أصولُ الحديث على المذهب الحنفي

قالوا: قد أخذنا منك الحديث وأصوله بسطا وتفصيلا، ممهِّدا لنا المسائل والقواعد وميسِّرا لها تيسيرا، ومناقِشًا اختلافات الأئمة الأثبات والحفاظ المتقنين وآراءهم في التصحيح والتضعيف والجرح والتعديل، ومقارِنًا بين التزامات المتقدمين وتعهداتهم في منهجية متسمة بالاستقامة والانضباط والسداد، وبين تسيبات المتأخرين وانفلاتاتهم في فوضوية ممزوجة بالحيف والاضطراب والاختلال، فنشكرك على ما أسديت إلينا من نصح وبذلت لنا من معروف، داعين لك بأحسن جزاء من ربنا وأوفاه.

قلت: لِنحمدْ مولانا الذي أنعم علينا بعلم من لدنه وفهم من دون استحقاق منا ولنسأله المزيد في تقوى ورشاد وحسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة وفوز بجنات النعيم، وهو الرزاق المنان.

قالوا: قرع أسماعنا حدوث نظرة جديدة في الصناعة تدعى أصول الحديث على المذهب الحنفي، ووددنا لو قرَّبتَها لنا تقريبا.

قلت: بئسما سألتموني، صحبتموني هذه المدة الطويلة، ولم تدركوا موقفي من هذه البَلْبَلات التي تثور كرياح أو أعاصير، ثم سرعان ما تنطفئ وتخمد خمودا، أوَ لا تشُمُّون من هذه المستحدثات رائحة الطائفية البغيضة والعصبية المنتنة؟ أوَ لا تلمُسون جورَها عن مهيع العلم والمعرفة، وطغيانها على سنن الحق والصواب؟

قالوا: تطرق إلى هذا الموضوع علماء أحناف.

قلت: قد تخطفُ المستحدثاتُ من الأقوال والمستغرباتُ من الآراء الانتباهَ فيُفتتن بها عوام الناس، ثم يتعدى الداء إلى الخواص دون أن يفطنوا لما وراءها من تشويه للظواهر والمفاهيم، وإفساد للعقول والأفكار، وإلغاء للمقاييس والموازين.

قالوا: قد اكتسبنا منك الأفكار الصائبة والآراء السديدة في العلوم والفنون والآداب، فأوقِفْنا على المولَّدات الزائغات فنكون منها على توقٍّ واحتراس. قلت: إن الدعوة إلى صياغة أصول الحديث ودراستها على المذهب الحنفي تَشِي بجهل بمعنى الحديث والفقه والأصول.

قالوا: بيِّن لنا هذا الجهل رافعا عنه ستار التعمية والغموض.

قلت: سأفعل، فاعقلوا عني القضيتين التاليتين مستوعبين لهما استيعابا:

الأولى: أن الحديث والفقه موضوعان مختلفان، فالحديث خبر وتأريخ، والفقه فلسفة ورأي، وللحديث معاييره للتوثق منه والتثبت فيه، وللفقه موازينه للتوصل إلى إصابته وسلامته من الخطأ والزلل، ولقد زاغ مَن خلط بينهما ولبّس تلبيسا، وسبق أن كتبتُ مقالا عن الفرق بين الحديث والفلسفة، فراجعوه منعمي النظر فيه مدققين.

الثانية: أن لكل علم وصناعة أصولا وضوابط مختصة بذلك العلم وبتلك الصناعة، مستقلة عن سائر الانتماءات والاتجاهات، ومتحررة عن المذاهب والأذواق، ومن السخيف المزري بأولي الأبصار والنهى أن يدرسَ النحوُ على مذهب الأطباء، وعلم الطب على مذهب النحاة، والرياضيات على مذهب الفقهاء، والفقه على مذهب الرياضيين، وهلم جرا.

قالوا: قد وعينا ما قلتَ مدركين همَك إدراكا، فزدنا بيانا.

قلت: اعلموا أن صحة الحديث تعتمد أمرين: الأول أن يتناقله الثقات عصرا بعد عصر وجيلا إثر جيل، والثاني أن الثقات إذا اختلفوا فيه إسنادا أو متنا، نقصانا أو زيادة رجحنا حديث بعضهم على بعض حسب تفاوتهم في الإتقان أو العدد، ويسمى المرجوح شاذا، وقد يسمى منكرا، فإذا اختلف مالك وابن عيينة في حديث عن الزهري، رجحنا حديث مالك لقوته في الرواية عن الزهري، ولكن إذا تابع ابنَ عيينة أصحابُ الزهري الثقات من أمثال عقيل ويونس ومعمر وشعيب، رجَّحنا حينئذ العزيز على الغريب.

قلت: هذا هو المقياس المتبع في توثيق الأخبار لدى المحدثين والمؤرخين من المسلمين وغيرهم، لا اختلاف بينهم في ذلك، وقد ورد عن أئمة المذهب الحنفي ما يؤكد خضوعهم لهذا المقياس، فقد روى سفيان الثوري أن أبا حنيفة كان يأخذ بما صح عنده من الأحاديث التي يحملها الثقات (الانتقاء لابن عبد البر ص 262)، وقال أبو يوسف القاضي: "عليك من الحديث بما تعرفه العامة، وإياك والشاذ منه" (الرد على سير الأوزاعي ص 24).

قالوا: فأمط لنا الستار عن خطأ المؤلفين في أصول الحديث على المذهب الحنفي.

قلت: أخطأوا في الأمرين جميعا.

قالوا: ماذا تعني بالأمرين؟

قلت: تصحيح الحديث، والترجيح عند الاختلاف.

قالوا: دُلَّنا على وجه خطئهم في الأمرين.

قلت: أما الأمر الأول فإنهم ظنوا أن الحديث الصحيح في المذهب الحنفي تختلف شروطه عن طريقة المحدثين، فمثلا يرى المحدثون الإرسال قادحا في الصحة، بينما لا يره الحنفية قادحا. وقلت: هذا الرأي ليس منشؤه اختلاف المذاهب الفقهية، وإنما مرده إلى أن أهل الحديث والخبر يبذلون جهدهم في التوثق من اتصال السند، فإن السند إذا كان منقطعا لم يُعلم الساقطُ أعَدْلٌ هو أم غير عدل؟ موصوف بالضبط والإتقان أم راكن إلى الغفلة والتساهل والسهو والنسيان، والإرسال انقطاع، فرد أكثرهم الحديث المرسل، وذهب بعضهم إلى أن المرسل عنه إذا كان صحابيا معروفا فإنه غير قادح، وقد يعبرون عن ذلك بإرسال كبار التابعين ممن عرف من عادتهم أنهم لا يرسلون إلا إذا بلغهم الخبر من وجوه تفيد العلم، واتبع ذلك كبار الأئمة في المدينة والكوفة في القرون المشهود لها بالخير، قال الجصاص الرازي: "وأيضًا من علمنا من حاله أنه يرسل الحديث عمن لا يوثق بروايته ولا يجوز حمل العلم عنه فهو غير مقبول المراسيل عندنا، وإنما الكلام منا فيمن لا يرسل إلا عن الثقات الأثبات عنده" (الفصول في الأصول" 3/155). وهذا رأي وجيه، والأوجه منه أن نبالغ في التوثق من الاتصال في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فليست الرواية عنه كالرواية عن غيره، وهو رأي الإمامين محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج ومن حذا حذوهما من أهل هذا الشأن، أنزل الله عليهم شآبيب رحمته ورضي عنهم وأرضاهم.

وأما الأمر الثاني فإنهم ظنوا أن اختلاف الثقات بعضهم عن بعض لا يؤثر في أحاديثهم جميعا صحة وضعفا، أي أن الشذوذ ليس علة عندهم، وقد يقبلون الشاذ، ويردون المحفوظ.

قالوا: وهل لهم أدلة في هذا القبول والرد؟

قلت: نعم، يردون الصحيح إذا خالف القرآن أو السنة المتواترة أو المشهورة أو القواعد الكلية المعلومة في الدين أو الإجماع أو موجبات أحكام العقول؟ ويقبلون المرجوح إذا تأيد بشيء من الأدلة المذكورة متعاضدا به.

قالوا: ألم تقتنع بما ذهبوا إليه واختاروا؟

قلت: لا، قالوا: ولم؟

قلت: إنه ليس من أصول الحديث في شيء، وسأوفيه شرحا وإيضاحًا في مقالي عن أصول الفقه إن شاء الله تعالى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين