أعجز الناس

حالة التشرذم الراهنة التي تعيشها الحركات الإسلامية لا تقرها أدبياتها، خاصة أنها تأسست وانطلقت من القرآن الكريم والسنة النبوية، الداعيين للوحدة الذامين للفرقة، ومن جهة أخرى فتحديات الواقع المعاصر تملي على الحركات الإسلامية الوحدة أكثر من أي وقت مضى في مواجهة تكتلات الغرب وأحلافه التي كشرت عن أنيابها.

وحين يتحاكم أبناء هذه الحركات إلى أدبايتهم التي تربوا عليها ويقارنونها بما آل إليه واقعهم ماذا يستشعرون؟ بالتناقض أحيانا، وربما بالانفصام حينا آخر، إذ من العجب العجاب أن تكون مدرسة فكرية عريقة قاعدتها الأصيلة" نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه"(1)، ثم يكون حسم الخلاف داخل صفها بالعسف والفصل والوقف تارة، والتشهير والتجريح والتخوين تارة أخرى؟!

إن عواقب هذا الانفصال بين القيم التربوية والواقع العملي وخيمة خاصة على فئة الشباب، فسرعان ما يفقدون الثقة في القيادة، أو يصابون باللامبالاة، وتتفشى فيهم ظواهر كالتطرف، أو الإلحاد، أو التسرب من الدعوة.

إن حالة التشرذم الراهنة والانتصار للنفس السائد خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين، لاسيما وقد اجتمعت علينا الدنيا لترمينا بقوس واحدة في كل قطر، وما كنا نسمع عنه من مؤامرات ومخططات مستقبلية لأعداء الإسلام بات اليوم حقائق حاضرة نراها رأي العين، وما كنا نطالعه بين طيات الكتب صار واقعا ملموسا على الأرض، وقوافل الشهداء على أعواد المشانق شاهدة على ظلم الطغاة الظالمين، وعجز الثقات المتناحرين، هل يتسنى لنا مواجهة تلك التحديات الكبرى وقد أزكمت النفوس بالإحن، وأصيبت العقول بآفة الجمود، ووهن الجسد.

ولتتخيل معي الحالة الشعورية لفرد ظُلم من أخية الأقرب إليه من ابن أمه وأبيه، وقد كانا بالأمس القريب يترنمان سويا بقول الشاعر:

أخي أنا أنت فمن منهل=سقينا الحيــــاة ومن مشرع

أخي أنا أنت فأمآلنا=والآمنا فضن من منبع ؟!(2)

واليوم صار أحدهم يتمثل بقول طرفة بن العبد:

فَلَوْ كَانَ مَوْلايَ إِمْرَأً هُوَ غَيْـرَهُ=لَفَـرَّجَ كَرْبِي أَوْ لأَنْظَرَنِي غَـدِي

ولَكِـنَّ مَوْلايَ اِمْرُؤٌ هُوَ خَانِقِـي=عَلَى الشُّكْرِ والتَّسْآلِ أَوْ أَنَا مُفْتَـدِ

وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً=عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ(3)

ألم يترسخ فينا على أيدي مربينا الأفاضل المثل القائل "إذا عَزَّ أخوك فَهُنْ" كلما بدر خلاف أو أثرة، وأصل هذا المثل - فيما زعَمُوا - أنَّ الهذيل بن هبيرة أغارَ على أُناسٍ من ضبة، فغنم منهم ما غنم ثم انصَرَف، فخاف أن يُدرِكه الطلب من ضبة، فأسرع مع جنده في السَّيْرِ، فطلَب منه أصحابُه أن يقسم بينهم غنيمتهم، فقال: إني أخاف أن تشغلكم القسمة، فيُدرِككم الطلب فتهلكوا، فلمَّا رآهم أعادوا عليه ذلك مِرارًا، قال: إذا عزَّ أخوك فهن، فأرسَلَها مثلاً، وخضَع لمطالبتهم له بالقسم، وقسم بينهم غنيمتهم." (4)

وهذا سارق يرجو النجاة بما غصب ففعل ما فعل خشية على شركاء جريمته، فما بالنا بمطلوب دمه، ودينه، وأمته؟! ما بالنا بمن هم أمناء على شريعته، وحملة لوائها، والمسئولون عن أبناء الدعوة المباركة؟! ألسنا أولى بذلك من هذا المغير!؟

لقد جرى في مياه العلاقات بين الحركات الإسلامية ما عكر صفوها، وتجاوز هذه الخلافات ليس بالأمر الهين بداهة، لكنه ليس مستحيلا، فقد تناسى الأوربيون مجازر الحربين العالمتين الأولى والثانية، ودفنوا مع عشرات الملايين من القتلى أحقادهم، ثم أسسوا اتحادهم الأوربي، ولا يجدر بنا في هذا العالم الذي يتقارب فيه المتباعدون ليحققوا أهدافهم المشتركة أن نتباعد نحن أكثر فأكثر! ولا أن نجتر خلافتنا التي باعدت بيننا، لنشق بها الصف ونمزق بها الشمل! وننبش عن أمور ليست ذات بال لنعمق الخلاف، ونعيدها جذعا! هذه هي الحال التي سماها القرآن الكريم فتنة عظيمة ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٍۚ إِلَّا تَفۡعَلُوهُ تَكُن فِتۡنَةٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَفَسَادٞ كَبِيرٞ ﴾[الأنفال:73]

نعم الكفار وأشياعهم من المنافقين، والظلمة، والمفسدين بعضهم أولياء بعض، يتناصرون على كافة الأصعدة، معسكرا واحدا، كيانا واحدا، سيمفونية متناغمة تتردد أصداؤها المرعبة في كل صقع عربي، وأبرز مثال على ذلك الثورة المضادة التي نشبت مخالبها في بلاد الربيع العربي، لقد تمالأ أصغر موظف فاسد قابع بقرية أو حي صغير مع أكابر المجرمين من رؤساء دول إقليمية وعالمية ومؤسسات دولية وأجهزة مخابراتية لوأد هذا الربيع في مهده، وليس في الأمر ما يثير دهشتى إطلاقا فقد قال الله عز وجل ﴿ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ بَعۡضُهُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمُنكَرِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَقۡبِضُونَ أَيۡدِيَهُمۡۚ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡۚ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ﴾[التوبة:67]

لكن المثير للدهشة والاشمئزاز حقا هو خطب المصلحين اليوم وقد انحسرت فيهم معاني الولاء والبراء، والنصرة والتناصح وسلامة الصدر، فهل ثمت شيئ من أركان الإيمان لا يزال حيا في النفوس يقول رب العزة ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ﴾[التوبة:71] وتلك هي الفتنة، مفسدون متحدون، ومصلحون متفرقون.

وعلام نذهب بعيدا وكتاب ربنا بين أيدينا يقطع بالاستبدال إن لم نكن لبعض أذلاء، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾[المائدة:54]

فلا غلبة إذا ولا تمكين ما لم نكن أذلة على المؤمنين، وإن خوطب بهذه القاعدة (قاعدة الاستبدال) الرعيل الأول، الجيل الفريد، جيل الصحابة رضى الله عنهم، أفتكون الحركات الإسلامية اليوم بمنأى عن ذلك ؟!

لنكن صرحاء يا قادتنا العظام، ماذا بقى في أيدينا سياسيا، واجتماعيا، واقتصاديا، ودعويا؟ فالعجز كل العجز حين نفرط في أخوتنا، تلكم الثروة الحقيقية التي لا تقدر بثمن، قَالَ الإمام علي رضى الله عنه:" أَعْجَزُ اَلنَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اِكْتِسَابِ اَلْإِخْوَانِ وَ أَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ"(5)

اللهم لا تجعلنا من أعجز الناس.

اللهم املأ قلوبنا بحبك، وألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، ووحد صفنا، واجمع شملنا، واسلُل سخائمَ صدورنا.

(1) مجلة المنار محمد رشيد رضا المجلد15 جـ11 صــ833عام 1330هــ 1912م

(2) قصيدة أخي للشاعر محمد محمد التاجي كتاب أجمل مئة قصيدة في الشعر الإسلامي ج4 ص237

(3) ديوان طرفة بن العبد ص: 27

(4) أمثال العرب ط الهلال (ص: 94)

(5) شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد (ص: 5078)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين