أضرَّنا حبُّ هارون!

يُروى أنَّ الخليفة العباسي المثمَّن* -المعتصم بالله- لم يَدرس في الكُتّاب كأخويه الأمين والمأمون..

وفي كِبره كان يُلْحن في الكلام، وله سقطٌ في الحديث، وهذا ما يُعاب على العرب عموماً، وذوي الهيئات على وجه الخصوص، وكان يرد اللوم على أبيه هارون الرشيد؛ فيقول: "أضر بنا حبُّ هارون!".

ففي أحد الأيام سأله هارون الرشيد عن صاحبٍ له، يُرافقه إلى الكُتّاب، فقال المعتصم:

مات واستراح من الكُتّاب!

فقال هارون: وبلغ بك بُغض الكُتّاب هذا المبلغ؟!

اجلس، والله يا بني لا تذهب بعد اليوم إلى الكُتّاب، وأشفق عليه أسعفه ووافقه في مراده، وتركه يلعب ويلهو..

فكانت النتيجة: لحنٌ في الخطاب، وسقطٌ في الحديث، وضعفٌ في الكتابة، رغم ما فيه من هيبةٍ وعلوّ همَّةٍ وشجاعةٍ.

أخي المربّي:

كثيرٌ من المنع عطاءٌ، ولكنكم تستعجلون الرّحمة بدافع المحبّة والإشفاق، فتهدمون بُنيان أطفالكم، وتنقضون غزلكم، وتُميتون زرعكم!

إذا أردت أن يكون لأولادك شأنٌ؛ فلا يضرك أن تشدّ عليهم في الصِغر، أو أن تُلزمهم بما ينفعهم في الكِبر، وإن هاجت عواصف المشاعر في قلبك، واحذر أن تأخذك المحبة إلى مهالك ابنك.

صوته المبحوح ودمعاته المخنوقة -إثر ذهابه لدروس العلم أو مجالس القرآن- ستتلاشى آلامها مع أوّل تكريمٍ له.

إنَّ حِرمان الشهوات وعدم الخضوع لرغبات الصّغار بدواعي المحبة خيرٌ لهم في دينهم ودنياهم،

فأنت المسؤول عن بِناء شخصيتهم في سنواتهم الأولى، وتذكّر وصية المصطفى  فيهم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» «وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»(1).

إياكم أن تضروا أولادكم بمبالغة حبكم لهم؛ فتتركوهم وما يشتهون، فلا معرفة لهم بعواقب الأمور،

ومَن يكُ راحماً فليقسُ أحياناً على مَن يرحمُ

وذاك الفعل ينساق على بقية أفعال الخير التي فيها صلاح الولد كدُربة على الالتزام بالصَّلاة وبقية العبادات والطاعات وتمكين الأخلاق الفاضلة في شخصيته ليكون مؤثراً فاعلاً بين أقرانه مُصلحاً في مجتمعه.

نعم إخوتي كثيراً ما تظهر لنا الرحمة بلباس القسوة، وحقيقةً أستغرب من مسألةٍ:

كيف لعاقلٍ (مُربٍّ) أن يطيع أحمق! (طفلٌ غير ناضجٍ لم يعرف الخير من الشر، والنافع من الضَّار).

وفي الختام:

سأل ابنه بعد أن أخذ إجازة القرآن:

هل سامحتني يا ولدي على ما ظننتَ أنه قسوةٌ عليك؟

فلم تكن كحال أصدقائك، الذين يلهون بعد مدرستهم، فآخذك إلى معهد القرآن.

لهم في ساعات النَّهار متّسعٌ من الوقت لمزيدٍ من الألعاب، وقد شغلَتك آيات الرحمن عنهم.

فقاطَعه بأدبٍ قائلاً: نِعم الشّاغل هو يا أبتي، ونِعم الوالد أنت،

جزاك الله خيراً مِن أبٍ رحيمٍ، ووالدٍ حكيمٍ،

لا أجد أفضل مِن بِرّك ثناءً على صنيعك في الدنيا،

وأن أكسوك وأمي في الآخرة حُلّتين، لا تقوم لهما الدنيا وما فيها.

هانت والله -يا والدي- كل ليالي الشتاء الباردة في لحظة أن أكرمني الله وخصّني بحِفظ كلامه في صدري، وذاك فضله -بعد الله- لكم يا خير المربّين

لا تحزن عليهم، ولا تأخذك شفقة الأب العطوف عندما تذهب بهم إلى المدرسة في الصباح، ودموعهم على الخدين الحمراوين تجري،

واعلم أنّهم على خيرٍ ما داموا يسلكون طريق العلم، وينهلون من معينه، فقد قال الله تعالى في مُحكم تنزيله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

فأبشر بهدية المصطفى لهم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ، أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»(2).

أخي المربّي:

إنَّ صناعة مستقبل الأبناء بين يدي والدهم، فاتّقِ الله فيهم، واصبر صابر على ما استأمنك الله عليه.

*المثمَّن:

ثامن ولد العباس، وثامن الخلفاء من ذريته، وفتح ثمان فتوحات عسكرية،

أقام في الخلافة ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية أيامٍ

وُلد سنة ثمانين ومائة في شعبان وهو الشهر الثامن من السنة، وتوفي وله من العمر ثمانيةٌ وأربعون سنةً، و خلَّف ثمانية بنين وثمان بنات.

دخل بغداد من الشام في مُستهلّ رمضان، سنة ثمان عشرة ومائتين، بعد استكمال ثمانية أشهر من السنة، بعد موت أخيه المأمون.

1 صحيح البخاري، (2409).

2 مسند الإمام أحمد، (21715).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين