أصحاب الأخدود... عبر ودروس -3-


راهب في الطريق



مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين

(فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر فبعث إليه غلاماً يعلمه)
وهنا عدد من الأسئلة:
- لماذا يحرص الساحر على توريث من يحمل السحر بعده؟
- ولماذا يريده غلاماً؟
- ولماذا انتظر حتى كبر؟
- وما الداعي أن يقول للملك: إني قد كبرت؟
- وكيف سيتم اختيار هذا الغلام؟


لما كان الشيطان هو الذي يوجه الساحر؛ فإنه يريد أن تستمر دولة الكفر والصد عن سبيل الله، ثم إن الإنسان إذا خذله الله وأحاطت به خطاياه لم يكتف بأن يكون فاسداً حتى يكون مفسداً، وحتى تكون له سيئة جارية.
أما لماذا انتظر حتى كبر، فإنه لو طلب الموضوع مبكراً فإنه يخشى أن ينافسه أو يزيحه عن مكانه ومكانته.
ثم ما الداعي أن يقول للملك إني قد كبرت، سيما والأمر ليس بالخفي على الملك ولا على غيره؟ إنه فيما يبدو استباق لما يتوقع أن يطلبه منه الملك فيكون له عنده سابقة، تحول دون عقوبته على التقصير، وتنفعه حين يعجز عن العمل وخدمة الملك.
وقد أراده غلاماً لأنه أطوع وأسهل في التشكل، وأقل مشاغل فهو متفرغ للتعلم، وهذا يفيد أيضاً في أن يظل الغلام أطول فترة في خدمة النظام الحاكم.


وفي رواية الترمذي: ( انْظُروا لي غلامًا فَهِمًا - أو قال: فَطِنًا - لَقِنًا، فأُعَلِّمه علمي)، وهذا مطلوب ليكون تلميذاً نجيباً، وليكون ساحراً متميزاً يتقن خداع الجماهير.
(فبعث إليه غلاماً): لم يخبرنا الحديث كيف تم اختيار الغلام ومن هم أهله، لكن واقع هذه الأنظمة أن كل ما في الدولة وكل من فيها هو في الحقيقة للملك، وتحت تصرفه، لا يملك غلام أن يمتنع ولا يستطيع أهله أن يرفضوا أو حتى يجادلوا، حتى لو أخذوهم وأولادهم إلى الموت المحقق، فكيف والغلام قد أُخذ ليكون ساحر الملك حيث العز والسعادة؟.


الغلام بين الساحروالراهب

( وكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه):أي كان في طريق الغلام أذا أوغل فيها راهب، وهنا تثور مجموعة من الأسئلة:
- أين يسكن الساحر؟
- لماذا ترهبن الراهب، وما الذي جعله يدعو الغلام؟ 
- ما دلالة فقعد إليه؟.
- ما دلالة فأعجبه؟. 
- وما دلالة (كلامه)؟


من الواضح أن الساحر يسكن في مكان بعيد عن المجتمع، ما يتناسب من جهة مع غموض أعماله وسريتها، فالمهام غير النظيفة التي يقوم بها السحرة تطبخ في الظلام بعيداً عن العيون والأنظار، وليس أخطر عليها وعلى أصحابها من النور، ثم إن الساحر بقربه من الملك لا يضيره أن يكون بعيداً عن التجمعات السكانية، ولا يلزمه أن يقيم حتى في تجمعات النخبة والكبراء؛ فكل ما يحتاجه هو وأهل بيته يصلهم مضاعفاً إن لزم الأمر.
ماذا يعني الراهب؟ ولماذا ترهبن؟
الراهب عابد ينعزل عن الحياة ليتعبد بعيداً عن الناس، ومن الجدير بالذكر أن الراهب هنا موحد وليس على التثليث، ويذكر الشراح أنه كان على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو احتمال، ولا يبعد أن يكون من بني إسرائيل، بعد موسى عليه الصلاة والسلام، أو من المؤمنين قبلهم، إلا إذا فهمنا أن آية ( ورهبانية ابتدعوها) على معنى أنه لم يترهبن أحد قبل النصارى، وعلى العموم فلا يترتب على تحديدهم كبير فائدة، وقد خلت القصة من أي محددات زمانية أو مكانية أو تعريف بالأشخاص لتتمحض للعبرة.
أما لماذا ينعزل؟ فمن الواضح أن ذلك لم يكن اختياراً بل كان اضطراراً بسبب ملاحقة النظام لدعوة التوحيد وأتباعها واضطهادهم، حيث إن الأنظمة الفرعونية المتجبرة يمكن أن تسكت عن محاربة المتدينين المنعزلين الذين لا يمارسون الدعوة، ولا يمارسون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يسعون لتغيير الواقع، بل ربما شجعت مثل هذا التدين، وقد رأينا كيف أن قريشاً لم تحارب النبي عليه السلام لما كان يتعبد قبل الوحي في غار حراء.


والسؤال المطروح هل كان إرهاب الدولة وعدوانها على الدين وأهله قد أوصل الراهب إلى درجة من الخوف واليأس، ليتخذ قراراً بالانعزال الدائم والنجاة بنفسه، لكن استفزه ما رآه من محاولة لإفساد طهارة الغلام وبراءته، والحرص على استمرار الكفر والزيف والصد عن سبيل الله، فبادر إلى دعوة الغلام؟ أم تراه كان يتخفى برهبانيته كيلا يصطدم بالنظام ويتحين الفرصة كي يدعو بسرية ويربي على مهل، حتى إذا لقي الغلام وجد فيه بغيته، ومن يدري فلعله دعا غير واحد قبله لكن كان الغلام هو الأبرز؟ ليس سهلاً الترجيح، لكن ما سنراه من حكمة الراهب وإخلاصه وحسن تربيته للغلام يجعل النفس تميل للرأي الثاني، سيما واختيار الراهب صومعته في طريق الناس، بين المدينة "وقلعة" الساحر، حيث يمكن أن يمر العامة والخاصة، يوحي بأنه لم يكن يقصد العزلة التامة بل كان ينتظر ليتخير، ولو كان قصد مجرد العزلة والهرب بدينه لابتعد عن طريق الناس. 


إن هذا الراهب ذو شخصية أليفة محببة؛ إذ سرعان ما قعد إليه الغلام، وذاك شرط أساس للدعاة، أنهم يألفون ويؤلفون، وهم يحبون الناس وبالتالي يحبهم الناس، وسيأتي في القصة ما يؤكد شدة التصاق الغلام بالراهب، وثقته به ورجوعه إليه في أموره ومشاكله وكل ما يستجدّ عنده.
( فسمع كلامه فأعجبه): إن عبارة (كلامه) تشير إلى أن للراهب كلاماً آخر مختلفاً عما يسمعه الغلام من الساحر، وعما يعايشه في محيطه الاجتماعي ... (كلامه): إنه الكلام المقابل لكلام الساحر، إذ المفترض أن الساحر يهيء الغلام لمواجهة الدين الحق الذي سيظهر أن الراهب ينتمي إليه، ( فأعجبه) أي أدهشه فيه جدته وغرابته وحسنه، فأين كل الدعوات والأديان مهما بولغ في تزيينها وتزييفها، من دعوة التوحيد ودين الحق؟! إنه سرعان ما يؤدي عرض الدين إلى حالة من الانبهار والاندهاش والإعجاب الذي لا يملك سامعه إلا الإيمان والاستسلام.
 ولذلك فقد رأينا موقف الوليد بن المغيرة حين سمع القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومثله ما أخبرنا القرآن عن نفر من الجن الذين استمعوه: ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً)، ولذلك فإن الفراعنة يحرصون على ألا يُسمع لكلام الحق، فإذا بهم يتواصون: ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)، حتى إن أحد الشعراء وضع في أذنيه الكرسف كيلا يتأثر بعد تحذير قريش له، وقد اشتكى نوح قومه بأنهم، وحتى لا يتأثروا بكلامه: ( وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا)، فهم لم يكتفوا بإغلاق آذانهم كيلا يسمعوا الحق بل إنهم غطوا وجوههم بهدف تيئيسه من دعوتهم. وكيلا يتأثروا بمرأى الداعية حيث صدق الملامح وصفاء الوجه ونور الإيمان في وجهه مع لهجة الصدق الحاملة لكلمة الحق والخير والعدل، ولذلك عمدت الدولة الحديثة إلى إبعاد الدعاة عن مواطن التأثير في التعليم والوعظ والإعلام، ويكفي في ذلك منع المحجبات من الظهور على الشاشات، والتواجد في المدارس والجامعات، فضلاً عن تشويه صورة الدعاة بالشائعات حتى يبتعد عنهم الناس، لكن تتفاوت الأنظمة في ذلك لاعتبارات شتى.



 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين