أصوات الملبّين

ترى أي أثر عميق تركه في الإنسان أصوات الملبّين أيام الحج؟ أي إحساس جميل شفاف، بالوجد والشوق، والرهبة والخشوع، والخوف والرجاء، والحزن والإشفاق، والأمل العارم المتدفق، يمكن للمرء أن يستشعره، وأن يجوب أفياءه وأمداءه، وهو واحد من بين تلك الجموع المزدحمة، جاءت تطلب المغفرة والرضوان وهي تردد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك؟

لعل هذه التلبية هي أعظم أنشودة حية دفاقة تأسر قلوب المؤمنين، ولعلها أجمل أغرودة عذبة حبيبة تمتلك عليهم جميع نفوسهم وكل مشاعرهم:

لبيك نجوى البائسينَ جوانحاً تتحرَّقُ

لبيك رَجْوى المذنبين ببابِ عفوك حلّقوا

لبيك أفئدةٌ ترفُّ وفي رحابك تخفقُ

لبيك أشواقَ الظِّماءِ مواكباً تتدفقُ

لبيك إيماناً شذاهُ مثانياً تتألقُ

لبيك أنفاسُ الحجيج بسرِّ نَفْحِكَ تعبقُ

لبيك توحيداً لذاتِكَ بالهدى يترقرقُ

لبيك عهدَ عقيدةٍ هي للنضالِ الموثقُ

وهي تلبية حارة حارة، ممزوجة بأرواح أصحابها الذين تحملوا الصعاب، وقطعوا المفاوز، وغادروا الديار، وتركوا الأهل والولد والمال، يحدوهم رجاءٌ سخيّ، وأملٌ واثق، ويقينٌ مكين أنهم سوف يعودون من رحلتهم وقد ظفروا بالفوز والمثوبة، والعفو والرضوان:

لبيك يا مَنْ لا شريكَ له يُرامُ ويُقْصَدُ

لبيك أَشْرِقْ بالرضاءِ عسى يطيبُ الموردُ

لبيك هذا يومُ نَفْحِكَ أَنْعُماً تتجددُ

لبيك ضاقَتْ بالعبادِ السُبْلُ حينَ تبددوا

لبيك مزَّقَهمْ هوانٌ عاصفٌ متمرِّدُ

وَفَدوا بِذُلِّ الحائرين جراحُهُمْ لا تُضْمَدُ

هَبْهُمْ لعفوِكَ ليس غيرُك واهباً يُسْتَرْفَدُ

إنهم عطاش ولكنْ لسقيا الرحمة، إنهم ظماء ولكنْ لغيث المغفرة، لقد قدموا من كل مكان ليكونوا ضيوفاً على الرحمن في هذه الأيام المباركات:

يا ربِّ شُعْثاً أتهموا، يا ربِّ غُبْراً أنجدوا

وبطاحُ مكةَ في الصباحِ وفي المساءِ تغرِّدُ

زانَ المشارفَ في حماكَ تبتّلٌ وتعبُّدُ

وتماوجت عرفاتُ شعشعها الجلالُ المُفْرَدُ

وسمَتْ إليك بها المشاعرُ عَزْفُهن توجُّدُ

هنّ الضراعةُ والضراعةُ أعينٌ تتسهّدُ

هنّ الحنينُ لظىً يجيشُ وباللظى يتصعّدُ

وأيّاً كانت الذكريات، فذكريات الإنسان عن الحج أجملها وأروعها وأبقاها، كيف لا والتلبية تتكرر كل عام فتتغلغل ريّاها العذبة، وأقباسها الطاهرة، وأغاريدها الحبيبة، وأنسامها العاطرة، في عقله وقلبه وأعصابه، فإذا به أكثر صدقاً وخشوعاً، وإذا بإيمانه يزداد ويرسخ.

 فإنْ كان بين الحجيج فما أسعده!. وما أكرم ما فاز به!.. وإن كان بعيداً عنهم حمله الشوق على جناح الذكرى والخيال، فإذا بروحه هناك في تلك المواطن الغاليات، تلبي وتلبي، وتطلب الهداية والمغفرة، ونصراً عزيزاً تعلو به راية الإسلام ويندحر البغاة والطغاة:

لبيك أعظمُ مشهدٍ في الكونِ هذا المشهدُ

الذكرياتُ الغالياتُ ومجدُها المتفرِّدُ

أَعْلى منائرَ هَدْيِها فجرُ النبوّة أحمدُ

يا ربّ عَوْداً للهدايةِ زادُها لا يَنْفَدُ

يا ربّ روحاً عالياً في الحقِّ لا يترددُ

يا ربّ نصراً أنتَ فيه على البغاةِ مؤيِّدُ

*****

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين