول: كان ابن السقاء قارئًا للقرآن الكريم، مجودًا في تلاوته، حدَّثني مَنْ رآه بالقسطنطينية ملقىً على دكة مريضًا، وبيده خلق مروحة يدفع بها الذباب عن وجهه، قال فسألتُه: هل القرآن باق على حفظك؟ فقال: ما أذكر منه إلا آية واحدة ? رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ?[21]، والباقي أنسيته.

 

نعوذ بالله مِنْ سوءِ القضاء، وزوالِ نعمته، وحلولِ نقمته، ونسأله الثباتَ على دين الإسلام، آمين آمين آمين"[22].

♦ ♦ ♦

 

12-ومنهم الفيلسوف يحيى بن حبش السهروردي (ت: 587هـ).

قال القنوجي:

"وذكر نفسُه في آخر كتابه "التلويحات" في وصايا ذكرَها هناك: واتقِ شرَّ مَنْ أحسنتَ إليه من اللئام، ولقد أصابني منهم شدائد.

 

قال شارحُها: أراد به بعضًا مِنْ تلامذته الذين يصاحبون معه[23] في السفر والحضر، وينقلون عنه أشياء مخالفة للشرع، ولعل قتله كان بسبب هؤلاء، نسأل اللهَ العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، وأنْ يجعلنا من أهل الحق والرشاد، وأنْ يعصمنا مِنْ شر أهل الزيغ والفساد، إنه ولي الهداية والإرشاد"[24].

♦ ♦ ♦

 

13-ومنهم الإمام أبو الفرج ابن الجوزي البغدادي (ت: 597هـ).

قال ابن رجب في ترجمة عبد الرحمن بن عيسى ابن أبي الحسن البزوري الواعظ البغدادي (ت: 604هـ):

"قرأ الوعظ، والفقه، والحديث، على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي. وكان خصيصًا به، ثم تهاجرا، وتباينا، إلى أنْ فرَّق الموتُ بينهما.

 

قال سبطُ ابن الجوزي: ثم حدَّثته نفسُهُ بمضاهاة جدي، وكنى نفسَه بكنيته، واجتمع إليه سفسافُ أهل باب البصرة، وانقطعَ عن جدي. ولما جاء مِنْ واسط[25]، ما جاءَ إليه، ولا زارَه.

وتزوجَ صبيّة وهو في عشر السبعين، فاغتسلَ في يومٍ باردٍ، فانتفخ ذكرُهُ، فمات.

وقال القادسي: كان تلميذ شيخنا ابن الجوزي، وصحبه مدة وانتفع به، ووعظ بجامع المنصور.

 

قال: وسمعتُه يقول بعض الأيام على الكرسي: إنَّ الثعبان لم يلدغ أبا بكر الصديق، ولم يصح ذلك، فذكرنا ذلك لشيخنا ابن الجوزي، فقال: إنَّ هذا الحديث قد ذكره اللالكائي، وكان مِنْ سادة أهل الحديث، وإنَّ ابن عيسى قال كلماتٍ كتبها من عندي...

 

قال: وقد صرَّح شيخُنا ابن الجوزي بكذبه لِما بانَ له منه.

قلتُ [القائل ابن رجب]: لا ريبَ في وقوع العداوة بينهما"[26].

♦ ♦ ♦

 

14-ومنهم الإمام الوجيه المبارك ابن الدهان النحوي الضرير (ت: 612هـ).

قال ياقوت:

"كان الوجيه - رحمه الله - حنبليًّا ثم صار حنفيًّا، فلما درس النحو بالنظامية صار شافعيًّا، فقال فيه المؤيدُ أبو البركات محمد بن أبي الفرج التكريتي ثم البغدادي -وكان أحد تلامذته-، وسمعتُهُ مِنْ لفظه غير مرة:

ألا مبلغٌ عني الوجيهَ رسالة =وإنْ كان لا تجدي إليه الرسائلُ 

تمذهبتَ للنعمان بعد ابن حنبلٍ =وذلك لما أعوزتك المآكلُ 

وما اخترتَ دينَ الشافعي تدينًا =ولكنما تهوى الذي هو حاصلُ 

وعمّا قليلٍ أنتَ لا شك صائرٌ =إلى "مالك" فافطنْ لما أنا قائلُ"[27]. 

 

ونقل السيوطي هذا ثم قال بأسف:

"قلتُ: هكذا تكون التلامذة، يتخرجون بأشياخهم ثم يهجونهم! لا قوة إلا بالله"[28].

♦ ♦ ♦

 

15- ومنهم الإمام علَمُ الدين السخاوي (ت:643هـ).

قال الإمام أبو شامة المقدسي في ترجمة المنتجب بن أبي العز بن رشيد الهمذاني المقرئ النحوي (ت: 643هـ):

"انتفع بشيخنا علَم ِالدين [السخاوي] في معرفة قصيدة الشاطبي، ثم تعاطى شرح القصيدة، فخاضَ، ثم عجز عن سباحته، وجحد حقَّ تعليم شيخنا له وإفادته. والله يعفو عنا وعنه".

 

وقد استدرك الذهبيُّ على أبي شامة في تقويم كتابه "شرح القصيدة" فقال: "بل هو شرحٌ كبيرٌ، جمُّ الفوائد، واضح".

لكنه أيَّد أبا شامة في قوله الآخر فقال: "آذى السخاويَّ في شرح أولِ بيتٍ من "الشاطبية" بعبارةٍ نكدةٍ"[29].

 

وقال أبو شامة عن شيخه علم الدين السخاوي: "وماتَ وهو عني راضٍ"[30]. وتسجيلُه هذا في الترجمة يُبيِّنُ سروره واغتباطه واحتفاله بذلك.

♦ ♦ ♦

 

16-ومنهم العلامة قطب الدين الحلبي (ت: 735هـ).

وقد آذاه تلميذُهُ الحافظ علاء الدين مغلطاي –رحمهما الله- إذ قال في مقدمة "شرحه للبخاري":

"وأما القطعة التي شرَحَها شيخُنا أبو محمد المنبجي -يعني القطبَ الحلبي- وإنْ كان معظم فوائدها عن المتأخرين مبترة، وأكثر ألفاظهم فيها متكررة غير محررة، فهي بكتاب الأطراف أشبه منها بالشرح".

 

قال الحافظُ ابنُ حجر:

"كذا قال، وقد قال الكرماني عن "شرح مغلطاي" ما نصُّه: "وأما الذي ألَّفه العالمُ المشهورُ بمغلطاي التركي المِصري، فهو بكتب تتميم الأطراف أشبه، وبصحف تصحيح التعليقات أمثل، وكأنه مِنْ إخلائه جلَّ مقصود الكتاب على ضمان، ومِنْ شرحِ ألفاظهِ وتوضيحِ معانيهِ على أمان".

 

قال ابنُ حجر:

"فعُوقِبَ مغلطاي على إساءتهِ على شيخه"[31].

♦ ♦ ♦

 

17-ومنهم الإمام جلال الدين السيوطي (ت: 911هـ).

وقد كان سوء أدب الطلبة معه سببًا لاعتزاله، وألَّف في ذلك مقامته الحزينة "التنفيس في الاعتذار عن ترك الإفتاء والتدريس" وقال فيها:

"أمّا التدريس فأخذ عني ثلاث طبقات:

طبقة أولى: كانت خيرًا صرفًا، دينًا وفضلًا وصدقًا وعـزمًـا، فحيـّاها الله وبيـّاهـا، وأسبغَ علـيهـا رحمته ممـاتَهـا ومحياها، وأمطرَ علينا سحائبَ فضله وإيّاها.

 

طبقة ثانية: تعرفُ وتنكرُ، وتذمُّ وتشكرُ، وهذه يُحملُ أمرُها، ويروجُ سعرُها، ويخفف إصْرُها.

ثم جاءت طبقة ثالثة: الله أكبر ما أكثرَ شرَّها، وأكبرَ حرَّها، وأشدَّ إِصرَها، وأنكرَ أمرَها، وأعظمَ إِمْرَها، وأقوى فجورها، وأوفى كذبها وبهتانَها وزورَها، عظيمة السفه والجهل، ليستْ للعلمِ ولا للحلمِ بأهل..."[32].

♦ ♦ ♦

 

18-ومنهم العلامة عبد الله بن حسين السويدي البغدادي (ت:????هـ) صاحب "مؤتمر النجف".

وقد سجَّل في كتابه "النفحة المسكية في الرحلة المكية" ألمَه من رجلين أقرأهما العلم، وتعبَ في تعليمهما بحيث كان أحرصَ عليهما أكثر من أولاده، وأفرغَ لهما النصيحة في قالب الرفق والشفقة حتى مهرا في غالب الفنون.

 

قال: "فاتخذاني عدوًّا، ولم أسلمْ مِنْ لسانهما إلى أنْ أخذا يتكلمان بالزور والبهتان، وينسباني إلى أمورٍ مفتراةٍ، وسعيا في تنقيصي وإضراري...".

وقد ختم كلامه عليهما بقوله: "فوضتُ أمرهما إلى الله تعالى، عاملهما اللهُ بما يليقُ بهما"[33].

♦ ♦ ♦

 

19-ومنهم الإمام محمد مرتضى الزَّبيدي (ت: 1205هـ).

قال الشيخ عبدُالحي الكتاني في ترجمته:

"قال عنه أبو الربيع الحوات في "السر الظاهر": الإمام الحافظ النسابة العارف أبو الفيض محمد مرتضى بن محمد الحسيني اليمني، وهو حيٌّ لهذا العصر، ملأ البسيطةَ بعلومه ومعارفه، أمتع اللهُ به.

 

وقال عنه محدِّثُ الشام الوجيه عبدالرحمن الكزبري في ثبته: إمام المسندين، وخاتمة المحدثين.

وقال عنه عالمُ مصر الشمس محمد بن عليّ الشنواني الأزهري في ثبته: شيخ الإسلام، علامة الأنام، ناشر لواء السُّنة المحمدية، وواصل الأسانيد النبوية، أبو الجود وأبو الفيض. (باختصار).

 

وقال عنه عالمُ مكة المكرمة عمر بن عبد الرسول المكي: شيخ الحفاظ في وقته، ومرجع أهل الأثر، مَنْ كثر الأخذ عنه، حتى ارتحل إليه من كل فج عميق، وجيء إليه من كل مكان سحيق. اهـ مِنْ إجازةٍ له ذكرت في "عقد اليواقيت"، وقال في إجازة له أخرى: أشهر علماء الحديث ورواته، وحامل لوائه وروايته، المسند الكبير العالم الشهير.

وقد ترجمَهُ ترجمةً طنانةً تلميذُه الجبرتي في "تاريخه" لكنه ما سلم مِنْ حسدهِ"[34].

♦ ♦ ♦

 

20-ومنهم العلامة الشيخ محمود شكري الآلوسي (ت:????هـ).

قال تلميذُه الشيخ محمد بهجة الأثري:

"وكان في آخر أمره لا يجتبي تلميذًا ما لم يعجم عوده، ويثق من أدبه وذكائه، لأنه رأى مِنْ بعض الأذناب الذين خرَّجهم وجعلهم بفضله في الذؤابة ما لم يكنْ ليأمله مِنْ ضروب الإساآت، وسوء المنقلب، والعياذ بالله:

ووضعُ الندى في موضعِ السيف بالعلى ♦♦♦ مضرٌّ كوضعِ السيف في موضعِ الندى

 

ولمّا حاولتُ الاتصالَ به والأخذَ عنه كلّفني نسخ كتاب "نقض أساس التقديس" للإمام شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية -رحمه الله-، وكان قد استكتبَ منه نحو مجلدين كبيرين وجدهما في الشام وغيرها، وإنما أراد بذلك اختبارَ مقدرتي وفهمي، والتحقيقَ من الخارج عني، حتى إذا ما وثقَ مني أمرني بحضور الدرس، وبذلَ مِنْ العناية بتعليمى وتدريبي ما أنا عن شكرهِ ووفائهِ عاجزٌ"[35].

♦ ♦ ♦

 

21-ومنهم العالم الشيخ عارف القلطقجي الدمشقي (ت: 1380هـ).

جاء في ترجمته: "كان عالمًا بالغة العربية، مطلعًا في العلوم الإسلامية والموسيقية، يحفظ القرآن الكريم مجودًا متقنًا، ويحفظ كذلك كثيرًا من المقطوعات والقصائد القديمة والحديثة...

وقال عنه الشيخ علي الطنطاوي: كان في ذكائهِ ودقةِ حسهِ، وسرعةِ جوابهِ، وقوةِ بديهتهِ، وارتجالهِ الشعر مِنْ نوادر الزمان...

 

نظمَ الشعرَ في مختلفِ المناسبات والأغراض، ومنه قولُه في الشكوى:

حفظتُ كتابَ الله حفظًا مجودًا =وأُولعتُ بالتفسيرِ مذْ كنتُ أمردا 

طلبتُ من الآلاتِ كلَّ وسيلةٍ =لفهمِ معانيهِ جُعِلتُ له فدا 

وأقرأتُ آلافًا رجالًا ونسوةً =فلم يشتكوا مني لسانًا ولا يدا 

وما قلتُ يومًا لامرئٍ ما يَسوءُهُ =لئلا يَمَلَّ الدرسَ أو يتمردا 

رُزِقتُ بتوفيقِ الإلهِ وعونهِ =أساليبَ للتعليم تُدني المُبعدا 

وأخلصتُ في نُصحي لهم جهدَ طاقتي =ولكنَّ حظي منهمُ كانَ أسودا 

فكَمْ مِنْ فتى إنْ مرَّ بيْ لا يُحيّنِي =وكَمْ كنتُ ألقاهُ ببشرٍ إذا بدا 

ولستُ أُبالي أنْ تُضيَّعَ عندَهُ =فعالي فكلٌّ واجدٌ فعلَهُ غدا 

تركتُ لهمْ دُنياهمُ قانِعًا بما =تيسَّرَ منها لا أُريدُ تزوُّدا 

ولما رأيتُ النّاسَ قد صارَ بعضُهم =لبعضٍ عدوًا عشتُ في النّاس مُفردا"[36]. 

♦ ♦ ♦

 

22-ومنهم العالم الزاهد العابد الشيخ موسى بن حسين الموسى (ت: 1383هـ).

كان مِنْ صفاته أنَّ أيَّ جالسٍ إليه يحسب نفسَه أنه أعلمُ منه لما فيه من هضمِ النفس، والبُعدِ عن الدعوى، وطلبِ الشهرة.

ومِنْ أبرز صفاته أنه ما كان يحمل حقدًا على أحد مطلقًا فيأتيه الرجل ويقول له: إنَّ فلانًا قال فيك كذا وكذا، فكان يجيبُ على الفور: إني أحبُّ فلانًا، فيسكت ذلك الناقل.

 

وربما قال بعضُ الطلبة: أنا أعلمُ من الشيخ. فتُحْمل تلك الكلمة إليه فيقول: نعم واللهِ إنَّ فلانًا ذكي، ويُثني عليه بمناقب طيّبة تشجيعًا له.

 

[1]قال ابنُ هشام الأنصاري في "تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد" ص (46): "واستدَّ -بالسين المهملة- من السداد، ومَنْ أعجمها فقد صحَّف".

[2] فتح الكريم المنّان في آداب حملة القرآن ص (42).

[3] طبق

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين