أطايب الكلم في بيان قانون صلة الرحم


إذا قَطَعَ العبدُ رَحِمَه؛ لئلا تََنْقُصَ دراهمه، أو يضيعَ وقته وَدهره، قَطَعَ اللهُ عُمُرَه، وَبَتَرَهُ وأَفْقَرَه؛ ذلك أنَّهُ مُفسِدٌ في الأرضِ، مَلعُونٌ مِنَ الربِّ، أَصَمَّ اللهُ أُذُنَه، فَلا ينتَفِعُ بِعِظَة، وأَعمى بَصَره، فَلا يهتدِي بِبَصيرة، خَبيثُ الطَوِيَّةِ والسَّريرَةِ، أمَّا مَن وَصَل رَحِمَه؛ فقد كَثَّرَ اللهُ مالَه، وأَصلَح بَالَهُ وَحَالَهُ، وزَاد فِي أجله، فَصِلَةُ الأرحامِ؛ سبيلُ الوُدِّ والوِئَام، وَمعبَرُ الجَنَّةِ بِسَلام، فَتُبْ مِنَ القطيعةِ على عَجَل، قبل أن تُدرِكَكَ المنيَّةُ، ويُبَاغِتُكَ الأَجَل !

 

أمران هامان

أولًا: من هم الأرحام الذين تجب صلتهم، وتقع المَأْثَمَةُ بِقَطْعِهِم؟!

إن الأرحامَ دوائر، تبدأ الدائرة الأولى بالأم، وتنتهي الأخيرة بِعُموم المسلمين !

والصلة الواجبة فيها: صِلَةُ الآباء والأمهات، والأجداد والجَدَّات، والأبناء والبنات، والإخوة والأخوات، وأبناء الأخ، وأبناء الأخت، والأعمام والعَمَّات، والأخوال والخالات ! فهذه صِلاتٌ واجبة، يُثَاب فَاعِلُهَا، ويَأْثَمُ تاركِهُا !

أما المستحبة: فإنها لأبناء الأعمام والعَمَّات، وأبناء الأخوال والخالات، ذكورًا وإناثًا، وكذا أعمام الوالدين وأخوالهما، فهذه صِلاتٌ مستحبة، يُؤجَرُ فَاعِلُهَا، ولا يُعَاقَبُ تَارِكُهَا ! والله أعلم.

وفي بيان الأولوية والأفضلية؛ أهداك النووي فائدة نفيسة بهية فقال:

إنَّ الصِّلَةَ الواجبةَ مَنازِلُ وَرُتَبٌ، فَتُقَدِّمَ الأم ثم الأب ثم الأولاد، ثم الأجداد والجَدَّات، ثم الإخوة والأخوات، ثم سائر المحارم من ذوي الأرحام؛ كالأعمام والعَمَّات، والأخوال والخالات، ويقدم الأقْرَب فالأقرب. شرح صحيح مسلم (16/13).

 

أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا؛ فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا "، أو قال: ذِمَّةً وصِهْراً " صحيح مسلم (7/190).

 

رسالة الحديث بلسان الشنقيطي:

أَفَادَ لفظُ الحديث النفيس أن النَّسَبَ والصِّهْرَ دائرتان من دَوائر الرَّحِم وإن بَعُدَا؛ ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا أن نَستَوصِيَ بِأَهلِ مِصْرَ خَيرًا؛ إذ إنَّ هاجر أم إسماعيل وأم العرب، ومارية أم إبراهيم وأم المؤمنين كانتا منهم، فإذا وَصَّاكَ نَبِيُّكَ صلى الله عليه وسلم بِرَحِمٍ قائمٍ في نَسَبٍ وَصِهر مع تَبَاعُد الأزمان والبُلدان، فَكَيفَ تَكون وَصيته لِرَحمك القريب كالآباء والإخوة والأعمَام؟! الشنقيطي / شرح زاد المستقنع (6/24)، مع تصرف وزيادة.

 

ثانيًا: صِلَةُ الرَّحِم التي نقصد:

إن مفاد صلة الرحم، أن تُحْسِنَ إليهم، وتُخَفِّفَ عنهُم، وباللهِ تُذَكِّرَهُم ! وللصِّلَةِ حَدَّان؛ أعلى وأدنى:

أما حَدُّها الأعلى: فيكونُ بالزيارة والهدية، وتَفَقُّدِ الحَال، فإن كانوا مُعْسِرين مَدَّهُم بالمال، وَخَصَّهُم بالزكاةِ الوَاجِبَةِ، والصدقة المستحبة، وشاركَهم في الأفراح والأتراح، ما لم تُشَب بإثمٍ وَعصيان ! وَتَوجيههم وإرشادِهِم، والعمل على هدايتهم !

وقد تجب الصِّلة بالمَال؛ كالإنفاق على الوالدين، أو كَأن تَضِيقَ الأرضُ بأحد أرحامك، ولم يَبْقَ له في الدنيا إلا إحسانُكَ، فَيَستَوجِب عليك صِلَتَه؛ وحَلَّ مُشكِلَتِه ! فهذا لازمٌ فَرض، حتَّى لو كان عَطَاؤُكَ له على سبيلِ القَرض !

وإذا رُزِقت من النوافل ثـروة       فامنح عشيرتك الأدانـي فَضْلَهَـا

واعلم بأنـك لم تُسَـوَّدْ فيهـم       حتى تُرَى دَمِثَ الخلائق سهلها

الأبشيهي / المستطرف (2/27)

أما الحد الأدنى: كَرَدِّ السلام عليهم، والاتصال بهم، والتَلَطُّفِ مَعَهُم، وَغَرْسِ المعروف فيهم، وإنكارِ مُنكَرِهِم، والصَّفْحِ عن زَلاتِهِم، فَضلًا عن كَفِّ الأذَى عَنهُم ! وهذا الحد الأدنى، وهو حَدُّ التعامل مع كل مسلم !

فَصِلَةُ الأرْحَام فيِ الإسْلام

 تبدأُ بِالهَدِيَّةِ، وتَنْتَهِي بِالهِدَايَةِ !

 

صلة الرحم سبيل المال والذرية:

قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]

 

إنَّ الله بحكمته جَعلَ صِلَةَ الرَّحِم وسيلةً لنيلِ الرِّزقِ، وسببًا في دفع الفقر والضِيق، ألا ترى أنَّ زَكَريَّا لما تَكَفَّل مريم تَكَفَّلَهُ الله وَمَريم، حتى أَتتهَا فَاكِهَةُ المَصِيفِ في الشتاء، وفاكهة الشتاء في المَصيف؟!؛ فضلًا من عند الله وَكَرمًا، وإن الله يرزقُ من يشاءُ بغير حساب !

بل إنَّ وَاصِلَ أرحامه ساعٍ في إنفاذ أمانيه وأحلامه، وزيادة أمواله، فضلًا عن هُدوءِ بَالِه، وَصَفاء حَالِه، ونفع نفسه، وسُكُون قَلْبِه، وَصَلاح أَمره، وَزيادة عُمُرِه، ألا تلحظ أن زكريا لمَّا كَفِلَ مريم، وعاين رزق الله حَالًّا عليها في غيرِ وَقتِهِ، أنَّه دَعا ربه أن يَهَبَهُ من لَدَنْهُ ذُرِّيَّةً طَيِّبَة، فاستجابَ الله دُعَاه، وأعطاهُ مَا تَمنَّاه، {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39]؟!

فَصِلَةُ الرَّحِم آلت لِمَالٍ، وذريةٍ، وَمَن تَأَمَّلَ هَذِه الآية كَفَتْهُ عمَّا سِوَاهَا !

 

كان عليُّ بنُ الحُسَين نَاصِحًا أَمِينًا لِوَلَدِه، قال لَهُ يَومًا:

يَا بُنَيَّ لا تَصْحَبَنَّ قاَطِعَ رَحِم؛ فَإنِّي وَجَدُّتُهُ مَلعُونًا فِي كِتَابِ اللهِ في مَواطنَ ثَلاثَة!

 

صلة الرحم.. مدٌّ في الآجال، وزيادةٌ في الأموال:

أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ رِزْقُهُ، أَو يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " صحيح البخاري، رقم الحديث: (2067)، (1/451)، صحيح مسلم، رقم الحديث: (6687)، (8/8).

وفي رواية أحمد في مسنده " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُعَظِّمَ اللَّهُ رِزْقَهُ، وَأَنْ يَمُدَّ فِي أَجَلِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " مسند أحمد، رقم الحديث: (12588)، (20/43).

إذا أراد العبدُ مَدًا في عُمُرِه، وكَثرةً فِي مالِه، فَلْيَصِل رَحِمَه ! ففيها طَاعَةُ الربِّ، وَمسعَدَةُ العبدِ، ولذا؛ ألفيت عُمر بن دينار يقول: تَعْلَمُنَّ أنه ما من خُطوة بعد الفريضة أعظم أجرًا من خطوة إلى ذي رَحِم !

 

ذكر النابلسي خبرًا طيبًا فقال:

حدثني أحدُ إخواني أنه زار قريبًا له في العيد لأول مرة، مُقْسِمًا بالله تعالى أنه ما أراد من زيارته إلا أن يَصِلَ رَحِمَه؛ إنفاذًا لسنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم !

قال الرجل: فَذَهبتُ وسألت عن بيته، فَطَرقْتُ بابَهُ فَلَم أَجِدْهُ، فَوَضعتُ له بطاقةً أُعَرِّفه بِهَا عن نفسي، فلما عاد قَريبي وَقَرأ الرسالة، أتاني إلى بيتي زائرًا، وهو على مستوى رفيع من الخُلُقِ والمَال، فلما رأى بيتي من الرَّداءة بمكان، تَحت الأرض، ولا تصل الشمسُ إليه، وفيهِ رُطُوبَةٌ عاليةٌ، قَالَ لي: اشترِ بيتًا بميدانِ المَدينةِ الشمالي، بِحُدود مليون ليرة، فَلَمَّا بَحثنا وَجَدنا بيتًا فخمًا بالميدان، في الطابق الثالث، تجاه القبلة، تَصِلُهُ الشمس، بسعر قدره [2 مليون ونصف ليرة]، فقال قريبي: خُذْهُ ولا بأس عليك! [محمد راتب النابلسي / محاضرة بعنوان: صلة الرحم].

ألا تلحظ أخي القارئ أن فَارِسَ القصة لم يَخطُرْ بِبَالِهِ أبدًا أن تَنْقُلَهُ صِلَةُ الرَّحِم من بيتٍ رَديءٍ بِبَطن الأرض، لِبَيتٍ فَخْمٍ في مكان مَرمُوقٍ في الطابق الثَّالِث؟! لكنَّها سُنَّة الله في صِلَة الأرحام !

 

قال الشيخ محمد بن محمد الشنقيطي:

إنَّك إن اصطحبت وَلدَك فِي صلة رَحِمَك؛ كأن تَزور عمك وخالك؛ فَاغْبَرَّت قَدَمُه، إلا كان لك أَجرُه،

 ولن يُحافِظ ولدك من بعد موتك على صلة رحمه، إلا أُجِرتَ كَأجْرِه! [الشنقيطي / شرح زاد المستقنع (6/24)].


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين